أغلق في وجهي الباب ووجدتني.. أقبع في قاع زنزانة مكفهرة.. صدئة. استقبلتني في البدء بالتحفظ، بالصمت، بالهزال ثم فاجأتني.. ثرثارة ممتلئة كأنما أخذت فترة - تتفرس في ملامحي تقرأ في حقيقتي الظاهرة المختبئة قبل أن تكشف لي عن وجهها عن صدرها عن عريها عن حليها الزاعقة المتلألئة ووجدتني، أدور كالمبهور بين عاالم.. تضج في جدرانها الأربعة المهترئة عوالم من الرسوم والنقوش والكتابات المتزاحمة، المتصايحة، الغائرة.. كأنما تقول لي: هنا أنا من أنت؟ ما وراء هذه الزيارة المفاجئة لكنني وجدتها.. أكثر من هوية ملامح قاتلة وبصمات منسئة مواقف شتي لمجهولين عبروا من هنا وتركوا أنفاسهم علي الجدران متكئة لعلهم.. ما التقوا في حياتهم والتقت حياتهم في غيبتهم.. متحدة، متجزئة يا لوحة المتناقضات في مسيرة الإنسان. المحتشدة، والمرتبكة الشامخة.. والمنكفئة الرائعة والضائعة الجليلة والهزيلة، الأصيلة والدخيلة، المحتشمة والهزأة كأنني سجين دفتي كتاب عن الإنسان ما أكثر من كتبه، وما أقل من قرأه أو أنني في قاع كهف من كهوف التاريخ ما أكثر ما تداولته القبائل المتناوئة أو أنني في خيمة من ضمائر وجدت نفسها وحيدة، فتعرت صريحة، مجتزئة ما أصدق ماتخفزه، ما تضيئه، أنفاس وحدة الانسان في وجه لحظة منطفئة هل أضيف نفسي للجدران؟.. لا.. إضافتي الآن، أن أعرف الانسان أن أقرأه أن أعرف نفسي منه، أعرف نفسي فيه، وإن خالف مبدئي في الحياة مبدأه وأخذت أنصت للجدران أبصر غائبين أتقرأهم بلمسة مستشفة متنبئة من ذلك الصارخ في البرية باسمه ؟ ينشره كالفجر في آفاقها المذنبة الخاطئة من ذلك الصارخ في البرية باسمه ؟ يبذره يزرعه في أرضه الجائعة الظامئة يارب.. جبهة مشرئبة للسماء وكفان ضارعتان ونظرة متوضئة يارب... أجنحة خضراء رفافة بالخلاص بالايمان في قبضتي زنزانة صابئة ما أكثر من انطقوا الجدران باسمه بالشهادتين بالمعوذتين بآياته القادرة المهدئة لكنني.. أحسست أن الله بينهم منقسم فعند هذا غاية وعند ذلك.. تكئة.. حقاً لقد أبصرت من يقول الله داخل نفسه ويعيشه مسيرة وسيرة مضوأة لكنني.. سمعت من يناجي ربه كأنه يناجي نفسه أو أنه يغوي بمعسول الكلام امرأة.. سمعت من ينادي الله لا لوجه الله بل في وجه سجان.. تزلفا وتوطئة يشترون الله في الضيق بالصوم والصلاة وكانوا يبيعونه في السوق.. بالمدانأة عذراً.. إذا قسوت.. ما أنا إلا قارئ للحياة في زنزانة خبيئة مستقرئة وإن أكن أحترم الإنسان أياً كان يحفر في الجدران.. ضعفه أو مبادئه والمجد للإنسان يستحضر المطلق الشامل في زنزانة حياة محدودة متجزئة وأخذت أنصت للجدران أبصر غائبين أتقرأهم.. بلمسة مستشفة متنبئة من ذلك الصارخ في الجدران باسمها. بجسمها مرفقاً حروفه، مرقرقاً شواطئه مفجراً عطر الأنوثة موقظاً أسرارها في جثة الزنزانة الدميمة المتهرئة من ذلك الذي يعالج البرودة والعقم في رحم الزنزانة بأصابعه الدافئة من ذلك الذي يواجه الكراهية.. بالحب والانفصال.. بالوصال والجهامة.. بالمبادأة من ذلك الذي يتحدي الزنزانة بالبيت والقيد بالطريق، بالحرية، بالمبادأة هل هو زوج.. أم عشيق أم أب.. أم ابن.. أم شقيق سواء.. فهي في حياته امرأة هي الأمان والحنان والمتعة والخصوبة والاستمرار، في رحلة منتهية وبادئة وهي الاستقرار والوحدة والتنوع والوطن والأرض.. والمائدة الهانئة وهي الجمال والالهام والإبداع والفن والطفولة والتفاني والبطولة الهادئة وهي الحب.. صلاة للبهجة والتجدد في حياة الانسان أو نعمة جسدية طارئة وهي الطبيعة.. محتدمة بالنسمات الناعمة والعواصف الشرسة والأهواء المفاجئة يا لوحة المتناقضات، في حياة امرأة هي الحياة كلها وحكمتها المتبوئة ما أكثر من أنطقوا الجدران باسمها، بجسمها، بحبهم لها، مدانة أو مبرأة يحبها قديسة، يحبها عاهرة، يحبها.. يحبها.. حمامة أو حدأة يحبها، كما يحب نفسه، كما يحب الحياة والطبيعة الغامضة المتلألئة يحبها، رمز الحرية الحياة، لاستمرارها، لانتصارها علي أسرارها المختبئة يحبها.. صرخة إنسان، تحدي بها.. جيوش قضبان وأسلاك معبأة وأنني أحترام الإنسان يحفر في الجدران، أهواءه، أشواقه، ملاجئه والمجد للإنسان يستقطر الرمز الكبير من تفاصيل ذكريات حياته المتجزئة وأخذت أنصت للجدران أبصر غائبين أتقرأهم.. بلمسة مستشفة متنبئة من ذلك الساحر الذي يملأ الجدران بالأرقام في رقع صغيرة مجزأة أبصر في خاناتها المصطفة الممتدة آثار خطوات ثقيلة متباطئة خطوات الأيام والأسابيع والشهور والأعوام. صاعدة، منتهية، مبتدئة محقورة، محصورة لكنها زاحفة مصرة، مستمرة، جسورة، متجرئة ترافق الأفلاك والحياة في دورتها، في رقصتها وتغني لغد، غير عابئة ما أكثر من أطلقوا الزنزانة في الفضاء ورصدوها من طاقة مسدودة منطفئة مجدا له، يحرر المكان بالزمان. والجماد، بالفكرة الصانعة البارئة وأخذت أنصت للجدران أبصر غائبين، أتقرأهم.. بلمسة مستشفة متنبئة ماذا تبقي؟! بضعة أسماء وتواريخ تناثرت كأنها أوراق هوية مهترئة لم يحفر الإنسان اسمه في الجدار في الأشجار في الآثار القديمة والكهوف المختبئة للذكري! أم يوقع بالملكية؟ أم يؤكد ذاته الحياة فوق ذواتها المتشيئة! ماذا تبقي؟! ما لم أجده كانت هنا.. كنت هنا من قبل في زيارة سابقة طارئة أغاني الرفاق بالنضال.. من أجل حياة حرة سعيدة متكافئة محيت بالطبع ! لكنني أسمعها متلألئة بالحياة رغم زنزانتي المكفهرة الصدئة ماذا تبقي؟! لا شيء سواي جالساً مؤتنسا لقد وجدت في قوقعتي لؤلؤة هل أضيف نفسي للجدران؟ أضفتها... بهذه القصيدة المقروءة.. القارئة.