الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية توضح نظام الحكم والعلاقة بين السلطات، ولكنه وثيقة اجتماعية وثقافية وسياسية تعبر عن حالة المجتمع ومزاجه وتوجهاته القيمية في مرحلة تاريخية معينة. ومن ثم فهو ليس نصاً جامدأ بل متغير بتغير الظروف التي يمر بها المجتمع، وبتغير موازين القوي فيه واللحظة التاريخية التي يعيشها. كذلك فالدستور وثيقة، وإن كانت ترتكز علي الحاضر، فهي تستشرف المستقبل، مَنْ نحن كأمة؟ وإلي ماذا نطمح أن نكون عليه في المستقبل؟. ولكل هذه الاعتبارات، نعتقد أن الدستور أهم من أن يترك للفقهاء الدستوريين وحدهم، وأن دورهم يأتي تالياً للنقاش المجتمعي حول ما ينبغي أن يتضمنه أو لا يتضمنه من معاني وتأكيدات، وما يصل إليه هذا النقاش الجمعي من اتفاقات علي ماذا نريد لوطننا، وكيف نرغب في أن نُحكم؟، وما هي القيم الأساسية التي ينبغي أن تكون الحاكمة لبناء الوطن الذي نريد؟ كما أن هذا الحوار المجتمعي ينبغي أن يشارك فيه أكبر عدد ممكن من أبناء الوطن. وتمثل النصوص الدستورية تجارب شعوب مختلفة واجهتها قضايا وتجارب تاريخية قد تتشابه وقد تختلف عما نمر به، جعلتها تركز في صياغة دساتيرها علي قضايا وقيم معينة، وتعالج مشكلات بعينها مرت بها هذه البلدان. ومن المؤكد أن الحوار المجتمعي الذي أشرنا إليه سيكون أكثر ثراءاً إذا تسلح المشاركون فيه بخبرة في النصوص الدستورية المختلفة من خلال الإطلاع علي الدساتير المختلفة في بلدان العالم المختلفة. فكل دستور منها يعبر عن خبرة هذه الدولة وتاريخها والقضايا التي أثرت في تطورها، وكيف صاغت كل هذا في وثيقة الدستور. وتتمثل الاستفادة في التعرف علي ما هو مشترك في كل الصياغات الدستورية من قيم ومُثل إنسانية عليا، وما هو فريد يرتبط بثقافة وطن معين وظروفه الاجتماعية والثقافية والتاريخية. كذلك تتمثل الاستفادة في التعرف والحصول علي أُلفة بالصياغات القانونية التي تصاغ فيها الدساتير، الأمر الذي يمّكن من المشاركة بفاعلية في الحوار الوطني حول الدستور بفاعلية. والمركز القومي للترجمة وهو يقدم للقارئ العربي هذه السلسلة الفريدة من الدساتير المترجمة إلي العربية، إنما يتمثل رسالته الأساسية التي قام من أجلها: أن يوفر في لغتنا العربية المصادر الأساسية للثقافة العالمية في شتي تجلياتها. أن يوفر الأعمال الفكرية الأساسية في التراث الإنساني، التي تمثل قاعدة للانطلاق في ثقافتنا القومية، وأن تكون هذه الأعمال حاضرة ومتاحة في وقت الحاجة. وما أحوجنا اليوم، ونحن في خضم هذا الحوار المجتمعي الشديد الأهمية، الناجم عن ثورة هي في جوهرها ثورة تتطلع إلي إعادة وطننا إلي عالم الإنسانية الأرحب، إلي قراءة متعمقة في هذه الدساتير، نستلهمها ونتعلم منها، ونحن نصوغ دستورنا الذي يعبر عن تفردنا.