شيخ الأزهر ورئيس سنغافورة يواصلان الضغط لوقف العدوان على غزة    إيتيدا تعزز حضورها بالمحافظات عبر الملتقى التوظيفي الثامن عشر ببني سويف    رئيس مياه الأقصر يتفقد محطة معالجة الدبابية ويتابع شبكات الصرف الصحي في المساوية    140 مليار دولار صادرات بعد 5 سنوات    روبيو يؤكد التزام الولايات المتحدة بتعزيز العلاقات الثنائية مع جامايكا    الإضراب العام لأجل غزة يغلق الموانئ في إيطاليا    يونيسف: مقتل 11 طفلا في غارة بطائرة مسيرة على مسجد بالفاشر السودانية    نادي الزهور يحدد موعد إجراء الانتخابات ومناقشة الميزانية    أليو ديانج يوافق على تجديد عقده مع الأهلي.. جلسة بعد القمة لحسم التفاصيل    حيرة فى الأهلى بسبب المدرب الأجنبى    برشلونة يعلن إصابة فيرمين لوبيز ويحدد مدة غيابه    منع المطربة بوسى من السفر    مسلم يعلن انفصاله عن زوجته.. «حسبي الله في اللي كان السبب»    من هم ال70 ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؟ رمضان عبد المعز يوضح    في الخريف.. علامات تكشف إصابتك بحساسية الأنف    جامعة كفر الشيخ تبحث مع نائب وزير الصحة تنفيذ الخطة العاجلة للسكان والتنمية 2025–2027    في لقاء حصري... عمرو سليمان يتحدث عن مستقبل الاستثمار العقاري في مصر    أول رد من أرملة إبراهيم شيكا على رغبة وفاء عامر في استرداد شقتها    حفل استقبال الطلاب الجدد بكلية العلوم جامعة الفيوم.. صور    الحبس 6 أشهر لصانعة المحتوى أم سجدة في اتهامها بالاعتداء على القيم والمبادئ الأسرية    بحضور وكيل الأزهر والمفتي ووزير الأوقاف.. نقابة الأشراف تُحيي ذكرى المولد النبوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 22سبتمبر2025 في المنيا    الداخلية تكشف ملابسات فيديو تعاطي المخدرات أسفل أحد العقارات بالقاهرة    السفير سيف قنديل: النسخة الخامسة من منتدى أسوان ستضم دوائر رجال الأعمال والمؤسسات الإنسانية    ضبط 13 مليون جنيه حصيلة الإتجار غير المشروع في النقد الأجنبي    الرئيس السيسي يقرر العفو عن علاء عبد الفتاح و5 آخرين    المدينة التي يجتاحها جيش الاحتلال.. إطلاق صاروخ من غزة صوب مستوطنة ناحل عوز    وسط فرحة الطلاب.. محافظ المنوفية يفتتح مدرستين ببروى وبكفر القلشى للتعليم الأساسي    طقس الإسكندرية اليوم.. أجواء معتدلة ودرجات الحرارة العظمى تسجل 30 درجة مئوية    عبد الله السعيد: أتمنى تتويج منتخب مصر بكأس الأمم وجاهز للعودة إذا طُلب مني    قبل 24 ساعة من اللقاء... أزمة في بث مباراة أهلي جدة وبيراميدز فضائيا    20.9% تراجعا فى أعداد العاملين الأجانب بالقطاع الحكومي والقطاع العام- الأعمال العام خلال 2024    إنجاز جديد لجامعة بنها بمؤشر نيتشر للأبحاث العلمية Nature Index    عميد معهد الفراعنة: اكتشفنا واقعة انتحال صفة رمضان صبحى بالامتحانات صدفة    مصرع فتاة وإصابة 6 في تصادم ميكروباصين بطريق العوايد بالإسكندرية    ضبط 6 آلاف علبة جبنة فاسدة داخل مخزن خلال حملة تموينية في الأقصر    بالصور - محافظ أسوان يتفقد 1540 مدرسة استعدادًا للعام الدراسي    رابط التقديم على وظائف بنك مصر 2025 لخدمة العملاء.. متاح الآن بدون خبرة    ب "التايجر".. ريم سامي تخطف الأنظار بإطلالة أنيقة    متحدث فتح للقاهرة الإخبارية: الاعتراف بالدولة الفلسطينية لحظة تاريخية فارقة    أمير كرارة: معايا صورة ل هنا الزاهد ممكن تدمرها لو نزلتها    بمشاركة نرمين الفقي وراجح داوود وإيهاب فهمي.. تعرف على لجان تحكيم مهرجان الغردقة الدورة الثالثة    هينسحبوا تمامًا.. 3 أبراج لا تقبل العلاقات السامة «التوكسيك»    "طلاب من أجل مصر" ترحب بدفعة طب الجديدة بجامعة بورسعيد الأهلية (صور)    عاجل- قراران جمهوريان بإنشاء منطقة جرجوب الاقتصادية وتخصيص أراضٍ للتنمية الصناعية    اللجنة المصرية لإغاثة أهالي غزة تتوصل لطفلي طريق الرشيد بغزة.. ووالدتهما: بشكر الرئيس السيسي    العوارى: ما يحدث للأبرياء من تدمير منازلهم لا يمت بصلة للأخلاق التي جاء بها الأنبياء جميعا    تأييد تغريم غادة والي 10 آلاف جنيه في سرقة رسومات فنان روسي    "البحوث الزراعية" ينظم المنتدى العلمي الأول حول تطبيقات الإدارة المتكاملة    رئيس جامعة القاهرة يتلقى تقريرا عن مؤشرات الأداء بمستشفيات قصر العيني    وزارة الصحة: تقديم 17 ألف خدمة طبية في طب نفس المسنين    تحذير من أدوية البرد للأطفال دون وصفة طبية    أكثر اللاعبين حصدا للكرة الذهبية عبر التاريخ    موعد أذان الظهر ليوم الإثنين ودعاء النبي عند ختم الصلاة    بعد الظهور الأول لهما.. ماذا قال ترامب عن لقائه ب ماسك؟    الدوري المصري بشكل حصري على "أبليكشن ON APP".. تعرف على طريقة تحميل التطبيق    خلال لقائه مع نظيره الكويتي .. وزير الخارجية يؤكد رفض مصر القاطع لأي محاولات للمساس بأمن واستقرار الخليج    أحمد العوضي: لو هتجوز مش هقول.. ومشغول بمسلسل «علي كلاي» لرمضان 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العباءة
نشر في أخبار الأدب يوم 21 - 05 - 2011

رجع "جيوفاني" إلي البيت، بعد انتظار لا نهاية له، عندما بدأ كلّ أمل يخبو. لم تكن الساعة قد اقتربت بعد من الثانية، ذات يوم مقبض من مارس. كانت أمّه تنظف المائدة، بينما الغربان تحلق في سماء المنطقة.
ظهر فجأة علي عتبة الباب، فبكت أمه، وهرولت تحتضنه:
- أوه، يا إلهي العزيز!
بدأت أخته الأصغر "آنا" وأخوه "بيتر" يبكيان فرحا. تلك كانت اللحظة التي كانا ينتظرانها منذ شهور وشهور لدرجة أنّها كثيرا ما ومضت خلال أحلام الفجر الحلوة التي تجلب سعادة كبيرة.
لم ينطق بأيّ كلمة لأنّه احتاج إلي كلّ قوته كي يكبح دموعه، وسرعان ما أرخي ثقل سيفه علي كرسيّ، وما زال يرتدي البيريه الجلدي علي رأسه.
قالت أمه من خلال دموعها وهي تسحبه قليلا للوراء:
- دعني أر. دعني أر أيّ شاب وسيم أصبحت. أوه، لكن كم تبدو شديد الشحوب!
في الواقع، كان أكثر من شاحب قليلا، كان مستنزفا. خلع البيريه وهو ينتقل إلي وسط الغرفة، وجلس. كم كان متعبا، كم كان شديد التعب, وكان عليه أن يقاوم، بل وأن يبتسم.
- ينبغي أن تخلع عباءتك الصغيرة تلك.
قالت أمه، وهي تتطلع إليه كما لو كان معجزة، متهيّبة، كما لو أنه قد أصبح أطول قامة، جميلا، جادا (حتي لو كان شاحبا قليلا).
- اخلع عباءتك، وأعطني إياها.. ألا تشعر كم هو الجوّ حارا؟
قام بحركة دفاعية مفاجئة ممسكا بعباءته بإحكام من حوله، ربّما خشية أن تجذبها بعيدا عنه، وأجاب مراوغا:
- لا، لا. اتركيني. أفضّل ألا أفعل. علي أيّ حال، عليّ الخروج بعد وهلة قصيرة.
- عليك الخروج؟ لقد رجعت بعد عامين، وتريد الخروج علي الفور؟
بكت منهارة، شاعرة بعودة فورية للألم الأزلي القديم بعد كثير من الفرح:
- أيتحتم عليك أن تخرج فورا؟ إنك لم تتناول شيئا؟
- لقد أكلت بالفعل، يا ماما.
أجاب الابن بابتسامة لطيفة متطلعا حوله مستمتعا بالظلال الحبيبة:
- توقفنا في "تراتوريا" علي بعد بضعة كيلومترات من هنا.
- لكنك لم تأتِ وحدك؟ مَن الذي جاء معك؟ صديق من الفوج؟ أم هو ابن "مينا"؟
- لا، لا. إنه شخص قابلتُه علي الطريق، وهو ينتظرني الآن بالخارج.
- منتظرا هناك؟ أتركته وسط الطريق؟ لكن لماذا لم تدعُه للدخول؟
ذهبت إلي النافذة. رأت صورته الجانبية عبر حديقة الخضراوات علي الجانب الآخر من البوابة الخشبية. كان يخطو خطوات بطيئة ذهابا وإيابا، ملفوفا في عباءته تماما، تاركا انطباعا سوداويا. عندئذ، في خضم زوبعة فرحها الشديد، اجتاح قلبها ألم غير مفهوم، غامض، حاد.
أجاب بحزم:
- لا، من الأفضل ألاّ أفعل. قد يزعجه الأمر. ذلك أسلوبه.
- مجرّد كأس من نبيذ؟ بالتأكيد يمكننا أن نحضر له كأس نبيذ، ألا نستطيع؟
- من الأفضل ألاّ تفعلي، يا ماما. إنه نوع غريب. ربّما يستشيط غضبا.
- إذن، من هو؟ لماذا يصحبك؟ ماذا يريد منك؟
أجاب ببطء وحزن شديدين:
- أنا لا أعرفه جيّدا، فقد التقيتُ به خلال الرحلة. وقد صحبني علي طول الطريق، هذا كلّ ما في الأمر.
بدا أنه يفضل التحدّث عن أمر مختلف. بدا خجلا. وحتي لا تعارضه الأم، غيّرت الحديث فورا، لكن الوميض الذي أضاء وجهها في البداية كان يخبو بالفعل. قالت:
- أنصت إليّ! هل يمكنك تخيّل "ماريتا" عندما تكتشف أنّك عدت مرّة أخري؟ هل تتخيّلها وهي تقفز فرحا؟ هل هي السبب في أنك تريد الخروج؟
ابتسم فحسب. ما زال يحمل تعبير شخص يريد أن يكون سعيدا، لكنه لا يستطيع أن يفعل بسبب سرّ خطير.
لم تتمكن أمّه من أن تفهم. لماذا يجلس علي هذا النحو، حزينا تقريبا، مثلما كان في ذلك اليوم البعيد لرحيله؟ لكنه رجع الآن، وهناك حياة جديدة تنتظره، أيام لا نهائية دون قلق، أمسيات عديدة جميلة معا، اكتمال لا نهائي لأمسيات انقضت علي الجانب الآخر من الجبال،
وسط ضخامة السنوات المقبلة. لن تكون هناك ليال مؤلمة حين تنفجر فجأة ومضات نيران في الأفق، ولن تفكر أنّه هناك، هناك في وسطها، ممددا علي الأرض، غير قادر علي الحركة وسط أنقاض دموية، مطعونا في صدره. أخيرا، عاد، أكثر طولا ووسامة. كم ستفرح "ماريتا". وقريبا يأتي الربيع، ويتزوجان في الكنيسة، صباح يوم أحد وسط الزهور مع صوت الجرس. لماذا، إذن، شحوبه بشكل مميت إلي هذا الحدّ؟ لماذا لم يعد يضحك، أو يحكي قصصا حول معاركه؟ والعباءة، لماذا يرتديها بإحكام شديد حول جسمه مع أنّ البيت حار جدا، كما كان دائما؟ ربّما لأنّ زيّه الرسمي ممزّق ملوّث بالطين؟ لكن كيف يشعر بالخجل أمام أمّه؟ لقد بدا أنّ أحزانها قد انقضت، لكن ها قد بزغ علي الفور قلق جديد.
مال وجهها الحلو قليلا إلي الجانب، حدّقت إليه بقلق، حريصة علي عدم معارضته، محاولة أن تتفهم رغباته علي الفور. ربّما كان مريضا؟ أو مستنزفا من مجهود أكثر من اللازم؟ لماذا لا يتكلم؟ لماذا يتجنّب النظر إليها؟
في الواقع، لم يكن ينظر إليها علي الإطلاق. بدا كمن يتجنب التقاء نظراتهما كما لو كان يخشي شيئا فيها. وفي الوقت نفسه، راح أخوه الصغير وأخته يتأملانه صامتين مع حرج غريب.
غمغمت أمّه دون أن تتراجع كثيراً:
- جيوفاني! أنت هنا أخيرا، أنت هنا أخيرا. انتظر حتي أعدّ لك بعض القهوة.
هرعت إلي المطبخ. مكث "جيوفاني" مع الطفلين اللذين كانا أصغر منه بكثير. ربّما لن يتعرّف أحدهما عليه إذا ما تقابلا في الشارع بسبب ذلك التغيير الذي حدث في غضون عامين فقط. الآن، ينظر كلّ منهما إليه في صمت، غير قادرين علي إيجاد الكلمات، لكن بين حين وآخر قد يبتسمان معا، ثلاثتهم، ربّما بسبب وجود اتفاق قديم غير منسي.
الآن، رجعت الأم، حاملة القهوة ببخارها مع شريحة طيّبة من الكعك. ابتلع القهوة مرّة واحدة، ومضغ الكعكة بصعوبة. "لماذا؟ ألم تعد تحبّها؟ كانت دائما المفضلة لديك!". أرادت الأمّ أن تقول ذلك، لكنها صمتت حتي لا تغضبه، واقترحت بدلا من ذلك:
- جيوفاني، ألا تريد أن تري غرفتك؟ هل تعرف أنّ هناك سريرا جديدا؟ وقد طليت الجدران، مع مصباح جديد. تعال، وانظر.. ولكن، ألا تريد أن تخلع العباءة؟ ألا تشعر بالحرّ؟
لم يجبها الجندي، لكنّه نهض من الكرسي منتقلا إلي الغرفة المجاورة. كانت إيماءاته بطيئة من نوع ثقيل،
كما لو أنّه لم يعد ابن عشرين. سبقته أمه وفتحت المصاريع. دخل الغرفة ضوء رمادي مجرّد من أيّ فرح.
وقف علي باب الغرفة، ألقي نظرة علي الأثاث الجديد، الستائر النظيفة، الحوائط البيضاء. كان كلّ شيء جديدا ونظيفا. غمغم بحماس فاتر. انحنت الأم لضبط ملاءة السرير _ حتي تلك كانت جديدة _ واستقرت نظراته علي كتفيها الرقيقين مع حزن لا يمكن التعبير عنه، ولا يمكن لأحد أن يراه. في الواقع، كانت "آنا" و"بيترو" يقفان وراءه، وقد أشرق وجهاهما، متوقعين مشهدا عظيما من فرح ودهشة. بدلا من ذلك، لا شيء. كرر:
- كم هو جميل، هل تعرفين؟. شكرا يا ماما.
وكان ذلك كلّ شيء. حوّل عينيه بقلق كمن يودّ أن يختزل حديثا مؤلما. لكن، قبل أيّ شيء، كان دائم النظر عبر النافذة بقلق واضح إلي البقعة فيما وراء البوابة الخشبية، حيث يخطو ذلك الشخص القاتم ذهابا وإيابا.
سألت الأم بصبر فارغ حتي تراه مبتهجا:
- هل أنت سعيد، يا جيوفاني؟ هل أنت سعيد؟
- أوه، نعم. إنّها جميلة حقا.
هكذا أجاب الابن الأكبر (لكن لماذا يبدو عنيدا إزاء خلع العباءة؟)، واستمرّ في الابتسام بجهد جبار. توسّلت الأم:
- ما هو الخطأ، يا جيوفاني؟ ما هو الخطأ؟ أنت تخفي عنّي شيئا، لماذا لا تريد أن تخبرني؟
عضّ شفته. بدا شيء ما عالقا في حنجرته. أجاب بعد وهلة بصوت خافت:
- ينبغي أن أذهب الآن، يا ماما.
- ينبغي أن تذهب؟ لكنك ستعود بعد ذلك، أليس كذلك؟ ستمضي إلي "ماريتا"، صحيح؟ أخبرني بالحقيقة، هل أنت ذاهب إلي "ماريتا"؟
كانت تحاول أن تداعبه رغم الألم.
- أنا لا أعرف، يا ماما.
أجاب بلهجة لا تزال مكبوحة ومريرة، وهو في طريقه إلي الباب، بعد أن تناول البيريه الجلدي فعلا:
- أنا لا أعرف، لكن ينبغي عليّ أن أذهب الآن. إنّه هناك، ينتظرني.
- لكنك ستعود في وقت لاحق؟ ستعود؟ ستكون هنا خلال ساعتين، أليس كذلك؟ سيحضر عمّك "جوليو" وستأتي عمّتك أيضا. تخيّل فحسب كيف ستكون الإجازة بالنسبة لهما أيضا. حاول أن ترجع قبل العشاء بقليل..
- ماما..
كرر ابنها النداء كما لو كان يرجوها ألا تقول أكثر من ذلك، أن تصمت، بحقّ السماء، حتي لا تزيد ألمه:
- ينبغي أن أذهب الآن. إنّه هناك.. في الخارج، ينتظرني. لقد كان صبورا جدا حتي الآن..
ثم حدّق في وجهها بنظرة يمكن أن تخترق الروح.
ذهب إلي الباب. ما زال الأخ الصغير والأخت يحتفلان وهما يجذبانه، ورفع "بيترو" طرف العباءة ليكتشف ما يرتديه أخوه من ملابس، فصاحت الأم خشية أن يغضب "جيوفاني":
- بيترو، بيترو! ماذا تفعل؟ توقف! دعه في حاله، يا بيترو!
- لا، لا!
صاح الجندي مدركا ما يفعله الصبي. لكن ذلك كان متأخّرا جدا، فقد انفتح طرفا العباءة الزرقاوان لوهلة.
- أوه، يا صغيري جيوفاني، ماذا فعلوا بك؟
قالت الأم بصوت متلعثم، متناولة وجهه بين يديها:
- لكن هذا دم يا جيوفاني.
- ينبغي أن أذهب، يا ماما.
كرّر مرّة ثانية بحزم يائس:
- لقد جعلته ينتظر بما فيه الكفاية. وداعا "آنا". وداعا "بيترو". وداعا يا ماما.
كان بالفعل عند الباب. خرج كما لو كانت الرياح تحمله. عبر الحديقة، فتح البوابة، وسرعان ما غادر حصانان يعدوان تحت سماء رمادية، ليس للوراء باتجاه البلد، لا، لكن عبر البراري، نحو الشمال، باتجاه الجبال. يعدوان. يعدوان.
عندئذ فهمت أمّه. انفتح فراغ هائل في قلبها، فراغ لن يمكن لكلّ قرون الزمن أن تملأه. فهمت حكاية العباءة، حزن ابنها، وفوق كلّ شيء، ذلك المرء الغامض الذي كان يخطو ذهابا وإيابا في الشارع منتظرا، ذلك الشخص الواقف إلي اليسار الذي كان لديه حقا كلّ هذا الصبر. شديد الرحمة شديد الصبر لدرجة أن يصطحب "جيوفاني" إلي البيت القديم ليتمكن من احتضان أمّه قبل أن يحمل بعيدا إلي الأبد، ذلك الذي وقف منتظرا عدّة دقائق خارج البوابة، وهو سيّد العالم وسط الغبار مثل شحّاذ يتضوّر جوعا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.