لم يكتف فوستين لينييكولا في مسرحيته الجديدة، بالتمرد علي لغة راسين الشعرية الرصينة، ولكنه تمرد أيضا علي تقاليد المسرح الفرنسي العريقة وعاداته الراسخة في تعاملها مع مآسي راسين وكلاسيكياته الموقرة، وكأنه بهذا التمرد يطرح عن نفسه أوزار التابع. لكن الأهم في العرض الذي قدمه في آفينيون، هو أنه نقل المسرحية كلها إلي بلده الكونغو الذي تمزقه الصراعات الدموية، وموضعها في سياق تجربته التاريخية مع الاستقلال منذ لومومبا وحتي الآن. كما موضعها في سياق تجربة الكونغو مع اللغة الفرنسية والتاريخ الاستعماري الذي جعل هذه اللغة هي اللغة الرسمية للبلاد، بالرغم من أن أغلبية السكان لا تتكلمها. كما تسائل المسرحية عبء هذا التاريخ الثقيل، الذي استخدم الآخر حينما كان مناسبا للمستعمِر استخدامه، ثم التخلي عنه والتملص كليه منه، حينما يناسبه ذلك دون أي اعتبار لمشاعر هذا الآخر ناهيك عن احتياجاته، كما كان الحال مع بيرينيس، ملكة فلسطين. وقد جسد العرض كل تلك القضايا بحساسية وشاعرية معا. فما أن يأتي الممثلون الأفارقة الستة (ثلاث نساء وثلاثة رجال) وقد دهنوا وجوههم بطلاء أبيض (وكأنهم يجسدون مقولة فرانز فانون الشهيرة: جلد أسود وأقنعة بيضاء) يجعلهم أقرب للمهرجين، أو المشوهين، حتي تدرك أن التجربة الاستعمارية التي زرعت داخل الأسود قناعا أبيض هي تجرية تشويه إنساني وثقافي. وهناك ممثل سابع وحيد أسود (قام بدوره فوستين لينييكولا نفسه)، ولاحظ دلالة الرقم، لم يدهن وجهه بقناع أبيض، وبقي علي طبيعته الأفريقية شبه عار تحت هذا السلم المعلق الذي لا يرتكز علي أرض ثابته، ولا يؤدي إلي شيء، صامت، يقوم في بعض الأحيان برقصات بارعة، ولكنها من نوع من يرقص مذبوحا من الألم. بقي هذا الممثل حاضرا طوال العرض وكأنه تجسيد للضمير الأفريقي المعذب الذي يؤرق المسرحية برغم تجاهلها له. فهو ممثل الشعب الكونغولي الذي يتحدث الجميع باسمه ولا يعبأ به أحد في الوقت نفسه. وتجري الأحداث عام 1960 قبيل استقلال الكونغو في مدينة ستانليفيل، حيث يحاول السيد فان كيولمان الأبيض إعداد عرض مسرحي، ل(بيرينيس) راسين، ببمثلين أفارقة بالطبع، ووسط التدريبات علي المسرحية يعلن لومومبا بصوته الذي ينتمي، كصوت جمال عبدالناصر بالنسبة لنا، لعصر يبدو الآن نائيا وبعيدا، عن استقلال الكونغو بعد ثمانين عاما من الاستعمار البلجيكي. ونستمع إلي مقاطع من خطاب لومومبا الشهير في 30 يونيو 1960 الذي يتحدث فيه عن العدالة الاجتماعية ويبشر فيه بعصر جديد. ويبدأ الجميع في تمثيل قصة «بيرنيس». ويتقاطع تقديم المسرحية، أو التدريب عليها مع مشاهد من الواقع الكونغولي بعد الاستقلال الذي بدأ يدب فيه الفساد والاختلاسات والقتل، ومع الإعلان عن قانون الجنسية الكونغولي الجديد الذي يرفض ازدواج الجنسية تتعمق حيرة مخرج المسرحية وآخريته. وحينما تتخلي روما عن بيرنيس في المسرحية، يبدأ أمامنا علي المسرح طقس جميل ودال، وهو طقس غسل الدهان الأبيض عن وجوه الممثلين السود، وتبدأ مع هذا الغسل عودتهم إلي تقاليد العرض والفرجة الأفريقية، والمزج بين الرقص والغناء. ويبدأون في ندب مصير «بيرنيس»، وسؤال الجمهور عن منطق مسار الحكاية، لماذا سارت في هذا الاتجاه؟ وكيف يمكن التوفيق بين نظرتهم لبيرنيس الفلسطينية (فالعرض أيضا مهموم بقضية فلسطين، كأحد أبشع تجليات التجربة الاستعمارية في بعدها الاستيطاني البغيض) وبين دعاواهم بالإنسانية؟ إما أن يغيروا مسار الحكاية، تقول لنا إحدي الشخصيات، وإما أن يتخلوا عن تلك المزاعم الإنسانية. لكن مسار الحكاية لم يتغير، بل إن المسرحية تريد أن تقول لنا أنه أصبح أكثر مأساوية وجنونا. لأن المسرحية تنتقل لنا بعد طرح أسئلتها المدببة تلك علي المستعمِر، إلي عام 2010 وإلي مدينة ستانليفيل من جديد، وقد تغير اسمها إلي كاسنجاري، حيث تحول مسرح فان كيومان الآن إلي مسرح المدينة الحديث، وحيث يدور نقاش من نوع جديد حول علاقة المسرح بالناس من حوله، وكيف تغير المسرح وتغير دوره مع ما انتاب البلد من حروب وفيضانات. ويطرح سؤالا بالغ الأهمية: هل يمكن عمل مسرح في بلد لاحرية فيه؟ كيف تمثل مأساة كلاسيكية في بلد ذو تاريخ حافل بالمآسي؟ بلد قتل فيه مليونين ونصف بين عامي 1996 و 2002، ويتصاعد كريشيندو الأسئلة فاليوم هو يوم 28 يونيو عام 2010 أي قبل يومين من مرور نصف قرن علي عيد الاستقلال. وهو اليوم الذي اندلعت فيه مظاهرات حاشدة تطالب بالعدالة الاجتماعية التي وعد بها لومومبا فاغتالوه. وتصوغ المسرحية مشاهدها الأخيرة علي إيقاع الهتافات التي تتردد خارج المسرح ضد الأجانب في جدل ثري بين الواقع والنص من ناحية، وبين مسرحية راسين ومسرحية فوستين لينييكولا الجميلة من ناحية أخري. ليتعمق فهمنا لمسرحية راسين، ولواقع كونغو مابعد الاستعمار في وقت واحد. وهذا هو دور الجدل المسرحي الجميل.