لم تكن مطبوعات الجمعية الأدبية المصرية جهة نشر بالمعني التقليدي، بقدر ما كانت جماعة تسعي إلي خلق اتجاه فني وإبداعي وفكري في الحياة الثقافية المصرية، وكان أعضاؤها ليسوا مشغولين بفكرة النشر العام، بقدر ما كانت مطبوعاتهم تعبر عنهم، وعن توجهاتهم الأدبية، وكانت إبداعاتهم نتاج مناقشات ساخنة بينهم، وتمتد إلي جلسات عديدة، ويمكن أن يغير العضو بعض ما كتبه بناء علي نتائج هذه المناقشات، هكذا ولد ديوان الشاعر صلاح عبدالصبور - الناس في بلادي -، فالذي يعقد مقارنة بين قصائد هذا الديوان، وهي منشورة منجمة في المجلات، وبينها بعد ما نشرت في الديوان، سيلاحظ الفرق واضحا تماما في التغيير والتبديل والحذف الذي طرأ علي القصائد. وتتميز هذه الجماعة أو الجمعية أن كل أعضائها كانوا أبناء تاريخ مشترك، منذ الجامعة، حتي تشكلت الجمعية في المنتصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وبدأ هذا التاريخ منذ أواخر الأربعينيات، وتكونت عادات وقيم وأفكار كانت وأصبحت قوام هذه الجماعة، الجمعية، وسط تيارات عاتية، ومنابر حكومية قوية، وماكينات أدبية تعتمد علي مد سياسي عارم، ودعم حكومي متصل، فلا يستهين المرء بقوة رجل مثل الأديب والضابط والمسئول الثقافي يوسف السباعي، والذي كان يمد بظله علي جميع جماعات الأدب والثقافة، ووبشكل ركيزة أساسية لهذه الجماعات، وهذا بالطبع بدعم حكومي قوي، إن لم يكن بتكليف رسمي من حكومة الثورة، ولم يكن السباعي بعيدا عن دعم تيارات واتجاهات أخري راديكالية، أو غير ذلك، فكانت مجلته الجديدة، والتي قامت علي جثة مجلة قديمة، أي مجلة »الرسالة الجديدة«، التي حلت محل مجلة »الرسالة« لأحمد حسن الزيات، تجد دعما ومساهمات من كتاب ماركسيين وذوي خطة جديدة للثقافة مثل محمود أمين العالم، وأبو سيف يوسف، ونجيب سرور، ولطفي الخولي، ومحمود السعدني، إلي جوار كتاب راسخين - ينتمون إلي فكر ما قبل ثورة يوليو، مثل طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد فريد أبوحديد وعباس حافظ، وغيرهم، وكان علي هامش هذا التيار الحكومي الجديد المتطلع والطامح إلي تغيير وجه الثقافة في مصر إلي الأفضل، وفي الوقت ذاته يحاول استيعاب الجميع في بوتقة واحدة، كانت هناك دور نشر يسارية نشأت في ظل المصالحة المؤقتة المعقودة بين الماركسيين والدولة، فكانت دار الفكر ودار النديم ودار الديمقراطية، وكان المشرفون علي هذه الدور، وهم في الأساس شعراء وكتاب ومناضلون سياسيون ينتمون لأحزاب سياسية يسارية، ينشرون إبداعاتهم وأفكارهم بقوة، ويعبرون عن أنفسهم بوضوح.. لذلك حاولت هذه الجماعة أو الجمعية الأدبية أن تنأي بنفسها - قليلا - عن مثل هذا الزحام، فكونوا جمعيتهم بناء علي قناعات راسخة عندهم منذ زمن ما قبل الثورة، وكان الأعضاء الأساسيون في هذه الجماعة، أي الأعضاء المؤسسين هم الشاعر محمد صلاح الدين عبدالصبور، والقاص والروائي عبدالرحمن فهمي، والشاعر والناقد عزالدين اسماعيل، والشاعر والناقد والقاص أحمد كمال زكي، والقاص والروائي والباحث في الأدب الشعبي فاروق خورشيد، ثم الشاعر والقاص والمترجم عبدالغفار مكاوي، وانضم إليهم فيما بعد الناقد عبدالقادر القط، والنقاد شكري محمد عياد، والقاص والروائي محمد فريد أبو حديد. وكان التيار الطاغي علي هذه الجماعة، هو تيار القص، ذلك أن معظمهم كتاب قصة، وإن الشعراء الذين ضمتهم الجماعة، تأثروا بهذا التيار، أو الحس، ولذلك سنجد هذا التأثر واضحا تماما في ديوان - الناس في بلادي- لصلاح عبدالصبور، ويكتب عبدالرحمن فهمي في دراسة له عنوانها: (الرؤية القصصية في شعر صلاح عبدالصبور، كانت لنا عادة التزمنا بها منذ أن كنا طلابا ندرس الأدب في الجامعة في أواخر الأربعينيات ولازمتنا بعد التخرج حتي كونا الجمعية الأدبية المصرية، وظللنا ملتزمين بها بعد أن تقدمت بنا السن واستبان كل واحد منا طريقه في الأدب، هذه العادة كانت أن يقرأ كل منا علي الآخرين ما كتب فيناقشوه تحليلا ونقدا وتصويرا إن كان في حاجة إلي تصويب، وقد أدي هذا إلي أن تفتحت عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا علي بعضنا البعض، فتداخلت أعمالنا الفنية تداخلا قلما تجده عند جماعة أدبية أخري«، وبالفعل انعدمت هذه الصفة عند جماعات أخري، فلا نلحظها - مثلا - عند شعراء الديوان، فكل منهم يشطح في واد، حتي شعراء أبوللو كذلك، لايشبه أحد أحدا، حتي عندما كتب محمود أمين العالم وعبدالعظيم كتابهما المشترك: »في الثقافة المصرية« كانا مختلفين بشكل واضح، وهذا ما لا نلاحظه عند مبدعي وكتاب الجمعية الأدبية، لذلك عندما ظهر الإصدار الأول للجمعية عام 8591، تحت عنوان: (قصص من مصر)، واشترك فيه كل من: سهير القلماوي، ومحمد فريد أبوحديد، وفاروق خورشيد، وعبدالرحمن فهمي، وشكري محمد عياد، وعبدالغفار مكاوي، وأحمد كمال زكي، مع دراسة نقدية لعزالدين اسماعيل، اتضح التشابه بين هذه القصص، وإن كان عزالدين اسماعيل، يبدي صعوبة دراسة هذه القصص لأنها ليست لمؤلف واحد، ويوضح أن هناك اختلافات بين أي مجموعة قصصية لمؤلف واحد، ومجموعة قصصية لمجموعة مؤلفين، لأن الأخيرة: (تعرض علينا نماذج من التفكير متباينة، وأشكالا فنية مفترقة، وألوانا من الخبرات الثرية المنوعة، انها معرض لاتتكرر فيه المشاهد أو الخطوط أو الشخوص، بل تتمايز فيه اللمسة عن اللمسة، والإيماءة عن الإيماءة، واللمعة عن اللمعة، حتي إن الانسان ليذهل بغني هذا المعرض عن أن يتأمله جملة من بعيد ويخضعه للنظرة الموضوعية)، وفي هذه الدراسة الممتازة والتأسيسية لعزالدين اسماعيل، يستعرض الناقد أنماطا أربعة من الكتابة القصصية، ويفصلها ويحاول تطبيقها علي قصص المجموعة، ويكتب الناقد »موضحا« هذه الأنماط قائلا: النمط الأول تحس فيه بأن الكاتب يتحدث معك (لا إليك!)، والنمط الثاني تحس فيه بأن الكاتب يتحدث عن نفسه، والنمط الثالث تحس فيه بالكاتب مع بطله وأبطاله، والنمط الرابع تحس فيه بالأبطال مع بعضهم البعض، ولاتكاد تحس بالكاتب، وأظن أن هذه الدراسة لعبت دورا كبيرا في توجيه الدراسات عن القصة القصيرة فيما بعد. بعد ذلك صدرت أعمال نقدية وإبداعية مهمة وجادة، منها: في البداية العربية (عصر التجميع) للباحث والقاص فاروق خورشيد، ثم كتاب: (مصر العربية) لحسين نصار، ثم ديوان: (أناشيد صغيرة) لأحمد كمال زكي، وكان من عادة أعضاء هذه الجماعة أن يقدم أحدهم للآخر، فكان التقديم الذي جاء في ديوان (أناشيد صغيرة)، كتبه فاروق خورشيد، ولم يطلق عليه دراسة نقدية، أو حتي لم نقرأ في بدايته كلمة تقديم، ولكن آثر خورشيد أن يسميها: (كلمة من صديق)، وهذه الروح كانت سائدة بين هذه الجماعة/ الجمعية، وفي هذه الكلمة حاول خورشيد أن يتلمس بعض الملامح التي وسمت قصائد زكي، أولي هذه السمات أن الشاعر من الملتزمين لقيود الشعر القديم بحرفيتها، وليس ممن يمكن أن نسميهم بالشعراء التقليديين، وهناك ملمح آخر يرصده خورشيد يتعلق بالألوان، ثم اختيار الألفاظ، وإحساسه الحاد بالكلمة، وأن الألوان معبرة عن المعني الذي يرد في سياق القصيدة.
توالت الاصدارات فيما بعد، مثل »سوزي والذكريات«.. وهي مجموعة قصص قصيرة لعبدالرحمن فهمي، وصدرت له أيضا مسرحية تحت عنوان: (الحرب)، وكتب لها عز الدين اسماعيل تذييلا نقديا وافيا يقرر فيه أن: (الكاتب ليس متشائما وليس ناقما علي البشرية، وانما هو علي نقيض ذلك، يسعي إلي كشف الخطورة علي القيم الانسانية حين تقع الحرب، فعند ذلك يفقد الانسان آدميته، وتتمزق مثله، بضرورة لامحيص له عنها)، وأظن أن عبدالرحمن فهمي أحد الكتاب الذين ظلموا بضراوة، خاصة أنه لم تخضع رواياته التاريخية لأي نقد تطبيقي، حيث إنه كان هو وجماعته لايجيدون التسويق والترويج لإبداعه، مثله مثل عبدالغفار مكاوي الذي اختصرناه في ترجماته العظيمة، واستبعدنا من إنتاجه الشعر والقصص والمسرحيات التي كتبها في العقود السابقة، أيضا صدر كتاب هام لفاروق خورشيد، وهو: (بين الأدب والصحافة)، كذلك كتاب (أصوات العصر) للشاعر صلاح عبدالصبور، ومطبوعات أخري كثيرة، والجدير بالذكر أن أعضاء هذه الجماعة ظلوا يجتمعون ويلتقون أسبوعيا حتي انفرط العقد برحيل معظمهم، فرحل عبدالصبور، وعزالدين اسماعيل، وفاروق خورشيد، وشكري عياد، وأطال الله عمر الدكتور المبدع والمترجم عبدالغفار مكاوي.. بقي أن أقول إن هذه الجماعة، رغم أنها نشأت علي هامش جماعات أو كيانات عملاقة، إلا أنها كانت مؤثرة علي مستويات عديدة في الشعر والقصة والترجمة، وخاصة حقل التجريب بقوة، بين مناخات يؤمن كل فرد بيقين شبه ديني.