كان جدي يجلس هناك.. في مواجهة البعيد.. من ورائه المخيم ومن أمامه الغياب... ينظر وحيدًا باتجاه وطن كان لنا، رأس جدي يكاد يغوص في حجره، لم يكن هناك أحدٌ بهذه التلة الصغيرة غيره، الشمس قد اختفت... اقتربت وجلست بجانبه، وقلت دون أن أنظر إليه: مساءٌ جديدٌ سيحلّ بمخيمنا. تأمّلت بحرص المخيم الذي هو أسفل "التلة"، تأمّلته خيمة خيمة.. وتأمّلت الخيام المجاورة لخيمتنا عن اليمين وعن الشمال، وكذلك بعض الفتحات التي تتفرع من خيمة لأخري مشكّلة شوارع ضيقة لوطن أسّس علي عجل؛ فوجدت فتحات صامتة حزينة، كأنها جدران تشعرك فقط بألم داخليّ، وقفت واتجهت قليلا... للأسفل وأنا أجرّ ذلك الإحساس المرعب معي؛ بحثًا عن بيتٍ مختلف أو عن خيمة من فرح كما كان من قبل في قريتنا، نظرت مجددًا لعمق الفتحات من الغرب ومن الشرق، ثم عاودت النظر لبيتنا / خيمتنا، الإحساس هو هو.. لم يتغير!! ولم يخفّ بعض الشيء!! هناك شيء ما خفيّ قابض للروح، شيء أخرس لا يبوح إلا بألم شديد، ألم يصعب علي طفل استيعابه وتحمله، نعم كان هناك بعض الأشياء التي قد تساعدك أو تتخيل أنها تساعدك علي الهروب من هذا الإحساس المقزز.. البشع!! هناك أناس.. وحياة تبدأ في التفتح كزهرة حزينة.. وحيدة.. منسية من صاحبها وراعيها، وهناك أيضًا ملابس بألوان مختلفة لم تجفّ بعد، ساكنة لا تتحرك، منشورة أمام وعلي الخيام، هناك كمٌ من الأحلام يجري هنا وهناك، هناك كانت الشمس منذ قليل، أخيرًا.. استسلمت للصمت. ثم نظرت لجدي الذي لا يزال رأسه يغوص في حجره، أنا هنا في منتصف المسافة.. أغوص في غياب حاضر أمامي.. أغوص في جدي ومنزلنا الذي كان... تفصلني عن جدي بضع خطوات - مسافةٌ قليلة - ولكن.. ما هي المسافة؟ و.. لماذا تحل بي الآن؟ هل المسافة - فقط - تقاس بالخطوات والأمتار.. أم ببعد الروح عن الجسد أيضًا؟ الخطوات ثقيلةٌ يا جدي، كنت بالفعل عاجزًا عن السير، سواء للوراء أو للأمام، أود الوصول لجدي، ولكن قدميّ اللعينتين لا تطاوعاني، وددت أن أصرخ مناديًا إياه و... آمره: قم وساعدني في السير إليك. لم أتفوه بحرفٍ، خضعت للصبر.. وهدّأت من نفسي عندما قلت هامسًا: من المؤكد أنه.. إذا كان هنا أطفال يلعبون الآن؛ لما وقعت فريسة في شِرك هذا الإحساس المرير، وصلت أخيرًا وجلست مرة أخري بجانبه، ولكني كنت مستفزًا من انحناء رأسه ذلك. لذلك؛ نظرت باتجاه ما ينظر إليه بحجره، وكانت المفاجأة لي؛ فلم يكن جدي نائمًا كما كنت أظن، وإنما كان ينظر فراشة استقرت في حجره؛ فسألته: ماذا تفعل يا جدي؟ قال: أونس الفراشة يا ولدي. كان جدي في أواخر الثمانين من عمره، يتمتع بصحة جيدة.. وكذلك الذاكرة، أذكر أنه لم يعانِ من مرض ما، وإنما يشكو دائمًا من انحناءة الظهر، وذلك شيء عادي في الشيخوخة، جدي يدعي ياسين أو.. الشيخ ياسين - كما ينادونه هنا في بلدتنا. سألت جدي مجددا: أما لها أن تطير أفضل؟ فأجاب: ألا تري.. إنه موسم حزين يا ولدي!!! كانت إجابته بالنسبة لي كالصاعقة، لا فيما يخص الفراشة؛ وإنما في كلمة حزين، فأنا كنت أفكر منذ دقيقة في الحزن والألم، عندما كنت أنظر للجدران والمنازل.. فهل كان يعرف جدي فيما كنت أفكر؟ أم هو إحساس عام اليوم؟ أم مجرد صدفة.. جعلت رياح الحزن تعبر بلدتنا الجديدة.. أقصد مخيمنا؟ أم أن بلدتنا هي الصدفة العابرة في حزن دائم. بفضول طفولي.. سألته مرة أخري: أي موسم يا جدي.. وأين بقية الفراشات؟ أجاب الشيخ ياسين - دون النظر لي، ودون فعل أي حركة، حرصًا منه علي عدم إزعاج هذه الفراشة: موسم الفراشات يا ولدي، ألا تري السماء؟!! كم هي مليئة بدخانٍ كثيف!!... أمّا الأخريات؛ فقد هربت؛ حيث الزهور غرب الشمس. سألت - بحدة - معترضًا علي نبرة جدي في الحديث: ولماذا لم تهرب هي الأخري؟ قال جدي بصبر وسكينة: إنها مريضة يا ولدي... فلاحقته بسؤال آخر؛ قبل أن يغوص في صمته مرة أخري: ولماذا تهرب.. أليست الشمس وبعض الزهور هنا ؟ أراد جدي أن ينهي حديثه عندما رد بحسمٍ وحزن: هذه ليست بلدتنا.. إننا ضيوف يا ولدي. 2 حقيقة الأمر؛ كان صعبًا عليّ ملاحقة جدي بالأسئلة.. لا لشيء يخصه؛ وإنما يعود الأمر إليّ.. فقد كنت مريضًا، إذ ولدت بعيبٍ في النطق - يقول عنه البعض "التهتهة"، و- أيضًا - لدي حرفان لا أستطيع نطقهما أبدًا؛ هما الراء واللام، كل كلمة بداخلها اللام والراء أجد صعوبة في النطق بها، ومع ذلك.. أعتبر أنني محظوظً؛ لأنني لا أنطق كلمات: الحرب - السلام - النار. نعم.. أعرف رسم هذه الكلمات، وأعرف أن أخطّها، أتخيلها، ولكنني لا أنطق بها أبدًا نطقًا كالآخرين، وأحيانًا أشعر بالحزن والضعف عندما أنطق كلمات أخري بصورة مشوهة.. مثل: وردة فراشة زهرة بحر، وكنت محظوظًا - أيضًا - منذ ولادتي هكذا؛ فقد أكسبتني عاهتي حب الآخرين، وبخاصة عائلتي، وعندي مشكلة أخري.. هي أن لي قدمًا أطول من الأخري قليلًا، لذلك؛ أعرج عندما أمشي، ولا أستطيع الجري بطلاقة - كسائر الأطفال. كنت في التاسعة من عمري، وكنت قد ولدت هناك في قريتنا.. علي الجانب الآخر من المخيم، نحن الآن في منتصف السنة الثانية بعد الإبعاد والحرب، أقصد حرب 48.. حرب النكبة - كما يقولون، الهدنة أعلنت أمس - أقصد هدنة الإبعاد، كنت أذهب إلي مدرستي وأري الزيتون صباح مساء، وجدي كان والبئر شيئًا واحدًا. أتحدث العربية والعبرية، وبعض الإنجليزية وأحب القراءة، أعرف أنني كنت محظوظًا لذلك، وأدرك أننا نعيش في ظل احتلال من العدو، ولكن أدرك - أيضًا - ما لا يستطيع أي شخص آخر - خارج بلادنا - أن يدركه، وهو أن كل شيء هنا عاجز عن تسمية نفسه: المخيم / الاستشهاد/ الفجر / العودة/ الخلاص السلام / الحرب/ الجنون / البحر / المدفع/ الحمامة / الدبابة. الجبل / التل / الأرض/... لزيتون / العقل /الجنون / البنت / الحلم... الآخر / أنا. نعم.. لا يدرك ذلك من لم يعش تجربتي، فنحن هنا اختلاط الضروري ب اللا ضروري، نحن انصهار العادي ب اللا عادي، نحن نضع الخبز بجانب الموت، نضحك ونبكي، ونفهم الحجر - هكذا تقول أمي: بالحجر نبني.. وبالحجر نحلم.. وفي الحجر نشم رائحة الخبز وأولادنا. 3 رجعت بتفكيري وحواسي إلي جدي الماكث بجانبي.. وبعد فترة من الصمت سألته: وأين هي بلدتنا من هنا يا جدي.. هل تراها الآن؟ قال: خلف الجبل بمواجهة حقول الزيتون والتين. سألت مرة أخري.. فقد كنت أريد إجابة أخري مقنعة لطفل فضوليّ بطبعه: جميع البلدان بها جبلٌ وزيتون يا جدي؟ قال - وكان صوته أجمل من مرتل قرآن: تعلّم ألّا تسأل عن الأسماء يا بني، اتبع الفراشات، فبلدتنا هناك حيث أول الريح، وحيث تستقر الفراشات حول البئر. جدي كان في حالة غريبة.. لا ينطق بجملة إلا وتخصّ الفراشة، كنت أستشعر بكاء جدي غير المرئي، وأستشعر - أيضًا - أنه الآن شخص آخر غير الذي هو عليه دائمًا، كأنه يحادث أحدًا، من ينظر لجدي في هذه اللحظة يتوقع العادي واللا عاديّ في آنٍ، كأمّ تخرج ثدييها وترضع الفراشة حليبًا من حنين، أو أنه يتحسسها كامرأة حبيبة.. عادت إليه بعد طول غياب، أو أنه يحمّم الفراشة بلطف.. كأنّه يحمّم ضناه الأوحد. لذلك؛ قلت له - محاولًا الفهم أكثر، ومحاولًا أن أحصل منه علي شيء لي، شيء يعينني علي التقرب من هذا الغياب المطلق والحنين الأبدي في عيون مُزارعٍ هرم هو جدي: يا جدي.. أيمكن أن تكون هنا بلادنا؟ قال: لا.. بلدتك لا تخصّك وحدك، وإنّما تخصّ أباك ووالد أبيك وجدك وأجداد جدك، وهكذا.. إلي أول النسل، أتفهم ذلك يا بني؟ فأيقنت ما ودّ جدي إيصاله إليّ. 4 فصل الصمت بيني وبين جدي مرة أخري، أعرف أن جدي يأتي إلي هذه التلة من أجل الصمت كهدف في حد ذاته، ثم تتفرع أحيانًا أهدافٌ أخري فرعية، يأتي جدي ويكون قليل الكلام وحزينًا، يأتي كل يوم يجلس طويلًا ويعود إلينا مع أول الليل، ثمانية عشر شهرًا وهو هكذا، أما أنا؛ فمن آن لآخر أجيء إلي هنا رغبة في استرجاع سنواتي الأولي التي لا أملك غيرها، متذكرًا بيتنا ومن كانوا بجانب حقلنا هناك، بالأخص رجلًا يدعي أبراهام، كان يهوديًا جميلًا.. كأول الخلق دائمًا، يتحدث العربية بطلاقة، لا تشعر أبدًا أنه من ديانة أخري، كان الصاحب الأول لجدي، وكان مبتسمًا دائمًا لي، كثيرًا ما يلجأ لجدي عندما تستعصي عليه الأرض، فهو لم يكن مزارعًا ماهرًا مثل جدي، ولم يكن لديه