علي قلق.. يستيقظ في الليل مرات، تبدأ النوبة بحشرجة في صدره، ويغيب في سعال طويل، يكاد يزهق روحه، تغرورق عيناه بالدموع، يحمّر وجهه بعد اصفرار، ثم يبصق.. وينهد علي مصطبة قديمة، يحرص علي التلفع الدائم في »كبرتاية« تحميه من هجوم الشتاء، جاء من آخر البلد علي حمارة ضخمة لها بطن عظيم »ربنا يديها ساعة فرج« مجيئه قبل دخول الظلام.. معناه مبيت ليلة مع ابنته وابنها الصغير ليحميها من الوحدة.. من الشتاء »ليل الشتا مرار« في الشتا السرقة وتقب البيوت »كل حاجة غليت شوال الدقيق بتلاتة وتلاتين جنيه ومحدش لاقيه«. حين يبدأ حوارهما معاً فكأن آخر الزمان يتحدث إلي أوله.. يتأمله.. يتناول عشاءه بزهد.. قطعة جبن وحبة طماطم مع بيضة مسلوقة إن وجد.. »ليه يا جد مبتحبش الطبيخ«.. يراقبه.. يلاحظ في يديه ارتعاشة، وهي ممسكة بقطعة من »صفار« البيضة.. تهتز يده وهو يتجه بها إلي تل الملح الصغير المفرغ علي سطح طبلية قديمة، تفسخت بعض ألواحها بفعل الزمن، تلكزه بغضب حين يستفسر عن ارتعاشة يدي جده المستمرة.. رأي نصف حبّة الطماطم، تسقط من يده المرتعشة علي الأرض.. »عيب جدك يزعل ربنا يشفيه« في سرها تنصح.. تصنع له الشاي المر »باندفاع طفولي« انت ليه يا جد بتشرب الشاي المر.. يفتر ثغره عن أسنان صفراء بفعل دخان اللف.. »زمان يا وليدي كانت أحلي كوباية الشاي بست معالق مليانين.. الله يلعنك يا زمن«.. كيف يا جد بتشرب الشاي المر..؟! انفلت عيار أسئلته حين تركتهما معاً، وذهبت تحلب الجاموسة »أنا مقدرش أدوقه مر..« يضحك بسعال.. ثم يبصق علي الأرض »دماً وبلغماً« يتأذي الولد.. يردم بصاقه بحفنة من رماد الراكية المستقرة أسفل المصطبة »هات شوية عضم شامي.. نقيد لهلوب« علمَّه كيف ترص قوالح الذرة بمهارة.. يوقدها دون استخدام قطرة جاز واحدة »يبدأ اللهب ضعيفاً مختنقاً بالدخان.. ويشتد لسان اللهب شيئاً فشيئاً حتي يتدفأ المكان ويتلاشي الدخان.. تأكل النار قوالح الذرة.. تضحك من مهارته.. هي نفسها لا تعرف كيف تشعل قوالح الذرة إلا مع تحفيزها بالجاز والورق القديم.. تحيل الورقة إليه قبل أن تحرقها، ربما تكون شيئاً مهماً، قد تكون حجة الدار أو ورقة امتحان.. تعرف إيصال النور لأن شكله مميز.. بعد أن ينادي المنادي علي أهالي القرية الكرام.. الحضور فوراً أمام مسجد »الشيخ علي« لسداد أقساط النور.. ومن يتخلف عن الحضور.. سيعاقب برفع العداد والغرامة.. واليوم آخر موعد لسداد أقساط النور.. ونحن في خدمتكم.. وشكراً. تتحسر علي أنها لم تتعلم.. تأكل النار بعضها، وتبدأ ألسنة اللهب في الاضمحلال.. أحياناً تواجه والدها »ظلمتني يابا.. معلمتنيش« يضحك بحذر حتي لا يسعل.. يلوح بإحدي يديه في رفق »مكنتيش هتنفعي«.. يختفي لسان اللهب.. تشع حرارة القوالح الرائقة، حين ينادي المنادي علي إيصال النور.. ترسل وليدها بخمسة جنيهات.. هات الوصل وهات الباقي.. قوله بتاع عبدالحليم رضوان.. » اوعي تجيب وصل حد تاني«. »أعملك شاي« يرفض بإيماءة من وجهه.. لأن يديه معقوفتان علي ركبتيه.. مسلماً جسده للدفء.. يكره فصل الشتاء.. فيه يزداد السعال ويأتيه المرض من كل حدب وصوب.. يدس يده في »الصديري« يخرج علبة صفيح عليها صدأ، يفتحها »ورقة بفرة« بحرص شديد وعناية.. يلفها.. يأخذ وقتاً طويلاً، لأن يده ترتعش، يكمل إحكام لفها بعد تمريرها علي لسانه.. يشعلها.. تنتفض بعد أن سرقتها سنةُ من النوم.. قبل أن يبدأ في لف السيجارة بقليل »إمتي ربنا يتوب عليك من السجاير يابا« يدخن نصفها.. ويروح في سعال.. يطفئ نصفها.. ضاق جسمه بالأمراض.. آخر مرة أحضر طفلها »ايصال النور« بثلاثة جنيهات وسبعين قرشاً.. من يومها، وهي تطفئ اللمبة التي تنير للبهائم، »تطفئ لمبة الشارع« نورها لله لكن »العين بصيرة، والإيد قصيرة« متقلقيش يا وليدي.. جوزك هيتصل يوم الخميس.. ثلاثة شهور غائب.. أهدروا كل مليم ادخرته لنائبات الدهر.. استدانت.. »الحمل تقل عليَّ يابا«.. لا تستطيع أن تبوح لوالدها بالوجع.. بدأ البرد ينتعش بعد خمود الجمرات.. بعود حطب، ويد مرتعشة.. يُقلب الرماد بحثاً عن جمر.. عن وميض.. خمدت النار.. تثاءل الولد.. جمع رجيله بعد أن فردهما في البطانية الخشنة.. جمعهما إلي صدره ليزداد دفئاً.. دس رأسه في البطانية والمخدة.. واستسلم لدفء الليل وأحلام الشتاء.