الأغنية هي روح الشعب وهي التعبير الصادق عن أحلامه وتطلعاته الي مستقبل أفضل، إلي عالم مشرق مضيء بكل ماهو جميل ورائع وصادق. والمؤلف الناجح هو الذي يستلهم كل هذه المعاني ثم يعبر عنها التعبير الفني الخالي من الابتذال والسطحية. ذلك لأن فن الأغنية هو أكثر الفنون التصاقا بالجماهير وتأثيرا فيها ومن هنا كانت خطورة الأغنية وضرورة الاهتمام بها لتستطيع أن تقوم بدورها البناء في خدمة المجمع. والأغنية بما لها من شعبية تستطيع أن تفعل الكثير وما من أحد ينكر الدور الرائع الذي لعبته الأغنية ابان العدوان الثلاثي علي بورسعيد. فقد كانت سلاحا لا ينكر أثره في تعبئة الشعور القومي حتي كتب لشعبنا النصر ومازال نداء »الله أكبر« يتردد علي الألسنة وفي القلوب لأنه ارتبط ارتباطا وثيقا بكيان شعبنا وتاريخه. هذه حقائق لاشك فيها، وهناك حقيقة أخري- نأسف لها كل الأسف- وهي أن الأغنية المصرية اليوم تعاني من الابتذال والاسفاف. ونظرة واحدة لرصيدنا الضخم من الأغاني تجعلنا نعود أكثر ايمانا بهذه الحقيقة وتؤكد لنا إلي أي مدي انحدرت الأغنية حتي انفصلت عن قيم المجتمع وأهدافه. فلو نظرنا مثلا للأغنية العاطفية -ونحن شعب عاطفي بطبيعته الفطرية- لما وجدنا سوي معاني اليأس والذلة والهوان وحديث الهجر والصد والحرمان وآهات اللوعة والفراق وكأن الحب- هذه العاطفة النبيلة- قد خلا من كل قيمة انسانية وأصبح صراعا بين الرجل والمرأة يتفنن فيه كل منهما في تعذيب الآخر واذلاله. هذا هو الحب في أغانينا صراع ويأس وظلام واهمال لكل المعاني الرفيعة التي تكمن خلف خفقة الحب. والأمثلة كثيرة لا حصر لها ولا يتسع لهذا المقام هنا لسردها أو لمجرد الاستشهاد. ان المرأة عند مؤلفينا لغز غامض حير الرجل وأربكه وجعله هوه في محيط بلا شطآن. ولاشك أن هذا الصراع ينعكس علي تصرفاتنا فنمارس عاطفة الحب كما صورها لنا مؤلفونا الكرام بطريقة شاذة ثم تكون النتيجة المحتومة هي الضياع والحسرة ثم البآء علي شبابنا الضائع اللا أخلاقي الذي يكمن للفتيات علي أبواب المدارس ويتحلل من رجولته. و و إلخ.. والسبب الحقيقي يرجع لهذا الابتذال في كلمات أغانينا وهذا الابتذال والتهتك في طريقة أدائها. هذا بالنسبة للأغنية العاطفية وان كان هذا لاينفي بالقطع محاولات جادة صورت عاطفة الحب تصويرا صادقا ولكنها مازالت حتي الآن محاولات فردية لايقاس عليها. أما بالنسبة للأغنية الوطنية فالحال »من بعضه« ومازلنا في مرحلة الحماسة التي تصل لحد الخطابة والتعبير المباشر والذي هو أبعد الأشياء عن طبيعة الفن. مازالت كلمات الأٌغنية الوطنية عندنا تعني ترديدا لكلمات مثل »الاشتراكية« و»الثورة« و»الكفاح« دون وعي واضح لمدلول هذه الألفاظ ويحضرني هنا مثال استشهد به هو أغنية »مرسي جميل عزيز« وهو من مؤلفينا الكبار. ان »مرسي جميل عزيز« يري أن جزاء خائن المسئولية هو ان نسير وراءه لنهلل »يا عديم الاشتراكية. ياخائن المسئولية« ثم »نطبل ونزمر« ولعله لايدرك أن شعبنا قد تعدي مرحلة »الزمر والطبل« منذ سحق الأحزاب تحت قدميه وهو في طريقه للتقدم والرخاء. وقضية »فلسطين« لم تستطع الأغنية حتي الآن أن تعبر عنها التعبير الملائم وان تمهد النفوس للصراع الهائل الذي لابد ان يحدث بيننا وبين اسرائيل عن قريب. ان قضية »فلسطين« هي مأساة كل عربي وكل مسلم فماذا فعلت الأغنية الوطنية لهذه القضية؟ لاشيء أكثر من الحماسة والكلمات الرنانة الخالية من معني الفن. والآن نتساءل- ماهو العلاج؟ بعد أن قمنا بتشخيص العلة التي تعاني منها الأغنية المصرية. لكي نعالج لابد من معرفة سبب العلة وباختفاء السبب تختفي العلة ويتم العلاج. وأسباب أزمة الأغنية المصرية ترجع -في اعتقادي- لسببين رئيسيين ثم عدة أسباب فرعية أما السبب الرئيسي الأول فهم المؤلفون أنفسهم لأن معظمهم يعتقدون أن مسألة تأليف أغنية مسألة سهلة بسيطة لاتحتاج لأكثر من رص الكلمات في جمل متساوية بلغة ركيكة خالية من المعني أو مليئة بالابتذال ويظنون بذلك انهم »بلغوا المراد من رب العباد« وأنه »ليس في الامكان ابدع مما كان«. وهؤلاء المؤلفون بكل أسف يمثلون الغالبية العظمي حتي أن المؤلف المبدع يختفي اسمه تحت هذا الركام الهائل من طابور المؤلفين الذين اخذوها هكذا »بالدراع« وطلعوا فيها. هذا من ناحية المؤلفين الذين لايقدرون دورهم القيادي في قافلة المجتمع والذي تمثل الأغنية ركنا هاما من اركان تكوينه العقلي والفكري. أما السبب الثاني فهو عدم وجود نقاد للأغنية في صحفنا ومجلاتنا علي قدر اتساعها وبالتالي عدم وجود ثقافة شعبية بالنسبة للأغنية تستطيع عن طريقها تمييز الفاسد من الصالح وسبب ذلك يعود للنقاد أنفسهم اذ انهم ينظرون للأغنية نظرة ازدراء وتعال و هي نظرة خاطئة تدل علي قصور وعينا وادراكنا لحقيقة الأمور. صحيح أن مناقشة الأعمال الأدبية من الشعر والمسرحية والرواية ينبغي ان يتفرغ لها النقاد المتخصصون ولكن ينبغي أيضا أن نعلم ان الأغنية- كما قلنا- هي أكثر الفنون التصاقا بالجماهير وتأثيرا فيها. وإهمالها بهذه الطريقة هو بمثابة دعوة صريحة للاسفاف والسطحية والابتذال. أما الأسباب الفرعية فكثيرة يرجع معظمها لطبيعة العلاقات في الوسط الفني بين المؤلفين والملحنين وبين المؤلفين والمطربين وبين الملحنين والمطربين مما يجعل المؤلف دائما خاضعا لمزاج الملحن أو ذوق المطرب أو المطربة حتي أن تأليف الأغنية أصبح عملية اشبه بتفصيل الفستان لابد أن يناسب مزاج المطربة وسنها وتسريحة شعرها وهناك سبب اخر هو طغيان الأسماء اللامعة واستئثارها بالمجال وحدها وحرمان الأغنية من مجال الشباب المثقف الجاد وهي مشكلة نعاني منها في جميع القطاعات ولكنها في قطاع الاغنية اظهر ما تكون. هذه هي الأسباب الحقيقية لأزمة الاغنية المصرية وهي تتفاقم يوما بعد يوم وكأنها تسير في خط معاكس او مضاد لطريق شعبنا الثائر المتقدم دائما علي الطريق، وهي حالة تحتاج منا لأن نحاول بكل ما فينا من جهد ان نمنع اسباب هذا الانهيار.