في أقل من أربعة أسابيع تغير قلب المدينة "القاهرة" أكثر من مرة، كل وجه جديد مفاجأة غير متوقعة. منطقة وسط البلد التي حفظنا شوارعها، واتجاهات السير وملامح وجوه البائعين فيها أصبحت أرض للاحتفالات، كرنفالاً لا ينتهي في كل شوارعها، بعدما كانت ساحة للمعارك طوال 18 يوماً. مع إعلان نائب الرئيس تنحي رئيس الجمهورية تحول ميدان التحرير والشوارع المجاورة إلي ساحات للاحتفال الذي استمر حتي الصباح، ألعاب نارية، أغاني وطنية، رقص وغناء في الشارع، أعلام ترفرف، هتافات تعبر عن الفرح والنصر. وفي وسط كل هذه الاحتفالات وحتي الآن لا يزال قطاع كبير من المصريين غير مصدق لما حدث، فوسط الاحتفالات يسأل طفل أخاه الأكبر "يعني خلاص هيشيلوا كل صور مبارك وزوجته من علي الكتب؟". علي أحد الطرق السريعة يتوقف رجل أربعيني ويخرج علبة حلويات ليقدمها للجنود المرابطين بجوار دبابة ومدرعتين يوزعها عليهم، والضابط الشاب يحاول التحكم في انفعاله وهو يقول: "عمري ما حسيت بقيمة البدلة اللي أنا لابسها غير النهاردا". وفي بقية الشوارع كانت التحية الرسمية بين أي اثنين "مبروك" والرد "مبروك علينا كلنا".
صباح اليوم التالي، كان التلفزيون الرسمي وغير الرسمي يبث الأغاني الوطنية والمحللين السياسيون والخبراء الاستراتيجيون لم يقدموا أي شيء سوي المزيد من البلاغة الجوفاء عن عظمة الشعب، وثورة الشباب، والمستقبل المشرق الغامض في الوقت ذاته. الأغاني الوطنية عن مصر العظيمة والسواعد السمراء والتي كانت محل سخرية طوال عقود، استعادت أثرها، أصبحت أغنية لشادية أو عبد الحليم حافظ قادرة علي تفجير دموع الفرح ومشاعر الفخر الوطنية. أما في الميدان، فبينما كان ينسحب منه الكثير من الشباب وطوائف الشعب الذين ظلوا صامدين طوال الأيام الماضية ظهر شباب آخر معظمهم ينتمي إلي جمعيتي "رسالة" و"صناع الحياة" وتعاون معهم بعض الشباب الذين شاركوا في المظاهرات ليظهر نوع آخر من الاحتفال بالنصر. عمليات تنظيف الميدان تبدأ بجمع الورق والنفايات التي تراكمت علي حوافه، ثم "الكنس"، وإعادة بعض البلاط الذي تم انتزاعه ليتحول لحجارة في معارك الجمال والخيول إلي مكانه. حملات تنظيف الميدان وشوارع وسط البلد تحولت إلي هيستريا حقيقية بعد ذلك، فالشباب المتحمس والمدفوع بحب الوطنية العمياء بدأ طلاء الرصيف الذي أساسا لم يكن مطلياً، وحتي الأسوار المحيطة بالميدان والتي وضعها النظام السابق للسيطرة علي المتظاهرين، قام الشباب بإعادة طلائها باللون الأخضر والأصفر. واستمرت حملة التنظيف والطلاء الهيستري وتم نزع الشعارات، ومسح العبارات والأعمال الفنية "الجرافيتي" التي رسمها فنانو الثورة، وحينما سألت فتاة من هؤلاء: لماذا تمسح هذه الشعارات ردت ببساطة: "خلاص مش عايزين حاجة تفكرني بالماضي." الفتاة المنتمية لجمعية "صناع الحياة" استنكرت سؤالي لها "أين كنت يوم 25 ،28 يناير؟" وردت بأنها كانت في المنزل. كررت كلام عمرو خالد عن أهمية التسامح والمغفرة وأهمية النسيان والنظر للمستقبل، بالرغم من أن التسامح تسبقه دائماً خطوة أخري وهي الاعتراف بالخطأ وهو ما لم يحدث حتي الآن من قبل أي من رموز النظام السابق. إلا أن هذه الفتاة وغيرها من الشباب المشاركين في عملية تنظيف وطلاء الميدان يعبرون عن شريحة عريضة من المجتمع تدفعها مشاعر الوطنية وأخلاق الطبقة الوسطي إلي الفرح بالنصر والاكتفاء بالمنجزات التي تحققت رغم أن المعركة الثورية لم تنتهي بعد.
أحدهم تسلق تمثال طلعت حرب وسط ميدانه الشهير، وقام بوضع علم بين يديه، العلم كان موجوداً في كل مكان، في أيدي المتظاهرين، وعلي السيارات المارة، واجهات المحلات التجارية. وعلي بعض المباني فهناك علم ضخم مفرود بطول المبني ومكتوب عليه "تحية إلي ثورة شباب 25 يناير". صاحب أحد المحال التجارية علق علي واجهتها مجموعة من الشعارات تحية لثورة الشباب، وفي المنتصف علي ورقة بيضاء كتب "ميدان التحرير.. ميدان أحلامي". الباعة الجائلون كانوا يمرحون في كل شوارع وسط البلد، يفرشون بضاعتهم بانتظام وهدوء وأمان لم يشعروا به من قبل، لا عسكري مرور سوف يأتي ليطلب علبة سجائر رشوة، ولا شرطية بلدية سوف تجري وراءهم في مطاردات بوليسية. بضاعتهم أيضاً تغيرت. أصبحت البضاعة الأكثر رواجاً في وسط البلد علم مصر بأحجام متعددة، وشارات بلاستيكية صغيرة يتم تعليقها في الرقبة وتحمل علم مصر ومكتوب عليها "ثورة 25 يناير" أو "شباب الثورة". كان المتظاهرون يستخدمون هذه الشارة لتمييز أنفسهم وكعلامة مميزة للشباب الموكل إليهم مهام الحراسة والاطلاع علي هويات القادمين وتفتيشهم للتأكد من عدم حملهم لأي نوع من الأسلحة.
انسحبت الحالة الاحتفالية من الميدان مع تدخل قوات الجيش وفتحها للطريق، لينتشر العشرات من ضباط وقوات الشرطة العسكرية لتنظيم حركة المرور في الوقت الذي يستمر فيه غياب الشرطة. لكن مع ذلك يستمر توافد العائلات من جميع أرجاء القاهرة لزيارة الميدان الذي تحول فجأة إلي النزهة المفضلة لدي هذه العائلات، الزيارة تبدأ بشراء الأعلام للأطفال، ثم التقدم نحو الميدان لالتقاط الصور مع الدبابات والمدرعات. ضابط في الجيش برتبة كبيرة كان تائهاً وسط الزحام، يحاول السيطرة علي الأطفال الذين يتقافزون حوله لالتقاط الصور مع المدرعة "بس يا بابا"، "انزل يا حبيبي من هنا". حتي عساكر وضباط الشرطة العسكرية الذين كانوا موجودين دائماً في أنحاء متفرقة من القاهرة لم يسلموا من هيستيريا التقاط الصور، وسط الميدان وقف ضابط من الشرطة العسكرية يستريح مستنداً إلي أحد الأسوار تقدم منه شاب صغير ووقف إلي جانبه مبتسما بينما صديقه يلتقط له صورة مع هذا الضابط المنهك، المصور علي ما يبدو لم يكن راضياً عن الصورة، أزاح الموبايل وقال للضابط "أنت مابتضحكش ليه؟ اضحك علشان الصورة تطلع حلوة".