في روايته القصيرة البديعة "آورا"، وعبر اللجوء إلي ضمير المخاطب، ينجح كارلوس فوينتس في وضع مسافة مطلوبة بين قارئه وبين شخصياته؛ مسافة تكرِّس حس الغرابة وتوحي للقارئ بأنه يتابع مشاهد تتتالي أمامه علي سطح مرآة يكسوها بخار الماء، ما يسم العمل بملمح شبحي يتلاءم مع جوه الملتبس. في "النوفيلا"، الصادرة عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم بترجمة لصالح علماني، يقترن الحب بالموت والشباب بالشيخوخة علي نحو فاتن، ويخطو فوينتس علي حافة أدب الرعب والتشويق دون التنازل عن شعرية اللغة والعالم. يقرأ فيليبه مونتيرو إعلاناً يطلب مؤرخاً شاباً لأداء مهمة مقابل مبلغ مرتفع، يبدو الإعلان كأنه موجه له شخصياً، فيقرر في النهاية - الذهاب إلي العنوان المذكور، حيث السيدة كونسويلو؛ أرملة جنرال رحل قبل ستين عاماً، وابنة أختها الشابة "آورا"، ويعرف أن المهمة المطلوبة هي تدقيق مذكرات الجنرال الراحل وإعدادها للنشر. بنعومة شديدة يسرِّب لنا فوينتس منذ جملته الافتتاحية، أن ثمة غرابة ما تكتنف المسألة برمتها، فمن المفترض أن مركز المدينة القديم غير مأهول بالسكان، والبيت شبه مظلم دائماً باستثناء أضواء مخاتلة تتلاعب بوعي البطل. في الأركان تسرح الفئران، وعبر كوَّة في الحائط يراقب فيليبه قططاً تلتهم النار أجسادها، في الحديقة الخلفية! وحين يلتقي بالعجوز كونسويلو لأول مرة ويمد يده نحوها، لا يلمس يداً أخري، بل أرنبها الأليف "ساغا"، فنتهيأ لفكرة أنه علي وشك ملامسة الوهم، وملاحقة سراب ما. ينتبه فيليبه إلي محاكاة "آورا" لحركات السيدة كونسويلو، كأن الأولي مجرد انعكاس للثانية في مرآة سحرية تمحو أثر الزمن وتعيد الشباب، لكن لاحقاً ثمة ما يشير إلي أن آورا قد تكون المرآة نفسها لا مجرد انعكاس يخلِّد وهم الشباب والجمال لدي العجوز المسكينة: "آورا سجينة كمرآة". كما أننا في لحظة ما، لا نقدر علي تمييز أي المرأتين الأصل وأيهما الانعكاس في لعبة المرايا البارعة هذه، فحين تذبح "آورا" جدياً وتسلخه، يُفاجَأ فيليبه بأن العجوز، في غرفتها، تحاكي حركات الشابة، كأنها تسلخ حيواناً لا مرئياً. تيمة القرين مركزية في كتابات فوينتس عموماً، وهي هنا لا تتوقف عند المرأتين، ففيليبه حين يري الصور القديمة للعجوز وزوجها الجنرال، لا يكتشف فقط أن المرأة في شبابها هي نفسها آورا، بل يُفاجَأ بالتدقيق في وجه الجنرال بأنه ينظر إلي نفسه في مرحلة عمرية متقدمة! هذا الاكتشاف المدوِّخ يمنح جملة: "ستتعلم الكتابة بأسلوب زوجي." - التي قالتها كونسويلو له في البداية دلالات أخري: سيحل زوجي فيك! أو أنت هو، وهو أنت! هو الغائب؛ الحاضر دوماً حتي علي مائدة الطعام المعدة، باستمرار، لأربعة أفراد لا ثلاثة، كأننا أمام مربع لا نري سوي ثلاثة من أضلاعه. في "آورا" يوجه فوينتس، الكاتب الإندروجيني بامتياز، صفعة لأسطورة الرجل المهيمن؛ فالمرأة هنا تسيطر علي خيوط اللعبة، أما الرجل فمُتحكَّم به، عالق في فخ لا يفهم أبعاده. لذا من الطبيعي أن يبدأ الكاتب المكسيكي عمله باقتباس من جول ميشليه، يقدم المرأة باعتبارها "أم التخيل، أم الآلهة". ربما تكون "آورا" أجمل عمل أدبي مكتوب بضمير المخاطب، كما أنها تُذكِّر - علي نحو ما - برائعة كاواباتا "منزل الجميلات النائمات"، إذ رغم اختلافات لا تُحصي بين العملين، تجمعهما الرهافة نفسها، والدخول إلي بيت لا يشبه غيره، وثنائية الشباب في مواجهة الشيخوخة، كما أن كلا العملين أشبه بقصيدة موجزة ومحكمة؛ وإن كانت "آورا" قصيدة قوطية تخطف الأنفاس!