في مراحل التحول الديمقراطي .. كيف أن نتعامل مع وثائق جهاز أمن الدولة بعد سقوطه؟! وكيف نوازن بين حق الدولة في الحفاظ علي سرية المعلومات وحق المواطن في المعرفة؟ أسئلة حاولت جابرييلا ايفاكس أن تجيب عليها. حذرت الدكتورة جابرييلا ايفاكس مدير إدارة المحفوظات والأرشيف بجامعة وسط أوروبا ببودابست المجر، من التراخي أو التباطؤ في توثيق ملفات جهاز الأمن المصري، بعد ثورة 52 يناير حتي لا تقع المؤسسة المصرية المسئولة عن الأرشيف القومي في نفس الخطأ الذي وقعت فيه المؤسسة المجرية للأرشيف، عندما قامت بتوثيق ما تم الإفراج عنه من وثائق بعد سنوات من سقوط النظام الشيوعي في أوروبا الشرقية، مما تسبب في إتلاف الكثير منها وضياع معه الكثير من المعلومات الأمنية العامة، وطالبت د. جابرييلا الدولة المصرية بسرعة إصدار قرار ينص علي علي سرعة توثيق الملفات التي كانت في حافظة جهاز الأمن المصري الذي سقط مع سقوط النظام المصري السابق.. جاء ذلك في الندوة التي دعا إليها الدكتور محمد صابر عرب رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق المصرية (بمبني الدار بباب الخلق)، وعنوانها »جواسيس وملفات.. حدود حرية البحث في وثائق أمن الدولة«. أدار الندوة الدكتور خالد فهمي رئيس قسم التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة الذي تساءل: أمن الدولة سقط، والمطروح الآن كيف نتصرف مع ما فيه من وثائق؟ لفت فهمي إلي أن الإشكالية هي حق الدولة في الحفاظ علي سرية بعض المعلومات، فكيف يتحقق ذلك مع مراعاة حق المواطنين في الحصول علي المعلومة بشكل عام؟ أوضح فهمي أن الموضوع لا يمكن حسمه في يوم وليلة، فدول كثيرة مرت بمراحل تحول ديمقراطي مثلنا، وتحولت من أنظمة استبدادية بوليسية إلي أنظمة ديمقراطية، لذلك دعا فهمي للاستعانة بخبراء من دول مرت بتجارب قاسية مثل تجربتنا، لنطرح عليهم أسئلة صعبة »وليس لزاماً أن نحتذي حذوهم، ولكن علي الأقل نعرف كيف نتعامل مع وثائق أمن الدولة، ودور الدولة في إتاحة المعلومات وتشجيع حماية الحق في المعرفة«. تحدثت د. جابرييلا عن كيفية الاستفادة من الحالة المجرية، وكيف استفادوا من أخطائهم كثيراً.. مشيرة إلي أنه مع سقوط الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الشرقية، وسقوط النظام الشيوعي، أفرج النظام الجديد في المجر عن مجموعة كبيرة من الوثائق المتعلقة بالمؤسسات الأمنية، وكانت في حالة سيئة للغاية، لما تعرضت له من الإهمال طوال سنوات قبل الإفراج عنها، ولبعثرة هذه الأوراق وعدم وجود رابط بينها في بعض الأحوال، وتشابه قضايا تتعلق ببعض الأفراد، الأمر الذي دفعهم لتكوين فريق عمل ضم محامين ومؤرخين، وخبرات في الأرشفة، وكان الهدف عمل مشروع لإعادة فهرسة هذه الأوراق بتنقيتها و(غربلتها) وأضافت: وكنت أنا أحد أفراد هذا الفريق، ولم تكن العملية فهرسة فقط بل كانت إعداد قاعدة بيانات لهذه الأوراق (الوثائق)، ولكن ما يؤخذ علي التجربة المجرية.. إننا تأخرنا كثيراً في البدء للقيام بهذا العمل مما أضاع علينا الكثير من المعلومات التي تخص الكثير من الأفراد وتخص أيضاً الدولة، ومن هنا فالنصيحة هي التعامل فوراً مع أوراق جهاز الأمن المصري الذي كان قائماً. وأشارت إلي قدرة النظم الشمولية علي تحويل الحقيقة إلي أكاذيب من خلال ما لديها من ملفات.. تطرقت أيضاً إلي التجربة الألمانية فأوضحت أن أمن الدولة في ألمانياالشرقية كان لديه موظفين قوامهم 09 ألف فرد، ومساعدين وصل عددهم إلي 071 ألف ، وكانت لديهم سجلات تغطي من 081 إلي 002كم من الرفوف، ويضم ملفات 06 مليون شخص، بعض السجلات تم تدميرها والتلاعب بالباقي، وبعضها حصلت عليه الاستخبارات الألمانية، وكان هناك سوق سوداء من قبل المخابرات الروسية لشراء هذه الملفات والوثائق، وبالفعل كان لديها نسخ لهذه الملفات، وفي الفترة بين الوحدة بين الألمانيتين وسقوط النظام، تم عمل قانون للسجلات، وإنشاء مؤسسة خاصة لهذه السجلات أصبحت تحفظ السجل القومي في ألمانيا، وتم منع السياسيين من استخدام هذه الملفات، وجعلها متوفرة للأهداف القانونية والتاريخية فقط.. مشيرة إلي أن القانون الألماني يدعم الحق الشخصي في تقرير مصير المعلومات. وعن كيفية المواءمة بين السرية والإتاحة كحق للفرد، قالت: إن الحق في المعرفة ليس فقط حق للضحية، الحق في المعرفة هو حق جمعي لضمان عدم حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان، الوثائق جزء من تاريخ الناس، ويجب الحفاظ عليها، ولكي نضمن ذلك يجب أن تخضع لاهتمام السلطة التنفيذية والنيابية والمهتمين بالعمل الأكاديمي.. كل ذلك يتطلب حكم القانون. والسؤال هل يمكن أن نثق في العاملين علي القانون؟ تري د. جابرييلا أن المحافظة علي المعلومات وحمايتها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقوانين المتعلقة بالأرشيف وبالأمن القومي، والعامل المهم هو ألا نسيء تفسير العوامل القانونية، وان اهتمامي ليس فقط بإظهار المعلومات ولكن أيضاً بالإجراءات التشريعية للحصول علي أفضل النتائج. وطالبت- في نفس الوقت- أن يكون للمسئولين عن الأرشيفات القومية أخلاقيات معينة.. مشيرة إلي أنه من المستحيل الربط بين الأرشيف البوليسي وأرشيف الدولة القومية. وفي النهاية أشارت إلي وجود رغبة خطيرة بإبقاء الماضي في الماضي، مع وجود ممارسات في المجتمع تحدد ما يجب معرفته. وعقّب د. خالد فهمي علي المحاضرة بقوله: إن أوجه شبه كثيرة بين التجارب التي تطرقت إليها د. جابرييلا مثل تجربة ألمانياالشرقية وبين تجربتنا، ولكن الحالة المصرية لها تفاصيلها.. هناك مثلاً عمليات تقاضي متعددة مجالها هو المحاكم وليس الأرشيف، والعاملين فيها هم القضاة والمحامون، وليس مؤرخون أو أرشيفيون، وهمزة الوصل هي الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها من قبل جهات التحقيق. وأكد فهمي علي أن الوثائق ملك المجتمع، ملك الأشخاص الذين تأتي أسماؤهم في السجلات، وحقهم في المعرفة ليس حقاً خاصاً بل حق جماعي، ولا يمكن التنازل عن حق المجتمع في معرفة ماذا حدث، وحقه في عدم الوقوع في هذه المشاكل مرة أخري. وأكد فهمي أن المواءمة بين الحق في الخصوصية والحق في الشفافية والحساب مسألة شائكة. الدكتورة جابرييلا طرحت نماذج مهمة، نموذج المجر الفاشل الذي يتلخص في السماح للمواطنين بالحصول علي ملفاتهم للتخلص منها، والنموذج الثاني هو الأرشيف الوسيط وهو في اللحظات الحاسمة يكون الأفضل في أن تؤسس جهة تأخذ بعض وثائق أمن الدولة قبل أن تودعها في دارالوثائق لمدة عشر سنوات، فهذا نموذج جدير بالتفكير. أشار فهمي إلي أن القضايا التي نمر بها قضايا فساد لم نر نهايتها بعد، وإن كانت أغلبها تتعلق بفساد مالي في الوقت الحالي، ولم نفتح سجلات التعذيب بعد، ومن هنا تكون الأسئلة في كيفية التعامل ليس مع الجواسيس وإنما مع الجلادين والممارسة المنهجية للجواسيس، وحالات التعذيب التي لم نتناولها صعبة جداً، مؤكداً أن المكان الطبيعي الآن لملفات أمن الدولة هو دار الوثائق. واختتم فهمي بقوله: إنه منذ شهر ونصف الشهر أعلن وزير الداخلية أنه سيسمح بإيداع وثائق أمن الدولة بدار الوثائق، وجاء ذلك بعد نشر مقال الكاتب جمال الغيطاني بجريدة الأخبار، طالب فيه الوزير بحفظ ما تبقي منها بعد عمليات الإحراق والفرم التي تعرضت لها بعض الوثائق، خاصة أن الدار لم تستقبل أي وثائق منذ عام 3191 (أيام البوليس السري) ولكن حتي الآن لم يحدث شيء.