في فجر الثاني من شهر مارس 1991 اقتحمت منزل الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر بقرية رملة الأنجب- مركز أشمون- محافظة المنوفية قوة مسلحة بالرشاشات والعصي والدروع، حيث قام أفراد منها بقيادة ضباط بالملابس العسكرية والمدنية بالتفتيش الدقيق لمسكنه وكتبه وأوراقه الشخصية دون تقديم اذن من النيابة او السلطات القضائية او تحديد الغرض من هذا الهجوم المسلح المفزع، وبعد التفتيش تم اقتياده بالقيود الحديدية التي وضعت في معصمه الي عربة الترحيلات بين صفين من الجنود الذين كانوا يقفون وقفة الاستعداد لاطلاق الرصاص. وقد أقام حتي منتصف نهار يوم 2 مارس 1991 في حجز قسم شرطة شبين الكوم، وبعد الإجراءات البوليسية المعتادة من تصوير وأخذ بصمات وبيانات.. إلخ، أخذوه الي عربة الترحيلات التي اسرعت به وسلمته الي المسئولين في مبني مباحث امن الدولة بميدان لاظوغلي بالقاهرة، حيث بدأت علي الفور إجراءات وممارسات التعذيب وإهدار الآدمية، وترويعه وقهره بطرق واساليب بينها مطر في البيان الذي أصدره بعد خروجه من الاعتقال: وتلك الأساليب هي: وضع القيود المعدنية الحديثة في يديه وقدميه لمدة عشرة أيام هي مدة بقائه تحت التعذيب في امن الدولة بلاظوغلي. ثانيا: ربط عينيه برباط ضاغط كثيف لايرفع أبدا ولايعدل وضعه مما نتج عنه تجمع الصديد وتحجره تحت الجفنين حتي امتلآ بما يشبه اسنان الزجاج المهشم، فتكون الحركة التلقائية للعينين والجفوف المطبقة حركة شديدة الإيلام، وتورم لحم الأذنين والتصق بالرأس التصاقا قاسيا، وضغطت عقدة الرباط علي الجمجمة من الخلف ضغطا يميت الاحساس بجلد الرأس. ومع الضرب وإلقاء الجسد علي طوله فوق الأرض بالوقوف المفاجيء تغوص عقدة الرباط شيئا فشيئا داخل جلد الرأس، وقد تخلف عن ذلك جرح عميق برأسه باتساع يكفي لدخول اصبعين فيه- علي حد تعبير »مطر«- وظل ينزف بالصديد اكثر من شهر ونصف الشهر، حتي اندمل وتركم اثره المحسوس، مما احدث اضطرابا شديدا في ابصار عينه اليمني. ثالثا: تم إرغامه علي تناول عقار لايعرف اسمه أو سبب تناوله- لأكثر من مرة- مما سبب له اضطرابا شديدا وهلوسة بصرية وسمعية افقدته الوعي بمعايير وقيم الزمان والمكان، مما جعله اسيرا لأخيلة شديدة الفوضي. ويري »مطر« انهم ارغموه علي تناول هذا العقار لتدمير الارادة بداخله وتحطيم بنية الشخصية والعقل. رابعا: تعليقه كالذبيحة لمدة طويلة، من يديه المقيدتين بالقيود الحديدية، مع ضربه بالعصي وغيرها مما لايعرف من ادوات الضرب، وتطويح جسمه اثناء ذلك مما جعله يحس بالألم والرعب، كما تم تهديده بادخال العصي بين فخذيه. خامسا: إدخال يديه الأثنتين في جهاز للصاعق الكهربائي مما جعله يعوي كالذئب الجريح لساعات طويلة ويتخبط محترقا بالألم والظمأ وانتفاضات التيار الكهربائي في اعضائه، مما اوصل اطراف الأصابع الي حالة من التهتك والتفحم، ونتج عن ذلك فقد الاحساس. سادسا: تم خلع ملابسه وأوقفه رجال أمن الدولة عاريا امام تيارات هواء باردة قارسة الوخز لفترة طويلة، ولم ينقذه من تلك الممارسات الإبادية دخوله في حالة اغماء. سابعا: التعرض لعدد كبير من وجبات الضرب الشامل، حيث كانت تنهال عليه الضربات الساحقة من كل ناحية وبإيقاع سريع مروع، وسحق الوجهين والفكين والوجه بالضربات الخاطفة المتقنة، مما ترك جسمه كله ملونا بالخطوط والبقع الدموية الزرقاء الواسعة، وترك جرحا انكشفت منه عظام الأنف وأثاره بدت واضحة علي وجه »عفيفي مطر« بعد ذلك، كعلامة ودلالة علي قدر الشاعر المثقف وقدرات السلطة في ذلك الوقت. ثامنا: التعرض لفترات طويلة من التجويع والحرمان من مقومات الحياة إلا في حدود الضرورة الدنيا لبقاء الحي حيا دون حساب لمرض او دواء او اغطية، وجعل قضاء الحاجة مناسبة لاهدار الكرامة، اذلالا وانهاكا لبقايا الشعور بالأدمية وقد سجل »عفيفي مطر« هذه التجربة القاسية في واحد من أهم دواوينه الشعرية وهو »احتفاليات المومياء المتوحشة« والذي كتب عددا كثيرا من قصائده في المعتقل، ويهديه الي طفلته الصغيرة - وقتها- »رحمة« قائلا- »بعبارات ذات دلالة عميقة علي مالاقه من صنوف التعذيب: »إلي طفلتي رحمة/ لم أكن ألتفت لشي سوي يديك النائمتين/ حول »الدبدوب« المحدق بعينيه اللامعتين/ ولم أكن أخاف شيئا سوي يقظتك بمفاجأة الجحافل وهي تلتقطني/ أما الأثر الدامي علي عظام الأنف الذي لاتكفين عن السؤال حوله فهذا هو الجواب«. وفي قصيدته »زيارة« يرصد »مطر« ما حدث له ليلة اعتقاله، مستعينا بصورة »رحمة« التي تحمل دبدوبها في براءة، في المقابل نجد صورة رجال الأمن بوجوههم الغليظة. أسلمني »الدبدوب« النائم بين ذراعي »رحمة« والفجر المنفوش الصوف إلي سنة من غضب اليأس وفزع الرؤيا. فانتبهت أعضائي في حلم المذبحة الكونية: ابتديء الركض لأخذ موضع أسمائي الحركية والعلنية في قافلة المذبوحين وقائمة الأسري.. أيقظني الفولاذ البارد، كنت أميرا يمرق في »تشريفة« صفين من الأشباح، وكانت شاحنة السجن ترضرض فوق ثعابين الأسفلت فيسلمني الإيقاع إلي سنة من خدر المجهول الفاضح، كانت رائحة الغيطان المبلولة اغواء دم تتفتق شهوته ركضا في النوم وتعرية لظلام الخضرة في الأحلام وعصف الروح. وفي قصيدة »وجوها ينظف الدم« ينتقد »مطر« السياسات التي افقدت الشعب حريته، حيث يتجلي صوت الشاعر الباحث عن انسانية الإنسان في ظل الواقع المادي الطاحن حيث يعري كثيرا من ادوات الزيف التي يعتمد عليها اصحاب السلطات المطلقة: والشعب تحت عراء العار يرتجف قد يسلم الترف المأبون في زمن ديوثه الصحف ها انت تحت سياط الكهرباء وبين القيد والظلمات السود. -تعترف؟ - إن الكلاب ملوك، والملوك دمي، والأرض تحت جيوش الروم تنجرف