"التي ينبعث العالم من رمادها الأبيض" للكاتبة الشابة إسراء مقيدم، هي القصة القصيرة الفائزة بالمركز الأول في المسابقة التي أطلقها مشروع "مكتبة القهوة" التابع لمعهد جوتة الثقافي الألماني وخصصها لكتاب القصة القصيرة في شمال الصعيد. ورد في حيثيات فوز قصة إسراء مقيدم أنها: "قصة محبوكة ومكتوبة بتمكن واحترافية اتكأت كاتبتها علي المراوغة وعدم المباشرة، ونجحت في الحفاظ علي الغموض والالتباس بمهارة بحيث منحت قصتها بعداً مشوقاً يدفع قارئها لقراءتها مراراً دون ملل، كما أن البعد النفسي مشغول بشكل جيد دون افتعال." جاءت قصة "القصة الحقيقية لثمرة الخوخ" لكارولين نبيل في المركز الثاني، وقصة "صورة مشبعة بالألوان" لابتسام ناجي عبد المجيد بالمركز الثالث. ينبئوني أنها قد ماتت فأبكي. أتجه لدولابي، وأرتدي رداء أسود كنت قد ابتعته خصيصًا لهذا اليوم. يدور صداعٌ في رأسي بشكل دائري .. ينفذ من بين عينيّ ويخرج مخترقًا طبلة أذني تاركًا وراءه طنينًا يشبه نبضات القلب. أشعر برأسي ثقيلًا وأخاف ان ينفلت ويتدحرج مني علي الأرض، فأتناوله، وأثبته جيدًا فوق كتفي بيدي. أخرج للصالة الفسيحة ساندة رأسي بكفي، وما أن أشعر به يميل جهة اليمين حتي أشد رقبتي لأحافظ علي اتصالها به. أشدها طويلًا، فيختل اتزاني وأسقط علي الأرض، لتمتد أياد غير مألوفة لمعزين لم أقابلهم من قبل لالتقاطي. اتلقي عزاءً يبعث نكهة مُرة في جوفي، فأحشو زهورًا في فمي، وأتوجه للغرفة البعيدة حيث الجسد الميت. محررة رأسي من يدي القابضة عليه، أقترب منها النائمة في وداعة وأرخي رأسي الثقيل فوق كتفها. ينسحب الصداع في خجل، حيث لا مكان له بيننا، نلتئم سويًا، وأغفو بجوارها برأس مطمئن.
ناداني تخبّط الآنية في المطبخ فانتبهت، وعدت سريعًا من حيث غاب عقلي. داهمتني حركتها المضطربة، تخطو في ارتباك، وتمد يدًا لمقبض باب حجرتي محاوِلة الدخول. نفضت عن رأسي أفكاري ونهضت لأقطع عليها محاولتها. وراء الباب لمحت ردائي الأسود معلقًا كما هو، جديدًا لم يُمس، ومحفوظًا داخل غلافه الشفاف. في مكان قصي بالذاكرة دفنت شعورًا بالذنب، وخرجت إليها. علي عتبة المطبخ وقفنا سويًا،يكسو ملامحها الخجل بينما أنظر لمزيج الحنّاء المنسكب علي الأرضية. نقلت بصري إليها حادًا ولم أنطق فبادرت مدافعة: والله العظيم ناديتك أكتر من مرة وماسمعتيش..والله أنا مش باكدب. بددت سحابة التوتر التي تغيّم سماء المطبخ، وملت عليها لأحتضنها، اقشعرّ بدني فسحبت نفسي سريعًا ونزلت علي ركبتيّ ألم ما يسمح كفي باحتوائه. لا أكرهها، لا أحد يكره أمه، فقط أتمني لو تموت. تواتيني الفكرة وتعدني بحياة غير تلك التي أبددها. تتسلل إلي رأسي فأتماهي معها وأتبعها إلي حيث تقودني؛ مرة للحظة الوفاة نفسها ومرات للأيام التي تعقبها.. أشعر بها حجرًا ثقيلًا مربوطا بإحدي قدميّ، وفي القدم الأخري تثقلني محبتها المفرطة، فلا أقو علي السير. مشغولة؟ انتهيت من جمع الخليط الأخضر فأتاني صوتها ثاقبًا، كإبرة مدببة تخترق مجالي الساكن. لم أرد واكتفيت بنظرة استفهام. أشارت لرأسها المصبوب بكتلة حنّاء متصلّبة، تململت وابتلعت تأففي، وحملتها لحوض المياه في الحمام. في غمرة المياه حاولت إزاحة نفوري منها. غسلت رأسها بالماء البارد وغسلت معه عن رأسي كل الضجيج الذي يخص علاقتنا. سقطت قشور الحنّاء متماسكة وتجمعت علي حافتي الحوض، أذابتها المياه قليلًا فسال بعضها مع انحناءاته. فوق الحوض رسمت المياه بالحنّاء أشكالاً كثيرة. بيوت صغيرة ودروباً ممتدة. أقزاماً وطيوراً وتلالاً خضراء. ضحكت أمي، فضحكت لكل تلك العوالم التي خرجت من شعرها المصبوغ حديثًا. رفعت رأسها، فبدت أنثي جديدة بشعر لامع. غادرت وتركتني أنزح العوالم الخضراء بمفردي ليبتلعها الحوض. تحبني كثيرًا.. غير أن المحبة تسيّجني، أنفلت منها وأغيب فتتآكل أطرافها انشغالًا. يغزو الغم قلبها ويزحف خدرٌ خفيف علي أطراف أصابعها. تتساقط أصابعها فأعود.. ويكون علي تنظيف المنزل من آثار أطرافها المتآكلة. أعود فتتساقط أصابعي .. ويكون علي اعتياد العيش بنقصانٍ. تركت يدي للبحيرة المتجمعة في الحوض. لطمتها بعنف، فخرجت للسطح الرائق متراخية وخالصة من عبئها. ضربتها ثانية فطفت فوق الحوض، مع شعور بالخفة الآسرة يداعب قدميّ. ضربت مرة أخيرة فاصطدمت بقشرة حنّاء صلبة، تماسكت وترسبت في غفلة مني لقاع الحوض وسدت مجراه. اندفعت مياه الصنبور ثائرة، ففاضت البحيرة الرائقة وزحفت للأرضية من تحتي. توسعت البحيرة..صارت بحرًا. تجاوز منسوبه منتصف جسدي، فطفت أمي كقطعة خشبية أمامي. بسرعة أسعفتني بها قدماي المحررتان من ثقلهما، خرجت للصالة. فوجدت أمي بأطراف متآكلة توزع نفسها بين الأثاث المتناثر لتحدّ من فوضاه. تسند الكراسي المتزحزحة وتعيد تعليق اللوحات العائمة، تلمّ المبعثر وتحفظ استقراره. استندت للحائط ولم أحاول مساعدتها، فقط مسحت بعيني كل تلك الفوضي التي سأضطر لتنظيفها لاحقًا. نادتني بحسم فاستجبت. تحول خشبها لقارب آمن، فجلست فوق كتفيها بعيدًا عن الغرق، تمامًا حيثما اعتادت ان تجلسني وأنا طفلة صغيرة. اختفي جسدها تدريجيًا تحت الماء بتأثير وزني، فانقلب بي قاربها، ولم يبق منها إلا رأسها بشعره اللامع. بدت كما لو أنها تتآكل عن آخرها .. تختفي أو تتلاشي .. بدت كما لو أنها تموت. خاطرٌ كهذا يملؤني باكتمالٍ ما.. لا يقل عن عشرة أصابع متجددة. سأبكي بالطبع، ثم أرتدي ردائي الأسود الذي ابتعته خصيصًا لهذا اليوم. سأتلقي عزاءً يدفعني لأكل الزهور، سألتئم حدادًا، وأواري شعورًا بالذنب كي تبدأ حياتي. علي الأغلب سأتزوج وأنجب .. فتاة واحدة ربما. سأحبها كثيرًا وأغمرها بمحبتي لدرجة لن أحتمل معها غيابًا. سأرفعها فوق كتفي عاليًا، ولن تغب عنّي لحظة. ابتسمت بينما يغوص رأس أمي الغائبة في القاع من تحتي. تجاهلت تنميلًا خفيفًا قد بدأ في الزحف علي أطراف أصابعي حديثة التكوين، وبدأت في التنظيف.