بوجهه الشاحب،وانحناء قامة كانت في يوم ما مشدودة كالوتر،أقبل ذات مساء يوم خريفي يجرجر قدميه في تثاقل،وكما يليق بشيخ طاعن مثله، يحمل في حنايا رأسه المترنحة ذاكرة القبيلة،استقبلته في حفاوة بالغة. حفاوة شجعته علي تجاوز حاجز فارق العمر بيننا،وهيأته لتجاذب أطراف حديث، بدأه باجترار ذكريات مفرحة ومؤلمة،وأنهاه بشكوي مريرة من جحود أولاده،وإهمال ثلاثتهم له بعد موت أمهم،وهو الذي أفني عمره من أجل إسعادهم . ولما أعطيته جرعة من الأمل،راح يحدثني بكلمات أشبه بترنيمة الم، عما يجيش بصدره من جراح، وهو منفعل حيناً،شارداً في معظم الأحيان. قال في أسي بالغ: كم مرت عليه أيام طوال،وليال أكثر طولاً ووحشة، قضاها يعاني مرارة وحدة،جعلته يسمع نحيب أعماقه ،ويرنو لصوت صمت تتوالد منه أفكار غريبة،وأشباح مرعبة. منعه حياؤه من البكاء،صمت قليلاً يلملم جراحه ،ثم مضي قائلاً: ولإحساس قاتل بالضياع لازمه كظله،فقد رغبته تماماً في عيش حياة، قال بخوف السائر نحو نهايته:أنه لم يعد حريصاً عليها . تملكني حينها شعور طاغ، ليس بالإشفاق عليه فقط،بل بحقه الكامل عليّ برعايته كأب افتقد غيابه، فوجدتني بدافع إحساسي بالمسئولية تجاهه،أقدم له جلباباً،طلبت إليه في رجاء،قبوله مني كهدية. سعادتي الغامرة بقبوله لهديتي المتواضعة لم يفسدها غير إحجامه عن الكلام، واكتفاؤه بالنظر لي بعينين حزينتين ومنطفئتين في امتنان لا يخلو من لوم علي ما اعتبره جرحا لكبريائه، حينما عرضت عليه منحي شرف رعايته. وغادر تاركاً لي جلبابه القديم،وحيرة اعتقلتني خلف قضبانها لبضعة أيام ،حتي تفتقت مخيلتي عن حيلة،أو ما يمكن تسميته بمؤامرة نبيلة، شككت حينها في مدي نجاحها بمنح الشيخ حياة جديدة. وإحكاماً لتدابير مكيدة غير محسوبة العواقب، وشرعت بالفعل في تنفيذها،حرصت علي أن تأخذ زيارتي لأولاده طابع السرية،أخبرتهم خلالها :أن أباهم أودعني أمانة،أكد عليّ ألا أعلن عنها إلا بعد مماته، وألا أمنحها إلا لمن يولي منهم عناية أكثر به،تاركاً لي حرية تقييم أدائهم . ارتسمت علي شفاههم ابتسامات تنم عن ارتياح مريب،وتفضح نهم أحلام ،وربما أطماع،تأكد لهم أن تحقيقها بات مرهوناً باستحواذهم علي وديعة مؤجلة وغامضة. فأخذوا يتسابقون فيما بينهم علي إرضاء أبيهم . وبإحساس من يخوض معركة شرسة عليه الخروج منها منتصراً ، قابلت برفضي القاطع كل محاولاتهم الحثيثة لدفعي علي الكشف عما ائتمنني عليه أبوهم. بعد فترة ليست بالقصيرة،فوجئت بالشيخ يزورني. وجهه الذي بدا لي أكثر إشراقاً، ومظهره الذي ينم عن عناية فائقة ، بعثا إلي نفسي بالطمأنينة، لكن ثمة أسئلة حائرة تطل من عينيه، لم تسعفه مخيلته الهزيلة علي أجوبة مقنعة عنها . وحينما حاول دفعي لمشاركته حيرته، حاولت بدوري تهوين الأمر عليه بالقول له في ثقة مراوغة: لا بد أنهم أحسوا بفداحة ما ارتكبوه في حقك، فأرادوا التكفير عن ذنوبهم. "يمكن" .. قال الشيخ في تشكك وكأنه أحس بأنها ستكون زيارته الأخيرة ،اقترب مني،وضع يده علي كتفي،ودون أن ينطق بكلمة واحدة، أخذ يتأملني بصفاء أثار دهشتي،ثم مضي لحال سبيله. انشغلت بأمور تخصني عن زيارته لفترة،لم انقطع خلالها عن محاولة السؤال عن أحواله،حتي صادفت من أخبرني بأمر مرضه المفاجئ، مرض منح الشيخ نهاية كان يتمناها،ولم يمنحني غير فرصة المشاركة في تشييع جنازة،ما أن أتم أولاده طقوس مراسمها،حتي جاءوني كذئاب جائعة! وكأنني لا أعرفهم،وبطريقة فضحت رغبتي الشديدة في الخلاص منهم ، جئت لهم علي الفور بصندوق،ما كاد أكبرهم يفتحه في لهفة، حتي صدمهم جميعاً مرأي جلباب أبيهم المتسخ....