هذا كتاب بعنوان " بارتلبي وأصحابه " للروائي الأسباني " أنريكه _ بيلا _ ماتاس " صدر مؤخرا عن دار سنابل التي يشرف عليها د. طلعت شاهين . ويتطرق الكتاب إلي أحد الأسئلة الهامة التي تمر بعقلنا أحيانا، ولا نجد إجابة عنها ، فندعها تواصل طريقها إلي خارج التأمل ، أعني : ما السر وراء توقف بعض الأدباء الكبار عن الكتابة ؟ وهل ثمة قاسم مشترك بين حالات أولئك الكتاب أم أن لكل أديب ظروفه ودوافعه الفكرية والنفسية الخاصة؟. المؤلف " أنريكه_ ماتاس " روائي ، ومن ثم فإن اقترابه من السؤال المطروح اقتراب مشبع بخبرة وثقافة عميقة من التفاعلات التي يتم البحث في طبيعتها . يؤكد المؤلف أن السؤال " لماذا يتوقفون ؟ " يمكن طرحه بشكل مضاد : " ولم يكتبون؟! ما جدوي الكتابة ؟ ". يستعرض المؤلف أشهر حالات الأدباء الذين هجروا الأدب مثل الشاعر الفرنسي رامبو الذي ترك الشعر نهائيا بعد كتابه الثاني وهو في التاسعة عشرة بحثا عن المغامرة . وهنا يبرز أحد أسباب هجرة الأدب الذي سيرد في حالات أخري، أي الاعتقاد القوي بأن الحياة يجب أن تعاش أساسا ولا يمكن للإنسان أن ينقطع عن تيارها الحي ويعتزلها بحياة الراهب القاسية لأجل مجرد كلمات . ما الذي يكسبه المرء إن ظل حبيس حجرة محروما من المتع وكسب رواية ؟ . هناك اعتبار آخر يقف وراء هجرة الأدب ، أعني ضياع الإيمان بأهمية الكتابة الذي يقود لما قاله " جاك فاشيه " من أن الفن ببساطة " حماقة " ، قالها وانتحر . ويكرر " بيدرو كاردوبا " المعني نفسه بعبارة أخري قائلا : " أعتقد أن الفن قد يكون مجرد بخار.. " . فقدان الثقة في أهمية الكتابة قد يقود لوضع كالذي اختاره " جيرومي سالنجر " الذي ترك أربعة كتب هامة ثم لزم الصمت التام لأكثر من ثلاثين عاما من دون أن يكتب حرفا واحدا ، مثله مثل الكاتب الأرجنتيني " أنريكه بانش " الذي نشر عملا رائعا هو " صندوق الاقتراع " ثم أحاط نفسه بالصمت والغموض لخمسة وثلاثين عاما . السبب الآخر للتوقف الأدبي كما يراه المؤلف هو " نضوب الكاتب " ، ويعترف " جوردي لوبيت " بأنه هجر الكتابة الإبداعية منذ وقت طويل لافتقاره إلي الخيال الخصب . ويؤكد " هوفمانستال " المعني ذاته حين يقول : " في حالتي وباختصار أقول إنني فقدت كل قدرة علي التفكير أو الحديث عن أي شيء بصورة جيدة " . لكن كيف ينضب الكاتب ؟ لأي سبب ؟ . أدباء آخرون كتبوا أعمالا رائعة ثم هجروا الأدب لأسباب أخري تماما ، أسباب صحية لكنها ليست منبتة الصلة بالوضع النفسي للكاتب ، فهناك " هولدرين " الذي نهشه الجنون ، وهناك " والسر " الذي قضي العشرين عاما الأخيرة من حياته في مصح عقلي ، ولهذا تحديدا يقول " برناردو أتشاجا " : " لكي تكون كاتبا فإنك بحاجة لطاقة جسدية أكثر من حاجتك إلي الخيال " ! ولهذا نري كتابا تركوا آثرا عظيما ثم اختفوا بسبب المخدرات التي قضت عليهم مثل " توماس دي كينزي " الذي ترك نصا واحدا ممتازا هو " اعترافات انجليزي مدمن أفيون " . الآن نمضي إلي الحالة الأكثر تعقدا ، أقصد حين يتوقف الكاتب لأنه فقد الطريق الصحيح إلي الكتابة الحقيقية ، وهو ما حدث مع " ماريا منديس " التي برزت في وقت كان الشائع فيه كتابة روايات بدون أي محتوي ماعدا وصف الأشياء بدقة متناهية : المنضدة ، الكرسي ، المقص ، إلي آخره ، وهكذا عندما أنهت ماريا ثلاثين صفحة من رواية لها في وصف زجاجة مياه ، كانت الرواية قد انغلقت أمامها . الأمر نفسه بطريقة أخري حدث مع " كالو أميليو جادا " الذي كان يبدأ رواياته بشكل جيد وسرعان ما تكبر وتتسع وتخرج عن السيطرة ، فيسقط في الصمت الأدبي ، وينضم إلي أولئك الأدباء الذين قد يكتبون بدون أدني جهد عملا فذا ، ثم يستيقظون ذات يوم وهم عاجزون أدبيا إلي الأبد . كتاب " بارتلبي وأصحابه " ممتع لمن يكتبون وتشغلهم تلك القضايا ، أما من هو " بارتلبي " فإنني أتركها لمن سيقرأ ، فلا يعقل أن أفسر كل شيء. ahmad _alkhamisi @ yahoo .com