بدأت معرفتي بجمال الغيطاني الأديب منذ أكثر من عشرين عامًا، وتطورت العلاقة بيننا إلي صداقة حميمة في العقد الأول من هذا القرن. وفي سنواته الأخيرة كنَّا نتبادل الزيارات علي الأقل مرتين في السنة علي الرغم من طول المسافة بين القاهرة وسان فرانسيسكو. بين معرفتي بالغيطاني ككاتب ومفكر وعلاقتي به كصديق وزميل في دراسة القاهرة، تفاصيل كثيرة تستحق أن أحكي عنها. كشخصية، الغيطاني بالنسبة لي بالذَّات لم يكن عربيًّا أو حتي مصريًّا ولكنه كان قاهريًّا قحًّا، فهو ليس من المدينة ولكنه المدينة نفسها. فمن الصعب أن يجد الإنسان تجسيدًا لمدينة كاملة في شخص واحد، ولكن الغيطاني جسد القاهرة كلها بكل تفاصيلها ونتوءاتها. عندما كنت أقوم بتأليف كتابي "القاهرة: تواريخ مدينة" كنت أتحدث مع جمال عن منهجي لكتابة تاريخ العمران. وأصر الغيطاني أن يصحبني في عدة جولات في شوارع المدينة القديمة. كنا نتناقش حول المباني التي نمر عليها وكان يدهشني ليس فقط بمعلوماته التاريخية ولكن أيضًا بإدراكه للإطار الثقافي والاجتماعي لهذا التاريخ العمراني. أهم ما يميز كتابات الغيطاني عن المدينة القديمة أنها جمعت بين شغف شاعر الحداثة الفرنسي بودلير وعمق وواقعية الأديب الروسي دوستويفسكي، فالغيطاني كان يملك موهبتين من الصعب أن يجتمعا معًا، فقد كان يملك موهبة تحويل التاريخ إلي أدب وتحوير الأدب ليصبح تاريخًا معيشًا. فإبداعه كان خيالًا واقعيًّا بقدر ما كان واقعًا افتراضيًّا ساحرًا. فأنا كمؤرخ للعمران كنت أجد نفسي في بعض الأحيان أصل إلي فهم أعمق لمدرسة مملوكية ليس بالنظر إلي تفاصيل المبني أو إلي المخطوطة التي وثقت إنشاءه ولكن من خلال عيون وكلمات جمال الغيطاني. لم يخف الغيطاني إعجابه بالشيخ محمد بن إياس الحنفي خاصة في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" فقد كان دائمًا يذكره أمامي باعتباره ملهمًا له في فهمه للقاهرة، بينما كانت كتابات المقريزي وعلي مبارك بتفاصيلها التوثيقية أقل أهمية بالنسبة له، ولهذا يمكن أن نعتبر الأعمال الكاملة للغيطاني "الخطط الغيطانية" علي نسق الخطط المقريزية والخطط التوفيقية للقاهرة. في الواقع تمكننا كتابات الغيطاني من رسم خريطة للقاهرة من الذاكرة فهو يعطي لنا وصفًا نستطيع أن نستشفه ذهنيًّا أولًا، ثم نقوم باستطلاعه في الواقع بعد ذلك . فوصف الغيطاني لشوارع القاهرة القديمة علي عكس المقريزي وعلي مبارك وصف متكامل، فالمباني والتفاصيل والبشر في فكره لا يمكن فصلها عن بعض، فهي مكونات يستطيع أن يمزجها بعبقرية مدهشة. يلعب الغيطاني أيضًا بالزمان والمكان والمسافة بنفس العبقرية. فمثلًا يقول في إحدي قصصه القصيرة "ما بين درب الطبلاوي وحارة الصالحية مسافة قد تبدو قصيرة الآن بقدر ما كانت طويلة في وقت مضي"، فطول المسافة عنده لا يتحدد بالأذرع أو الأقدام ولا بالدقائق أو الساعات ولكنه نتيجة الرغبات التي يريدها الزائر والمخاطر التي يجب أن يتعداها. ويقول في نثار المحو "لا بد من طريق للمحطة، ولا بد للمحطة من طريق، فكلاهما متمم للآخر". وفي "دنا فتدلي" يكتب عن الفراغ الذي يوجد ما بين الرصيف والقضبان في غياب القطار ويكتب عن الفراغ الذي يحدث ما بين الرصيف وعربات القطار في وقت توقفه في المحطة. ولكن القطار وجمال الغيطاني في الواقع في حركة مستمرة ومكان مستحيل فمثلًا يكتب الغيطاني أيضًا عن نوافذ القطار المزدوجة -داخلية وخارجية- كموقع يسمح له أن يري ما في الداخل والخارج، فهو يسكن هذا الفراغ الضيق بين لوحي الزجاج. وفي "نوافذ النوافذ" يكتب عن شخص "يطل من النافذة علي تاريخ، ولكنه في نفس اللحظة يطل من هذا التاريخ علي الحاضر" ويقول أيضًا "من تواريخ الفراغات إلي نوافذ الروح هناك نوافذ مؤدية لا تنتهي"، فالغيطاني هو ساكن هذا التاريخ وساكن هذا الفراغ وليس مسافرًا إليه. فإذا كان الغيطاني قد تركنا إلًا أنه ترك لنا قاهرة حية لا تموت، تنبض كأنها جسد خالد، أو كما يقول في نثار المحو "واجهات البيوت وكأنها ملامح أشخاص أو كائنات، نوافذها هي عيونها، بعضها أنثوية المظهر لما يحمل من الشوق إليها". كان وسيظل هذا الغيطاني خالدًا كخلود قاهرته.