للأمكنة عطورها النادرة وحكاياتها التي لا تنسي. والبهاء عنوان لافت من عناوين الحال أو هكذا. نعم ثمة نهر من الحنين والأمنيات في ذاك الشجن الذي يتغمد المشاهد بلطف العبارة وسحر اللون وبساطة التعاطي. أليست البساطة من أصعب أشغال الفنان. نمدحك إذن أيتها البساطة الكامنة في التواريخ وفي الأفكار وفي الأحلام ولدي الفنان الطفل..إنها البراءة في أدراج الذاكرة حيث القماشة بمثابة الملاذ.. وينابيع تقول بالسؤال الدفين: هل يمحو الزمن الألوان والكلمات. نعم السؤال مربك ولكن الوقوف بين المشهد والقماشة أشد ارباكا بمعني الفن تجاه اليومي الحارق والمحير...ومن الحيرة والحرقة يلج الرسام ورشة الأمل حيث الصمت النادر في حضرة العبارة اللونية وهي تبتكر لحظتها. إن النظر الي ما حولنا والتحاور معه ليس أمرا هينا وبسيطا، حيث الأخذ بالتفاصيل والعناصر والأشياء وفق معايير الحميمي والوجداني والانساني والثقافي عموما...ها ان الرسام يمضي عبر المعني في تمجيد المشهدية بروحه المرحة والخفيفة ليبتكر لنا المتعة الأخري بشأن ما تزخر به الحياة التونسية قديما وحديثا من عادات وتقاليد ومناسبات ليبرز ذاك الكم من المشاهد والحالات والأحداث في ضرب من القول بالثراء وبالامتلاء، الأسواق والأنهج والمحلات والباعة بالعربات والحرف من دعك الطين لصنع الكانون الي دبوس الغول الي العولة الي بائع الخضر والسراج بالسراجين وبائع المثلجات "الفريقولو" ونهج الباشة والعازفة والحنة والكحل وتربة الباي الي البلكون وبوقرنين والطبيعة الجامدة... وهكذا...كون من الاحاطة التشكيلية والجمالية باتجاه ما هو كامن فينا من تلوينات الحياة الزاخرة بالأصوات وبالشجن وبالذاكرة. الدخول الي عالم الفنان عزالدين البراري هو ضرب من المثول أمام مرآة الذات التي تمنحنا حيزا من الدفء في هذا البرد الكوني المريع. مشاهد وصور من وصف حالتنا التونسية ضمن الأهمية القصوي لهذه الخصائص والمميزات في التراث الثقافي اليومي التونسي...الفنان التشكيلي البراري يأخذنا طوعا وكرها الي مشاهد من سحر وفتنة ليضعنا في حضرة الفن وهو يبث جماله قتلا للآلي والروتيني وكل ما هو فينا من جمود وكسل نحتا للقيمة ونشدانا للثراء الوجداني..مشاهد فيها الكثير من المتعة واللمعان لابراز جانب مهم من حيوية ودأب الكائن التونسي وفق ذاكرة خصبة تمجد العراقة والأصالة وتمدح الينابيع...بين لوحة عازفة البيانو ولوحة اعداد المشموم ولوحة صنع الكانون ولوحة العولة ولوحة المقهي.. وغيرها، خيط جمالي رابط يعكس ذاك العمق الثقافي لليومي التونسي منذ بدايات القرن الماضي والي اليوم، وكأننا بالفنان البراري يحرس الذاكرة بمهارة معلنا وفاءه النادر للجميل في تفاصيلنا الذي يكاد يندثر بفعل العولمة والأنماط الجديدة الوافدة علي ثقافتنا بغير روح وحياة..في أعمال عزالدين البراري التشكيلية غوص في أعماق ذاكرتنا التونسية، فاللوحات علي اختلاف مواضيعها تصب في خانة الأصيل من تاريخنا ووجداننا وذلك وفق لمسات فنية غاية في التعبيرية والبساطة العميقة. أعمال هنا وهناك ومسيرة مهمة مع الفن جعلت الرسام البراري حالما باستمرار وفي انتظار اللوحة التي لم تنجز بعد. لقد كانت مناسبة معرضه الشخصي برواق كالستي مجالا للحديث اليه وهو بورشته التي هي بمثابة خلوة الفنان وببيته بحي النجاح وعلي مسافة لا تذكر من "البلاد العربي" التي أحبها ومنحها لوحات عمره من خلال أحيائها، باب الجديد وباب سويقة والحلفاوين ونهج الباشا و.. و.. الي جانب حضور الحومة كفضاء سوسيو ثقافي في عدد من أعماله...يقول البراري عن مسيرته الفنية "...أنا مولع بالفن. درست بالصادقية وشبعت بالمشاهد التونسية. علاقتي بالصورة قديمة وهي التي أخذتني الي المشاهد لأكتشف عوالمها المميزة. كنت في مجال التمثيل ولي أعمال مع نجوم منهم الراحلان عمر خلفة وعبداللطيف الحمروني في عمل مسرحي "الأبطال الخمسة" من اخراج عمر خلفة وذلك في الستينيات من القرن الماضي الي جانب أعمال اخري منها "عشاق الخيال" و"نادي القلابة" التي هي من تأليف سحنون مختار وإخراج عبدالكريم التركي..بعد ذلك جاءت مرحلة السفر الي فرنسا للعمل سنة 1969. "بعد خمس سنوات من العمل عدت الي تونس وكانت فترة احترافي الصورة الفوتوغرافية، الي أن اتصل بي الفنان علي بلاغة بعد أن سأل وبحث عني علي اثر اطلاعه علي عمل فني لي .. شجعني وقدمني للمسابقات وبعد ذلك كان تتويجي بالجائزة الكبري لبلدية تونس. أرسم بالزيتي علي القماش لأنه يناسبني. أتجول من خلال رسومي بين عادات وتقاليد وتراث التونسيين. أعتبر نفسي كأنني بدأت الآن. وما زلت أنتظر اللوحة التي أحبها ولم أرسمها الي الآن. كنت دائما أحب الأعمال الناجحة والراقية. الفن رحلة تعب جميل ولا بد من التعاطي اللائق مع الفنان من قبل الأروقة والمشرفين عليها وكذلك الدولة التي وان كانت داعمة للمبدعين فان انتظارات وأمنيات وأحلام الفنانين كبيرة ومهمة وجديرة بالانتباه أكثر اليها..أعتبر نفسي ضمن تجربة مدرسة توس كتيار فني ثقافي. وأرجو النجاح للجميع وكل فنان وتجربته والمهم هو التعايش والتحابب بين المبدعين ليحققوا أمانيهم التي هي من أماني الأطفال في هذا الكون.. إن الفنان طفل آخر.". فنان يعمل ولا يعنيه غير المضي أكثر في تجربته وعطائه للفن. غزير الأعمال يمشي في المدن والأحياء بفكرة الفنان وطموح الأطفال، ويمشي فتمشي معه اللوحات بألوانها وناسها و حكاياتها وما ينبض فيها وبها. كل ذلك وعزالدين البراري لا يلوي علي غير الذهاب أكثر مع اللون والحالة. نعم إن الفن أيضا ذهاب آخر باتجاه الأعماق والينابيع. تونس