تعرفت بغائب طعمة فرمان منذ اكثر من أربعين عاماً ، وعلي وجه التحديد في صيف عام 1969 ، وها قد مر عشرون عاماً علي رحيله المفجع ، وبذلك أكون قد عاصرته وعايشته زهاء عشرين عاما في موسكو . وقد توافقت الظروف واراد القدر أن يسعدني مرتين بالعيش الي جوار هذه الشخصية الرائعة .. مرة بمجاورته في السكن ، ومرة بزمالته في العمل. فقد شاءت محاسن الصدف أن يكون مسكني فوق مسكنه لعدة سنوات في عمارة تقع قرب مترو الجامعة. وشاءت الصدف أيضاً ان التحق بالعمل في دار "التقدم" للنشر حيث كان يعمل غائب، ثم انقسمت دار "التقدم" الي دارين، فظهرت دار "رادوغا" لنشر الكتب الادبية ، وانتقلنا معا ومع بعض المترجمين الي الدارالجديدة. التقيت غائب طعمة فرمان أول مرة امام مصعد العمارة ، وكنت لا أعرف ولا أتوقع أن يسكن في هذه العمارة الروسية البحتة اجنبي غيري.. فقد كان المتبع في ذلك العهد، في الاتحاد السوفيتي ، أن يكدس الاجانب في احدي العمارات ، وربما في مدخل واحد لغرض لا يخفي علي أحد ، ولكن ، وكما اتضح فيما بعد ، كانت دار التقدم تمتلك شقة واحدة في هذه العمارة و كان يقطنها غائب- بينما تمتلك صحيفة "انباء موسكو " التي بدأت في الصدور ، شقة أخري ، هي التي أعطيت لي.. بجوار المصعد وقف شخص صغير الجسم ، قصير القامة ، أول ما يلفت النظر فيه نظارته ذات العدسات السميكة التي تظهر من تحتها ، مكبرةً، عينان واسعتان ( ربما بفعل الانكسار الضوئي للعدسات). وما إن تتراخي قليلا شدة الجذب الي العينين المكبرتين حتي يشدك سحر ابتسامة طيبة ، طبيعية ، متواضعة ، آسرة .. تقول لك علي الفور أن صاحبها شخص طيب ، سمح ، لا يمكن أن يصدر عنه ما يؤذي الشعور او يهين الكرامة . بل كانت الابتسامة دعوة صريحة وبسيطة للتعارف والتواصل لا تقاوم. لاحظ تفرسي وانشدادي الي وجهه فازدادت ابتسامته طيبة ورقة وسأل : - " الأخ عربي"؟ - " نعم" _ " من أين ؟" _ " من مصر". هنا شع وجهه كله ابتساما وبهجة ، كأنما التقي صديقاً قديماً أو تلقي نبأ سارا. " أنا درست في مصر .. في القاهرة ..". ومضي يتحدث عن مصر وكلية الآداب ومدرسيه واصدقائه .. بلهجة مصرية محببة، ليست بالمصرية الخالصة، بل تخالطها كلمات من اللهجة العراقية ، محورة كي تبدو مصرية.. وسرني ذلك التودد من جانبه..الأشبه بتضييفك شخصا عزيزاً طعاماً يحبه .. عرفت فيما بعد أنه تعرف في مصر علي كبار كتابها ونقادها ، وكان من رواد ندوة الخميس التي كان يقيمها نجيب محفوظ ، وربطته مشاعر صداقة حميمة بمحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وغيرهما من المثقفين اليساريين المصريين نسينا المصعد الذي كان قد وصل وتوقف امامنا في الطابق الاول منتظرا ، فقد انهالت الاسئلة مني وتدفقت الاجابات منه ، دون ان ننتبه إلي أننا يمكن أن نصعد لنواصل الحديث عنده أو عندي ، بعد أن عرفنا أننا جيران ، هو في الطابق الرابع وأنا في الطابق الخامس. ولكن يبدو أن معرفتنا بهذه الحقيقة كانت هي السبب في أننا افترقنا آنذاك دون ان أذهب إليه او يأتي إلّي. إن القرب الشديد يفعل أحيانا ،بل وكثيرا، فعله السيئ. فأنت تعيش في موسكو مثلا سنوات ، دون ان تذهب الي مسرح البولشوي القريب منك ، او تعيش في القاهرة ، بل ربما في الجيزة ، طويلاً ، دون أن تزور الأهرام وهي علي بعد خطوات...ويأتي الغريب إلي موسكو أو الي القاهرة لأيام معدودة ، فيدخل البولشوي ويزور الأهرام والقلعة وخان الخليلي. القرب يجعلك تطمئن إلي ديمومة الأشياء والأشخاص القريبين وتنسي انه لا شئ يدوم . وما زلت حتي بعد رحيل غائب بسنين طويلة أندم علي ركوني المطمئن الي وجوده قربي ، فلم أزره كثيرا ، لأغترف من هذا المنهل الشفاف العذب... منذ أن تعرفت بغائب في ذلك النهار الصيفي من عام 69 إلي أن وضعت كتفي تحت النعش الذي شيعناه فيه الي مثواه الأخير ، ايضا في يوم صيفي من عام 1990، لم يفارقني الاحساس برهافة هذا الانسان وهشاشته . كان يخيل الي أن هذا الجسم الصغير لا يزن شيئا ، وضاعف من هذا الاحساس تواضع غائب، الذي لا مثيل له لدي اصحاب المواهب والمبدعين ، الذين كثيرا ما يعانون من تضخم " الأنا" وتضخيم الذات. كان يتحاشي الحديث عن رواياته ولا يسألك رأيك في آخر اعماله ، كما يفعل الادباء عادة، وعموما كان يعمل في صمت ، بعيدا عن الاضواء ، حتي انني كنت استغرب وأدهش حقيقة عندما أقرأ روايته الجديدة ، ولا أكاد اصدق أن هذا الانسان الذي تراه في الطريق فلا يثير انتباهك ولا يشدك فيه شئ بارز .. هو الذي أبدع هذا العمل الأدبي الاصيل ، هذه التحفة الفنية الثمينة! وازددت حباً لغائب وإشفاقاً عليه عندما علمت بمرضه ، الذي لم يترك في صدره إلا بعض رئة ، وتعمق الاحساس في قلبي بهشاشته وتضاعف الخوف واللهفة عليه ، كما تخشي من تيار الهواء علي مريض عليل أو علي وليد صغير يركض ويتعثر وهو مهدد بالسقوط في كل لحظة . لم أسأله مرة عن مرضه ، ولم يتحدث هو أبداً عن ذلك .. لكننا كنا نعوده عندما ينزل المستشفي ، فنتحدث ونضحك وننكت ، وكأنما جئنا نزور شخصاً معافي في داره.. هذا الضعف الجسدي البالغ ، هذه الهشاشة الخارجية الواهية .. أيًّ قوة روحية كانت تخفي وراءها ، وأي حب للناس والحياة والفن! كانت صحيفة " أنباء موسكو " السوفيتية قد بدأت تصدر في موسكو في تلك الأيام باللغة العربية، وحاولنا نحن المجموعة العربية الصغيرة العاملة بها سعيد حورانية وجيلي عبدالرحمن وسعيد مراد ورشيد رشدي وأنا_ ان نبتعد بها عن النسخة الروسية الرسمية الكئيبة ونجعل منها شيئا مقروءا، فسعينا إلي استكتاب الأدباء العرب المقيمين في موسكو او الزائرين لها. ورحب غائب بالفكرة ، ونشر مقالتين او ثلاثا ثم انقطع عن الكتابة ، منزويا في تواضع ، دون مشاحنات أو عتاب. وعلمت