في الدير قرر أن يمضي مابقي له من العمر. يسهر مع عُصبة المجّان حتي الصبح ويدرّب روحه علي نسيان كبريائه كلما هيّجه التصاق رداء بردف أو اندلاعة ثدي من طوق امرأة. كان في العشرين حين وجد نفسه هكذا تذهب القوافل وتعود والخزائن لا تشبع. خزانته، أيضا، كمعدته وخصيتيه ونافورة رغباته تمتليء وتفرغ تمتليء لتفرغ. وخمور أهل الذمّة في صيف بغداد اللاهب تسلمه إلي صداقة كائنات الليل فيخلط دمها بدمه كأنه محارب يؤاخي صاحبه رآه كثيرون يسرف في تملق بائع الخمر الأشوري كي يجود بما في خزائنه السريّة وكم تعامل مع المرابي بل مرّةً رهن نفسه لديه حتي يعود رفاقه بالمال بعدما سكروا. وقيل إنه انتمي لعصبة مخبولين يذرعون الليل باحثين عن شيء غامض وحين تحتدّ سورته يهتف: بيديّ هاتين سأعتصر النهود المنبثق كثمرة غضَّة أو السائل كحيوان كسول يتمدد في الدفء سألج كلّ فرج المستعرض كقدح مكفوء والفائر كجرح صغير نسي الطبيب أن يخيط ضفتيه لكنه مصادفة وتحت ضوء شمعة ترتعش ذُبالتها في قلاّية راهب قبطي رآها، المرأة التي توزّع سحرها بين عيني النمرة المتوثّبة والفم الواسع المتطلّب. أخبره الراهب أنها مجرد امرأة ولكي لا تفسد عليه الصلاة تعلّم أن يرسمها ليستلّ سُمّها منذ عرف كيف يمزج الألوان من سادن معبد وثني في »أخميم« حينما كان وثنيًا »أتحبها أيها العجوز؟« سأل ببلاهة شاب بغدادي خليّ وردّ الشيخ »بيني وبين كل شيء يقف المسيح في المنتصف«. أُنْسِي الفتي ما جاء من أجله وظلّ صامتًا يحدّق مشدوهًا ولكي تكتمل حكايته أوغل في التحديق حتي غادرتْ موضعها. كانت هائمةً في الفضاء فارتدته نائمةً، فأيقظها بلمعان عينيه تلّبسته جاسدتهكلما جلس إلي شراب استلت روحه فصار ماء قراحًا كلما مدّ يده إلي ثدي أو عنق جمدت يدهُ في الهواء. يراها، هناك، في القدح المترعِ باسمةً تدعوه أن يتبعها. قال الرواة »طار لبُّه«. قال المجّان من عصبته ساخرين »صعد يتذوق فاكهة الحور والولدان« وقال الراهب القبطي »قرأت ما خطّه الربّ علي جبينه«. أما هو فتعلم الصمت كما تتعلم الثكلي مديح الصبر. سري في الصحراء فوق سنام ناقته محدّقًا في الفراغ كأنما عرف لغة الطير. يرمقه رفاق السفر وهو يتناغم مع دورة النور والعتمة وقد صار كلُّ شيء مقبولاً من صدم الحشرات الليلية المضيئة للعينين حتي لمعان النيازك وسراب الظهيرة. لكن قصته لم تبلغ بعد مصبّها كتاجر أُوْرِثَ كلَّ نعمة هبط المدينة الكبيرة تاركا عماله يصرفون ما ناءت بحمله الجمال وراح يشقّ في القاهرة. عام طويلٌ من العطالة يصوم عن النوم والخمر والكلام يختلق في عزلته غير المرئية أسمارًا وأباطيل عن بلاد لم يرها ويلقيها صامتًا علي مسامع الفجر الكاذب والفجر الصادق. ثم يجثو علي صخور »المقطم« الباردة في جوف الليل حيث تسهو المرضعة عن طفلها فيري روحه، هناك، ترتجف كنبتة حين كان ما يزال سرًا بين الماء والطين. عام طويلٌ من العطالة وزجر الروح حتي رآه قدرُه ماشيا. رفّت علي شفتي الطفل اللعوب ابتسامته وأطلق السهم فإذا بالمرأة الصغيرة ملمومة الردفين في طريقه: عيناها، استدارة الوجه المتورد الأنف الشامخ مع رّقة الأطراف وصراحتها كأنها غادرت رسمة الكاهن ملتفّة بملاءتها الحريرية. قال كارهوها »امرأة لا تردّ يدَّ لامسٍ فمات أبواها قهرًا« فصّدّقهم ودقّ بابها حاملاً الخمر والشواء بعدما مهدت له العجائز الطريق العجائز النساء اللاتي فقدن أسنانهن ونما علي شفاههن شعر خفيف نداهنهن كي يصلننا بالجميلات ثم نسبهن في مجالس اللغو والشراب نحن الرجال من مصر وطرابلس والرها الذين يتحدثون عن مخادعهم وليلةً وراء ليلة صار مفلسًا وحين أمسكوا به وهو يسرق ظلّ صامتًا وبعدما قطعوا يمينه من الرسغ ظلّ صامتا وحتي بعدما تأكدوا أنه مظلوم ودفعوا ديّة يده ظل صامتًا وبعدما سمر وشرب وطعم وضاجع كمن رأي ملاك الموت مقبلاً قادته من يده السليمة إلي حجرة مهملة »ها هو كلَّ ما حملت إلي من ذهب« قالت وهي تبكي هكذا هربا من راوي الحكايات في مقهاه بعدما عذبهما بالوقائع وأباحهما لألسنة المصريين ونكاتهم كم سكندريّ عجوز شَخَرَ وهو ينفث دخان نارجيلته ساخرًا من بلاهته كم مراهق استخدم إصبعه الوسطي والشاعر يصف كيف لبسته كما تلبس جنيّة رجلاً هكذا تمردا علي الراوي وسامعيه وجاءا إليّ. الفتي ويده المنقوصة علامة ترفرف والفتاة علي وجهها إرهاق العاشقة و»الموديل« وأنا لا أعرف من كنتُ فيهما. أنتِ يا من أروي لها، فتواصل الكلام لتصبح هي الحكاية وجوهرها، أنت يا حبيبتي: أيّ دورٍ تختارين؟