حين دعوت له بتحقيق أحلامه قال: "لم يعد إلا زوايا الأحلام"، هذا هو الكاتب ماجد شيحة مؤلف رواية "درب الأربعين" الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، ثاني عمل روائي له عقب (سلفي يكتب الروايات سرًا) الرواية التي جعلتني أتلهف لقراءة الرواية الجديدة، توقفت عند اسمها كنت أظن أنه سيبتعد عن الدين وأتباعه بعد انغماسه في الطريقة السلفية وأسرار مريديها، لكني وجدت أبطاله من الصوفيين الذين يلتفون حول الدرويش الخارق بكراماته التي تهدم القناعات لتبنيها. "لم يعد إلا زوايا الأحلام" الجملة التي كنت أسمع صداها في تحركات "مصدق" الابن الأصغر بعد "خليفة" ذلك الدرويش المتمرد الذي زهد الحياة وأمسك في أطرافها، الذي لم يتحرر من الخيوط الذي نسجها أبوه حوله، تجمدت في صدره حتي صارت كرهًا مستعرًا، (مؤمن) ويفاجئنا ظهور السلفي مرة أخري في صورة باهتة، مطارد من الشرطة ومطرود من فلك والده بسبب طباعه العنيفة. سلسلة طويلة من الحلقات في شكل دائري، اختار الكاتب حلقة غياب الأب كنقطة بداية ليلج بنا في عالمه الصوفي المتشابك، يبحث (مصدق) عن أبيه منساقًا إلي قدره دون اختيار، طواعية، في رحاب الصحراء يلهث ويظمأ ليتروي، يتعرف علي عالم أبيه الخفي ويتعامل مع رفقاء رحلته وباب جنته وناره الجمال، الجمال التي تحوي عالمًا أخر داخلها، ليست مثل سائر الحيوانات، مسالمة .. مستأنسة، أو صاخبة .. شرسة، سفينة الصحراء في خضم أمواج القدر المحتوم، طالما وجدنا أشياءً ثمينة في محاولة بحثنا عن أشياء أخري، "درب الأربعين" الطريق الذي يُفقد فيه الإنسان ليجد ما لم يكن في ظنه أنه يستطيع امتلاكه، مثل لعبة البازل يضع الصورة بجوار الأخري حتي يري ما خفي عنه بالرغم من قربه إليه، هكذا نحن نثق بأوهامنا وكأنها الحقيقة المطلقة، تخيفنا الحقيقة ويرعبنا الوجه الأخر، نتعامل مع أنصاف الأشياء ونستريح، ونجد في الكمال شقائنا. هي رواية الأسئلة البكر، النقر الدقيق في أرواحنا، تتسلل لتعرينا ثم تكسونا من جديد، كنت أري (ماجد) قابعًا خلف شخوصه، متدثرًا في (مصدق) لم يجعل الأب هو الراوي، أو صيغة الغائب، أو (خليفة) الدرويش أبو القمصان، صديق الأب الذي يعلم الكثير ولا يكتفي ولا يمل السؤال، اختار "مصدق" لأنه الأقرب إليه ذلك الحيادي، الذي لم يعبأ بهجران زوجته، يأخذ طفله بين ذراعيه ويقص له الحكايات ببراءة، لا يغوص في أي شيء ولا ينحرف، أتخذ طريقه علي الحافة يتأمل بشغف، محتفظاً بنقاء روحه كأنه وُلد في هذه اللحظة، أظن أن الكاتب أثقله قبل رحلة البحث والوصول بفلسفة لا يطيقها، فمن يمتلك دهشة مصدق لا يمتلك الحكمة التي ظهرت في أحاديثه، رأيت ماجدًا قائلها بين السطور. "هل يكفي التماهي لندرك أن البحث دون أمل عن أحبائنا الذين فقدناهم يشبه تلك الصدقة التي نؤديها علي أرواح أعزاء ماتوا، لم يوصوا بها، ولا نثق أنهم سيعلمون عنها ليفرحوا باخلاصنا، آفة الموت للأحياء المتبقين هي الانقطاع، انقطاع الرؤية والسمع والوصول.." كانت تنخره التساؤلات في أول انحناءه نحو طريق البحث، لكنه انزلق فيما بعد وصارت المعرفة غاية في حد ذاتها، انفرط عقد الأسئلة وتناثرت الذات لتجد الإجابة، كيف يعود دون إجابة وأن بدت مستحيلة؟ كيف يترك ذاته ويعود جسدًا بلا روح؟ أشعر أن درب الأربعين طريق دائري، تسير في بدايته، بحثًا عن النهاية يعيدك إلي البداية ثانيةً، لا شيء يتغير سواك، نظرتك للحياة وتولد من جديد ربما تتم هذه الولادة من خلال ميتة، كل الاحتمالات ممكنة ولا شيء مستبعد، حتي تلك الأشياء التي تلازمك لماذا تخنقها بما وصل إليك عنها؟ لتكن لك تجربتك ورؤيتك، ما قيمة أي شيء نمتلكه أن لم نكن نحن؟ ما فائدة الأحلام أن تحققت دون سعينا إليها؟ دون جدارتنا بأي شيء، لا شيء يورث كل منا آدم في حياته وأخر نفس في هذا العالم الفاني، "ليس بالضرورة أن يصبح الشخص جماعة ليصل إلي الحقيقة، وليس بالضرورة أيضًا أن يعيش سبعمائة عام". كتب خليفة علي نفسه الشقاء حين حاول انتزاع ما لم يُقسم له، عاني من أبيه الذي كان يحمي حقًا حتي يصل إلي مستحقه، منغلق علي أسراره لم يجدهم جاهزين لتحملها، انصرف عنهم حزينًا. "الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمد" "ابن عربي" بهذا السطر كانت مقدمته، أول موضع قدم داخل عالمه، الزمان ونظرتنا إليه، أن يمر شخص بأزمنة مختلفة، حياة وموت ثم حياة مرة أخري في ذات المكان، يحل الزمان بدل المكان، يتبادلا وظيفتهما، ويسأل الشخص عن جدوي كل ذلك ولا يلقي إجابة .. تتضاعف حيرة مصدق بما يعلم، يثقله العلم ويتعلق بالمكان أكثر، كان يبحث عن أبيه بحمي جنونه ولهاث لا مثيل له سوي سرعة السرد، أشعر بأنفاسه الساخنة التي يخرجها من أنفه كما نصحه أبيه، يهرول القلم فوق السطور برشاقة أذهلتني، بالرغم من هذه السرعة لكنه أشبعني ولم يغفل حدثًا، مقابلة أبيه مع من يبحثون عن الكنز، تعففه عن مساعدتهم لأنها ضد مبادئه، لم يرهبهم حتي لو دفع حياته نظير موقفه، التفاتة قصيرة إلي أن من يطمع في المال، مثله من يطمع في العلم كلاهما لا يشبعان. "رجلاً مشي تحت مطر عنيف ثم عاد إلي بيته دون أن يبتل، الابتلال بالأحداث لم يكن من عاداته، فطيلة حياته بدا لي أبي وكأنه يعيش خارج المكان والزمان، مثل صائدي اللؤلؤ الذين ينقبون عنه في رمال البحر أسفل نواقيس زجاجية بينما أطنان الماء المهلكة تزمجر فوقهم لا يأبهون بها". هكذا يري مصدق أبيه، أسطوري .. استثنائي، مثل القمر في طور الهلال يحمله داخله، يتبع خطاه حتي يصير بدرًا ربما يسترح ويشعر بالكمال، وربما يسحره السؤال حتي الأبد.