الصغيرة الصغيرة كانت تعطيني كل ما تملكته من الآخرين، فاذا ما ابتاع لها أحد اقاربها بعض الحلوي تأتيني مسرعة تفرغ محتويات الكيس امامي، لاشاركها فرحتها. مازحتها مرة.. سأخذ لبانة.. صرخت : »لا.. تاعتي لوحدي انا بس«.. تأملت الكلمات وهي تخرج من بين شفاه نبتت منذ عامين. مرة وراء مرة مزقت انانيتها وأكلت واحدة.. عندما التفتت.. حدقت في الورقة الفارغة بيدي وفمي الذي يتشدق.. رمت بنفسها فوق الارض، تخبط رأسها وقدميها.. وابدا لم استطع مصالحتها. عندما فعلتها ثانية كان احتياجها اقل، وفي المرة الثالثة رمقتني بنظرة طويلة ثم احتضنت اشياءها ومضت. وفي المرة الرابعة كانت تخفي حلواها تحت وسادتها وتربت عليها أن ابقي حتي اعود. نقطة سوداء رنات الهاتف متوالية.. نظرت إليه.. تري الرقم، خواطر كثيرة تدور ببالها.. منذ متي لم تتحدث إليها؟! تعلم من هي، ولكنها لا تعلم »ماذا تريد«؟! تقترب منه، تبسط يديها نحوه في ارتجاف.. ترفع السماعة. - نعم جدتي.. - نور.. والدتك حضرت مساء أمس.. تريد ان تراك فلتأت غدا أو اليوم، فكم هي مشتاقة إليك! نور.. لماذا لا تردين علي ؟ نور.. نور - نعم جدتي.. ابلغيها أنني لا أريد أن أراها.. أرجوك جدتي، أغلقي الهاتف.. إزداد ارتجافها، اشتد اختناقها، انتابها شعور بالضيق، ظلت تبكي وتبكي.. غابت في البكاء، ولكن الماضي لم يغب عنها، ظلت تتذكر ما نسيه الاخرون عدا هي.. اليوم تطلب رؤيتها بعد تسعة عشر عاما.. ابتسمت نور ساخرة مستنكرة.. ضاحكة باكية.. كم طلبت نور ان تري والدتها مرات ومرات ! كم كانت ترسل إليها! وكانت الرسائل تهوي للقمامة ولا تأتيها اجابات.. وإن كان الرد يكون كفيلا بأن يميتها، وكأن الطلاق اطلق سراحها، فلم تعد تتذكر ما حولها، ولا أولادها.. رحلت بعيدا تاركة خلفها طفلة تفتقر الحنان. قالت في نفسها: كم كنت اتمني أن تربت علي أمي! ان تغمرني بحنانها، كم تمنيت كلما ضاق صدري ان يسعني صدرها! كلما طلبت رؤيتها يستهزئون بي، يقولون: لن ينقصنا سوي الصغار. وكأنني أبحث عن الحنان المستعار، اخذها العمل بالقاهرة فقهرتني.. أطفات نوري عندما ظلمتني. قالت لها زوجة خالها، لا تلحي كثيرا في رؤياها، فان كانت تريدك لأتتك مهرولة وانصحك بألا تسألي، فلن تجابي، ولا تطلبي ، فلن تطاعي تذكرت كم مرة عزمت علي أن تنسي أن لها أما! حاولت أن تجد لها مبررات، ولكن ما الذي يجعل اما تطلب الطلاق دون اسباب؟! تترك طفلة صغيرة عمرها سنتان، وترحل الي القاهرة لتعمل بها!! انها حتي لا تعلم عنها شيئا، ولا ماذا تعمل؟.. تظل طيلة هذه السنوات قاسية القلب علي ابنتها، بينما ابنتها حفت قدماها من كثرة الذهاب والاياب سؤالا وتجوالا، بحثا عن أمها. تذكرت كل هذا وهي تبكي. ولكن بداخلها حنين يسبقها إليها.. إنها هي من انتظرت ان تراها منذ زمن. رن الهاتف مرة اخري ، أسرعت إليه، وجدتها هي.. نعم. انها هي.. عرفتها منذ ان تفوهت باسمها، علمت صوتها الذي لم تسمعه من قبل.. تضاربت مشاعرها.. سعيدة.. شقية.. فرحة.. تعسة.. تبسمت.. بكت.. انساب دمعها، وضعت الهاتف دون ان تتفوه بكلمة، ضاقت الحجرات بها، كادت ان تنطبق فوقها، تخرج من حجرة لاخري، تسمع ضحكات عالية وصراخا.. تتراءي امامها بأشكال كثيرة. تفر خارج الشقة الي الشقة المقابلة، تطلب من جارتها وزميلتها »مها« ان تأتي وتجلس معها.. يذهبان معا.. سرعان ما دق جرس الباب.. فتحت »مها« تقدمت سيدة في الخمسينيات من العمر، مسحت نظراتها الاشياء، وجدت فتاتين - نور بجانب مها - فاحتارت بناظريها أين ابنتها؟! ، ارادت ان يهديها قلبها إليها، وجدت نفسها تحيرت، ملامح وجهها شحبت.. تغيرت.. سألت: من منكما نور«؟! لاذت الاثنتان بالصمت، قالت مها: اذا لم يهدك قلبك فتأكدي أنها ليست هنا.. بحثت فيهما عن ربيع عمرها بخريف عينيها، قالت »نور«.. تري من منا نور؟! فلم تنبس بكلمة، فالمال الذي رحلت لاجله محا ملامح ابنتها البريئة، الحائط الذي علا في سنوات لا يمكن هدمه في لحظات، تركتهما، ومضت، تتبعاها من النافذة، كانت المسافة بينهن تتسع تدريجيا، حتي غدت كنقطة سوداء في بداية الطريق.