منذُ ثلاثة أعوامٍ بدأ محمد القليني كتابة الشِّعر. نعم. منذ ثلاثة أعوامٍ فقط. شاعرٌ خجولٌ. وقليلون هم. أصلاً لا يكون الشعراء إلا خجولينَ. التقيتُهُ مَرَّةً واحدةً، فرأيتُ إنسانًا نبيلاً، وشاعرًا حقًّا. العالم اليوم يحتاجُ المزيدَ مِن الشعراء أمثالك ياقليني. ألهذا طويتَ العالَم، وتأبطتَهُ، ورُحتَ تركضُ؟! في ديوانه الأوَّل "أركضُ طاويًا العالَم تحت إبطي"، الفائز بالجائزة الأولي في مسابقة أخبار الأدب لعام 2016، والصادر مؤخَّرًا عن دار العين، نري عملاً لا ينقصه شيءٌ. مكتملٌ. عملُ شاعرٍ حقيقي. مِن أين جاء بكلِّ هذا؟ أمِن تجربتِهِ السابقة كروائيٍّ وهي تجربة لم يطلع عليها أحدٌ إلَّا قليلًا-، أم مِن كثرة التمرُّس والقراءة الجادة؟ لم يحتفِ الوسط الأدبي في مصر بشاعرٍ قادمٍ جديدًا إليه كما احتفتْ بمحمد القليني، حتي قبل صدور الديوان، وحتي قبل فوزه بالجائزة. وكأنَّ لسان حالهم لسان حال بالماس سيد شعراء جيله حينما قرأ شِعر يانيس ريتسوس، فأرسل له رباعية احتفالية يقول فيها: "ننحي لك، أيها الشاعر، كي تمر". الديوان ينتمي لقصيدة النثر، وفي ذات الوقت يتمرد علي أشكالها وبنياتها الثابتة المعهودة، ويؤسِّس لنفْسه بنفْسه، ويُدرج اسم كاتبه في قائمة مُمثِّلي قصيدة النثر الحقيقية والجادة. بلغةٍ خفيفةٍ هادئةٍ ساردةٍ تمشي بإيقاعها الذي تبتكره دون أي جهدٍ أو معاضلةٍ، وبمجازٍ متمرِّدٍ علي ميراث المجاز. وبعناوين وتقاسيم داخل الديوان تبتكر لِذَاتِهَا لذةً رائقةً، وتفسح لنفْسها مساحاتٍ شاسعةً في أراضي الخيال التي لم تصلها قدما شاعرٍ مِن قبل. نحن علي موعدٍ مع المباغتة والمفاجأة ابتداءً مِن عنوان الديوان، ما الذي يُوجِبُ هذه السرعة حتي يركض القليني بالأرض؟ هل الأرض مريضةٌ مثلاًِ، والقلاليني يُحاول إسعافَهَا؟ تبدو الإجابةُ عصيَّةً دون الخوض في الديوان. الإجابة التي يلفظها القلينيُّ بسخريةٍ وعفويةٍ كبيرتين. يُعنون القليني الجزء الأول ب"نافذة تطلُّ علي نهاية العالم"، وكأنَّ هذا تبريرٌ للركض بالأرض؛ فالأرض موشكةٌ علي النهاية. في أول قصائد الديوان يُقدِّم نفْسه لقرَّائِهِ: "اسمي محمد القليني/ أكتبُ الشِّعر/ وأعمل في شركة ملابس". وسرعان ما يستخدم الفكاهة حين يطرح في القصيدة التالية مشكلة تواجهُهُ حين تلومه زوجتُهُ علي بيتهما القديم وضيقه، فيجاوبها بأنه كتب بيتًا شِعريًّا ذا مجازٍ رحبٍ، وبأنه يمكنهم أن يناموا فيه الليلة. يُطالبنا القليني حين يموت بألا ندفنه سريعًا؛ لأنه يريدُ أن يري زوجته وهي تبيع كتبه ومخطوطاته الشِّعرية، وتصرخ في أولاده: "كلوا يا أطفال/ أخيرًا أصبح لهراء والدكم جدوي".يُواصل السخرية حتَّي مِن نفْسه ومِن كرشه الذي يُعايره به الشعراء، فيخبرنا أنه لولا قصائدهم السمينة التي يلتهمها ما كان له هذا الكرش. لكنَّ السخرية تتوقف فجأةً؛ ليظهر لنا حقيقةً هامةً عن موعد موت الشاعر، فإنَّ البنادق لا تقتل الشعراء، وإنما الذي يقتل الشعراء -مِن فئة محمد القليني- ليس إلا حين يكتب قصيدةً سيئةً. يذمُّ القليني الشعراء الذين يتعاملون مع الحياة بوصفها مادةً أوليةً للشِّعر فقط، ويبدلون النساء كما يبدل أحدهم ثوبه، ويقول لهم: "لو تركتني حبيبتي ذات مرةٍ/ سأضعُ نقطةً هكذا (.)/ وأموت". يصرخُ مِن هول الحرب ومِن فرط جنون القتل الذي يستشري في الأرض، فيُقرِّرُ أن يفرغ بطن الخريطة مِن البلاد السامة، ويخاطب الجندي الذي يستخدم البندقية أن يستمع لدعاء أصابعه، التي طالما دعت الله أن يستخدمها في كتابة قصيدة أو في العزف علي البيانو. ويُحدثنا عن طفولته الحالمة بالنجوم التي طالما تمنَّي أن تكون علي سُترته ليحضر بها الأمسيات الشِّعرية، أو أن يستخدمها كزينة لليلةٍ رومانسيةٍ مع الحبيبة، أو يستعملها كمخبأٍ سريٍّ، أو ملهمة قصائده، لكنها حين كبر علم أن النجوم لم تخلقْ إلا للنوم فوق أكتاف الضبَّاط. وحينها لم يفلح في كتابة أيِّ شيء، سوي الكتابة عن الوطن، الوطن الذي لم يعد سوي قبرٍ كبيرٍ، وألقي بجسده داخله، ومات. يبدو أنَّ للحب والذكريات مع الحبيبة ومحاولات الهرب منها نصيبًا كبيرًا مِن قصائد الديوان؛ فهو كلما حاول أن يكتب تطلُّ عليه الحبيبة وتفسد القصيدة عليه، حتي يُشبِّهَ حالهما بالقط والفأر. ويضطر في النهاية إلي مناداة بائع الأقفال؛ لكي يغلق بابها في ذاكرته، ذلك الباب الذي تلج منه ليلاً وصباحًا. تلك الحبيبة التي أفسدتْ قلبه، فلم يعدْ يصلح للأخريات مِن بعدها. في "وقع خطوات الصمت" نطلُّ علي شاعريةٍ مرهفةٍ، حيث يرينا في طفولته أن الطائرات الورقية كانت تعرقل الملائكة، وأن ارتفاع موج البحر ما هو إلا غرق ملاك فيها، وأن الملاك كان يقصد طفلًا ماتت أمه ليأخذ منه دموعه ويحقنها لسحابةٍ نحيفةٍ، وأنه تشاجر مع أصدقائه الذين يضعون موسي الحلاقة في ذيل الطائرة؛ لأنها تقطع الطريق علي الدعوات في طريقها إلي الله. ويخبرنا عما كانه في حياته السابقة، فقد كان حقيبة سفرٍ لعجوزٍ طيبةٍ لا تكف عن الترحال، كانت تملأ جيوب الحقيبة السرية بالذكريات وبدميةٍ صغيرةٍ ، ولما ماتت في الفندق، انتظر المسئولون أن يأتي أحد أقارب العجوز ليأخذ تلك الحقيبة، لكن لم يأتِ أحدٌ، ولما فتحوا الخزانة ليروا ما في الحقيبة، لم يجدوها، وإنما وجدوا القليني في صورته البشرية، وفي يده الدمية التي كانت تبكي. يحدثنا عن المفارقين الراحلين، كل واحدٍ منهم أخذ مِن جسده جزءًا، حتي لم يتبقَّ له سوي عينٍ واحدةٍ، حتي إذا نظر في المرآة "وجد دمعة لا يمنعها مِن النزول/ إلا أنها لن تجد خدًّا تسيلُ عليه". في القسم المُسمَّي باسم الديوان "أركضُ طاويًا العالَم تحت إبطي"، يدلُّنا القليني علي أن الشِّعر حربٌ؛ فالبندقية والقلم كلاهما يُوجَّهُ إلي القلب، وفي الحرب ينسي الشاعر إذا شارك فيها- أن ابتسامة الجندي الجريح ما هي إلا تذكُّرٌ لتلويح زوجته في الوداع، وأن هذا المشهد يصلح كمدخلٍ مُدهِشٍ لقصيدةٍ، ولا يلتفت إلي أن الأرض ذأرض المعركة- ما هي إلا ورقة بيضاء، سكب عليها شاعرٌ سيئٌ قنينةَ حبرٍ أحمر. ويؤكد أن ما بعد الحداثة ما هي إلا قصيدةٌ تعرف هدفها. يضيق بالنقَّاد ذرعًا -كعادة الشعراء الحقيقيين الذين لا يحتفون بالنقَّاد-، ويخبرهم بأنَّ قصيدتَهُ لا قبضة لها، وأنه لن يُتابع توجيهاتهم في أن يكتب "أنا أذوب في فنجان الحياة كقطعة سُكَّر" لا " أنا متعبٌ"؛ فهو يحتفي باللغة البسيطة، هو لا يريد الحداثة، إنما يريدُ إذا نال منه التعب- أن ينام عاريًا علي فخذ نصٍّ منزوع المجاز، ويبدو فاتنًا لكل المارة. في "جدران"، أخبرتْهُ أمه أنه جدارٌ/ فلما رحل أبوه، علَّقتْ عليه صورتَهُ. وتبوَّل زملاؤُهُ عليه. وعاملته الحكومة كجدارٍ، فطلته بالأخضر، فأكله ثعلبٌ. طلته بالأزرق، فغرق صيّادٌ فيه. طلته بالأحمر، فتقيأتْ عليه سائحةٌ أجنبيةٌ بعدما حسبته بركة دم متجلط. حتي أصحابه الشعراء خدشوه يومًا ما بمجازٍ مدبَّبٍ. لكن الذي أنقذه امرأةٌ مجهولةٌ، جاءتْهُ في حلمٍ قديمٍ، قبَّلتْهُ، وقالتْ له: "لأنك نافذةٌ لم تُفتحْ مِن قبلُ/ فلن تعرف الفرق بينك وبين الجدار". هذا الديوان مليءٌ بكثيرٍ مِن الدهشة، والشِّعر الطازج. ويمنح لشاعره بطاقة مرور مِن الدرجة الأُولي إلي عالم الشِّعر.