" تبسم حيا في عيون سبلهن قبول وسابني نعول وناسي غلا طال شرحا يطول " رأيته في آخر أيامه ، زار نجعنا مدعواً لحفل زفاف أحد ابناء العمومة ، وكان، كما العادة، في منتهي الشياكة والأناقة بالطول الفارع النحيف والوجه الأسمر الحليق والجلابية العربي البيضاء والطاقية البيضاء والحذاء الأبيض اللامع ، وصعد علي مسرح بكل شموخ، وألقي قصيدة للترحيب بالمطرب البدوي الشهير عوض المالكي الذي أحيا الحفل . أيامها كان شيخاً جليلاً في الستينيات من العمر ، وكان يعتبر أهم شعراء الرماح وعرب شمال الصعيد عموماً، والوحيد بينهم الذي اعترف به الإعلام الرسمي وألقي قصائده في احتفالات شعبية ورسمية بثتها الإذاعة المصرية ، وكان الرئيس السادات شخصياً يستدعيه بالاسم اثناء منافسته القذافي علي القبائل المصرية في السبعينيات ، كما أنه الوحيد الذي يكتب الشعر من أجل الشعر، وليس من أجل العطاء كعادة الشعراء البدو . وهو من شعراء البيت أو قل اللقطة أو الفكرة الواحدة ، وأهم وأشهر قصائده كتبها في نفسه وتجاربه في الحياة، ولو لضمتها في بعضها تعطيك وصفا يكاد يلخص مسيرته في الحياة ، وهو لذلك يشبه كثيرا صديقي الشاعر الراحل أسامة الدناصوري ، فكلاهما كان شعره تأريخا لحياته ، وكلاهما شاعر الفكرة الوجودية الواحدة ، صحيح أن شاعرنا كان يضطر لكتابة المطولات في المناسبات والمديح ومنها قصيدتيه في مدح ورثاء الرئيس السادات ، إلا أنه كان لا يتألق ويجلجل صوته ويتمايل طرباً إلا في قصائد اللقطات المأخوذة عن حياته ، وكل قصائده الشهيرة لها أو قل دافعها ومحرضها حكاية شخصية، واهتمامه بسرد الحكاية لا يقل عن اهتمامه بإلقاء القصيدة . والشاعر وحيد مصيوغة بنت عبد القوي أبو جليل ، وفي صباه ماتت أمه وأبوه في نفس اليوم والساعة، أبوه جاءوا به قتيلاً في غزوة فاشلة، وأمه المصابة بداء الصدر لم تحتمل الخبر وسقطت فوقه، وشب الشاعر فقيراً لا إرث ولا عائل ، ونظراً لأنه ينتمي لعائلة كبيرة تتوارث عُمدية قبيلة الرماح لم يتكسب من الشعر كعادة الشعراء البدو، وفي شبابه كان يحب ابنة عمه ، كان اسمها قبول وكتب فيها : بتسم حيا ف عيون سبلهن قبول وسابني نعول ناسي غلا طال شرحا يطول " وكانت تحبه ، والموضوع كله كان يلم بعشرين أو حتي عشرة جنيهات ، لكن الشاعر لا يملك من حطام الدنيا إلا جلابية فردة، كان يغسلها ويجلس عارياً حتي تجف، وبندقية بروح واحدة ولسانا عذبا يقطر بالأشعار، وفي هذه الظروف خطبت المحبوبة ، تقدم لها ابن عم لهما من الشاب النور الذي سافر الي مصر واشتغل سائقاً علي تاكسي، وهي مهنة لا أعرف لماذا اختص بها شباب البدو في بداية انتقالهم للقاهرة للعمل والاقامة في الخمسينيات . المهم أنه عاد بالمبلغ المطلوب وسيارة جاهزة تحت أمر العروس في أي لحظة ، فاستنجدت الحبيبة بحبيبها الشاعر، وجاء مرسالها مكروباً " دير شي قبل ما المية تشيلك "، وكان بإمكانه أن يُدير شيئا، بل أشياءً ، كأن يستدين مثلا أو يشعل معركة ويعلن حبه علي الملأ ويقف لحبيبته، خصوصاً وانها ابنة عمه، وله الحق في الوقوف لها وحتي تنزيلها م " الخُطر " أي هودج الزفاف كما يقولون، لكنه لم يبد أي مقاومة ، وكل ما فعله أنه سكت، وفكر فقط في أنه لا يملك مليماً واحداً، وطأطأ في الأرض وراح يرسم بدبشك البندقية مثلثات وخرائط، وهذا ما نقله حرفياً الرسول للحبيبة فوافقت علي العريس وركبت التاكسي وطارت علي القاهرة . وبعد عام تقريبا عادت في زيارة للنجع، ومرت عليه وهو جالس علي الكوبري في أول النجع في نفس المكان، وبينما يهم لملاقاتها أوقفته بنظرة عتاب ولوم وحتي احتقار طويلة وواصلت طريقها دون أن تكلمه، فوقف مشدوهاً وحائراً وبدأ يقول : " بدون وعد ومن غير وعد لاقيتا وهو لاقاني احترنا لزمنا الصمت ما حاكاني لزم تكفيره ونا من احداه مدوّباني حيره أصل اللي حصل بيني وبين مصيره سبب بعدنا عاند معاي زماني طمنت قلبي حبة وفهمت باقي لي معاه محبة هضا دليل ما صبا معايي وخبا لو كان يكره ما وقف شوّاني جرحني علي جرحي القديم تعدا ازعما بيش ناويلي ارضي بهواني مشا في حلا مدهوش لجمني سكات مجالا لو كان كلمني بطرف مودة لو كان قالي : لا ، راك وراني !! بدون وعد ومن غير وعد لاقيتا وهو لاقاني احترنا لزمنا الصمت ماحكاني " وظل الشاعر بدون زواج ليس وفاءً للمحبوبة التي خطفها التاكسي، ولكن لأنه لا يملك تكاليف الزواج ، وتقدم العمر وهو يحلم بالولد الذي يحمل اسمه ويسميه علي اسم والده المرحوم صالح أبو سيف النصر ، ومن كتر إلحاحه في طلبه والاشتياق إليه اطلق الناس عليه لقب أبو صالح قبل ان يولد صالح، بل قبل أن يتزوج أساساً. وظل علي هذه الحال ، يلقي القصائد في الأفراح والمآتم وينام وحيداً في حجرتين وحيدتين علي أطراف النجع حتي شارف الأربعين من عمره وبدأ يفقد الأمل في موضوع الزواج والولد ويكتفي منه باللقب الذي أطلقه الناس. وفي هذه الظروف نجح ابن عمه في الانتخابات وأصبح نائب الدائرة في البرلمان، ونظراً لأنه كان مقرباً منه وطالما كال له قصائد المديح في السرادقات الانتخابية خصص له سوق النجوع الأسبوعي، السوق كان يقام كل يوم سبت في أرض مشاع لا صاحب لها علي حافة الصحراء، والنائب خصصها للشاعر، وصار من حقه جمع " أرضية " السوق كل أسبوع من التجار والباعة وانصلح حاله وبدأ يبحث عن العروس المناسبة، ونظرا لكبر سنه نحي بنات البدو العذاري اللواتي طالما تغزل فيهن في القصائد وركز علي بنات الفلاحين، وذات يوم وهو يتجول في سوقه رأي شابة جميلة تبيع البلح، وترتدي جلابية مقورة بفتحة كشفت نصف صدرها المضغوط تحت عقد لولي يتلألأ، وأحلوت في عينه، ورأي فيها الزوجة المُشتهاة، ولكنه بدلا من أن يسلك الطرق المشروعة أو قل الملتوية والأدق التمويهية، أي يسأل عليها ويرسل من يطلبها من أهلها، توجه إليها مباشرة وحاول التودد إليها ورفض بإلحاح أخذ أرضيتها ، ولكنها ظنت أنه رجل بصباص يسعي للايقاع بها، وما عقّد الأمر أنه حدق طويلا في العُقد فانقطع علي الفور، لا تعرف إن كان صدفة أو أنه حسود فعلاً، المهم أن العقد انكب علي الأرض بينهما، وبالطبع اتكسف الشاعر وغطاه العرق ، ولكي يداري كسفته ميّل علي الأرض وبدأ يلم العقد، ولكنها أوقفته بعجرفة " سيبه وخد ارضيتك وامشي في حالك " فمشي مكسوفاً خطوتين وعز عليه أن يتركها أو قل يفقدها هكذا وعاد " يا ستي العقد خسارة "، ولكنها أصرت علي رفض مساعدته ولا حتي وقوفه أمامها فتركها محبطاً وبدأ يقول: " قطع عقد لوليها نتر فرعاتا تبحتر، احسد ، من عين ما لمّاتا تطوعت ودي نلما ونلضم فصوصا الطايحا وانشما امغير صاحبا همد من يما لا همزا الترحيب هيا هاتا - يا ستي العقد خساره - وهو غالي تمن فرعاته - قالتلي عقدي ونا حره في تصريفاتا تباعدت عنها شارد والموقف مصقّع كنت فيه البارد نا مالي ومال الحب جيتا حارد نستاهل انها دارت معاي شماتا قطع عقد لوليها نتر فرعاتا تبحتر احسد من عين ما لماتا " وذهبت بائعة البلح في السكة التي أخذت الحبيبة ابنة العم وتركت الشاعر ينتظر، وفي يوم جاء إلي سوقه حداد، نافخ كير غجري ، ونصب أسياخه في السوق وبدأ ينفخ في الكير ويسن السكاكين والشراشر والطواري ، وكان معه ابنة وحيدة تساعده، وفي البداية تردد الشاعر ، خاف من معايرة البوادي بالزواج من واحدة تعتبر بلا أصل، ولكنه تحت إلحاح الرغبة في الزواج والرأس الذي اشتعل شيباً، والولد الذي طالما تمناه، توجه إلي نافخ الكير وبدون لف ولا دوران كعادته قال له " نا نريد بنتك " فانتفض نافخ الكير وتساءل مستنكرا " تريدها ازاي يا شيخ العرب ؟ " فمرت عليه مأساة بائعة البلح ورد بسرعة " مالك ، الناس جرالها ايه ، عايزها علي سنة ربنا ورسوله" فهدأ الحداد وقال " موافق لكن بشرط تاخدها علي طول ، انا راجل علي باب الله ، وكل يوم في بلد ، وبعد ميخلص السوق هلم سياخي واركب حماري ومش هتشوفني تاني " وهذا ما تم ، سلمها الحداد له ورحل علي الفور ، وصدح الشاعر متباهيا: " ما يهمنيش أساسا ولا يهمني انها عطيبا ناسا " وأنجبت ابنة الحداد الولد ، صالح الذي طالما حلم به وتمناه، وفرح به وصارت " أبو صالح " حقيقة حية يطير فرحاً لسماعها ، لكنه مات فجأة ، مات صالح بواحد من الأمراض التي كانت تفتك بقري وأقاليم بكاملها هذه الايام، وأقام الشاعر سرادقا كبيرا وجلس في صداراته يتلقي العزاء ، وبالطبع كان كل معز ينفحه بالنصائح اياها " ألصبر يا بوصالح، واصبر وما صبرك إللا بالله " حتي زهق من النصيحة والصبر نفسه وفي النهاية تركوه في السرادق وحيداً، فجلس علي الأرض ، وراح يتأمل في الأرض وينعي : " يقولولي الصبر قلتلهم مكانا وين يا عقال قالولي تريدا فيش قلتلهم انا انريدا يصبرني علي انسان قولولي مكانا وين يمكن نلقاه ينجنا ونجنيلي شوي يمكن يصبرني علي اللي راح "