برغم كل ما كان، وعندما أشار إليّ وسط الزحام أن أوقف سيارتي.. أطعته. ماضيه معي لم يكن به سوي الكراهية. حزمة صور تدفقت عبر عقلي بمجرد أن أدركت ملامح طفولته المختفية وراء تجاعيد وجهه الخمسيني.. تذكرته بغتة، وتذكرت مقتي له.. سنوات من عذاب لاقيته علي يديه، طغت علي مداركي دفعة واحدة.. وبرغم هذا أطعته، وتوقفت لإشارته. طفل كنت، أعاني مأساتي الخاصة كأي طفل بدين.. سخرية، وألقاب هازئة.. مقالب، وضحكات جماعية.. أكره المدرسة حينًا، وأكره ذاتي أحيانًا. ولكنه كان مختلفًا.. لم يكن من أولئك الذين يمكن أن أكسب ودهم مع الأيام، أو أولئك الذين يعتادون مع الوقت علي مظهري، فيكفون عن السخرية منه.. كان يملك عزمًا علي مضايقتي لا يتأثر بزمن.. فطوال ستة أعوام من الدراسة الابتدائية، لم يتوقف يومًا. رسم عقلي وجهه كتعبير تشكيلي عن معني الكراهية.. ست سنوات لا أفكر سوي في أمر واحد.. كيف أنتقم منه.. علي فراغ جدران حجرتي فعلت به الأفاعيل.. ضربته مرات، وأغرقته في وحل فناء المدرسة وقت اشتداد المطر مرات.. استهزأت به، وسخرت من قامته القصيرة مرات.. بل وقتلته مئات المرات. حتي كان يومًا وقفت فيه مع والدتي تشتري من السوق أشياءً.. وقف هو بجواري متعلقًا في يد والدته، أشحت بوجهي لاعنًا تلك الصدفة.. فأشرق وجهه استمتاعًا، وناداني بلقب كان يطلقه عليً: إزيك يا (فتلة).. نظرت إلي أمه فوجدتها تراقبني ضاحكة كضحكة ابنها، فأدركت أن لا فائدة. وتعلمت بعدها أن أنظر إلي الأرض إذا واجهني، وأن أجد الخطي إذا مررت به. وبرغم كل هذا، أطعت الآن إشارته وتوقفت.. لفحني نفسه الحار، مع اقتحام وجهه للنافذة المجاورة لي.. سألني بهدوء: رُخَصَك.. فقدمتها له مبتسمًا.. اتفضل يا باشا.