لوحة من المعرض يخوض الفنان عبدالرحيم شاهين.. علي امتداد رحلته الفنية منذ الثمانينيات- مخاطرة الغوص في عالم الأسطورة والميتافيزيقا ومحاولة شق ظلام المجهول، بحثاً عن إجابات لأسئلة الوجود المستحيلة أو الملتبسة، ويوظف كل قدراته التخييلية مستعيناً بالحُلم والشعر والمجاز والاستبطان للعقل الباطن، ويكرس مهاراته التصويرية الخاصة بالبناء الكلاسيكي والتجسيم الأسطواني والتكوين المركب والتلوين المكثف.. لشحن لوحاته بشحنات تعبيرية قوية يلعب فيها الضوء دور التفجير الدرامي - من خلال الكشف بلمسات مباغتة وسط العتمة المخيمة هنا وهناك- عن مناطق التوتر المكتوم الكامن في العلاقات بين الكائنات الحية.. من إنسان وحيوان وسمك وطير، والكائنات الجامدة.. من صخور ومبان وأوان وكتل صماء.. هذا التوتر الذي قد ينتهي إما إلي الصراع فيما بينها، أو إلي حلول بعضها في البعض الآخر إلي حد التوحد الصوفي.. وفي كل الأحوال فإنه يأخذنا إلي شواطئ السريالية دون الوصول بنا إلي المناطق العميقة في بحر المجهول. أيقونة المرأة: وفي معرضه الأخير بقاعة صلاح طاهر بدار الأوبرا يبدو وكأنه توصل إلي نوع من المصالحة مع الذات والوجود في ساحة الصراع الكوني، أو -علي الأقل- عقد هدنة قد تكون مؤقتة بين أطراف الصراع، ليلتقط فيها أنفاسه، معطياً الفرصة لمظاهر الطبيعة حتي تفصح عن جمالها بعد انقشاع الظلام عنها، وحتي يكشف الضوء الداخلي في اللوحة عن حناياها الغافية، وعن كوامن الفتنة.. خاصة جسد المرأة.. حيث تمارس -عبر اللوحات الجديدة- غوايتها الأزلية، التي أجاد رائد الفن المصري محمود سعيد إبرازها، وها نحن نراها من جديد عند شاهين.. وهي تستحم في ضوء غسقي وسط نهر تتلألأ علي صفحته شطفات ضوء مجهول المصدر، ومن تحتها صورة امرأة أخري تبدو كنسخة مكررة منها، لكنها غارقة تحت الماء، ومن خلفهما سمكة بيضاء هائلة معلقة في الفضاء، أو نراها تطفو من قاع بئر عميقة تاركة في أسفلها ملامح عالم تسكنه الحيوانات الأليفة، والمرأة معلقة بحافة البئر الحجرية ووجهها إلي السماء، أو نراها تسري بخطوات ناعمة في فضاء برتقالي اللون كجو عاصف برياح نارية، ساحبة خلفها رداءها الذي خلعته، حتي إنك تكاد تسمع الحفيف الغامض لقدميها.. أو نراها في لوحة أخري تستلقي في وضع أقرب إلي الولادة داخل مبني قديم يطل منه رأس حيوان كقط نائم. وقد تتبدّي لنا المرأة في لوحة تالية وهي تطفو وسط دوامة أو عاصفة بشعر هائج محتضنة كائنا غامض المعالم، وقد نري في لوحة أخري امرأتين عاريتين تهشم جسداهما الحجريان وغرقا تحت الماء في مواجهة حيوان بحري خرافي لا اسم له.. ويطل علينا من إحدي اللوحات رأس امرأة خارجاً من جوف قدر هائلة الحجم، يعلو رأسها ويلتف حوله مايشبه خوذة صخرية.. وهذه -في لوحة أخري- امرأة تولينا ظهرها وهي محاطة بأطلال حجرية.. وتلك -في لوحة مجاورة -امرأة في مواجهة كرسي مقلوب كبير الحجم.. وفي أخري نري امرأتين تائهتين وسط أطلال وأنقاض.. وفي غيرها نراها تخلع رداءها الفخاري امام تفاحة ضخمة.. وتلك لوحة لامرأة مقيدة بالأصفاد، تغطي صدرها العاري ورقة شجر هائلة وبين أصابعها (ورقة كوتشينه) بعلامة (الكومي) وعليها رسم لحشرة كالخنفساء. وفي مقابل هذه الصور الكابوسية للمرأة، ثمة لوحات تظهرها بصورة رومانسية.. فها هي جالسة في إحداها تغطي جسدها برداء وعقْد كبير علي الصدر، ومن ورائها طريق يتلوي تحت ضوء الشمس، وهذه أخري نراها من ظهرها برداء وردي يبرز مفاتنها أكثر مما يخفيها، وهي تقف امام طبيعة مكفهرة بالسُحُب... وعدا ذلك الكثير من اللوحات تحتل المرأة دور البطولة فيها، تحتار من بينها عدة لوحات.. منها لوحة لمجموعة نسوة تتطلعن نحو مشهد مجهول لا نراه، وراء الصخور والأطلال.. وأخري لامرأة ورجل متقابلان بحميمية إلي حد التوحد، وفوق ذراع الرجل تفاحة كبيرة، وثالثة لامرأتين تتداخلان حتي الاندماج وحلول إحداهما في جسد الأخري. أيقونات السمكة والكبش والبومة الملكة: تتقاسم المعرض - إلي جانب المرأة - لوحات بمثابة أيقونات أخري، مثل أيقونة السمكة.. بكل ما نرمز إليه في المفهوم السائد من معاني الخصوبة والتكاثر.. فنراها عملاقة تهيمن علي أغلب مساحة اللوحة وتثير الرهبة بعينها الزجاجية الميتة فوق تابوت ينحشر فيه رأس امرأة، ومن تحتة كائن أسطوري علي رأسه منجل ملك الموت ومن تحته ضفدع ضخمة، وفي خلفية اللوحة امرأة تغادر المشهد وهي تجر رداءها خلفها.. ويتكرر ظهور السمكة في كثير من اللوحات دون أن تعني الخصوبة والتكاثر، بل تقترن بالموت والنهش والتحلل، مثلما نري في لوحة بها رأس خرافي لسمكة في مواجهة زهرة قرمزية توحي بكأس أسطورية محطمة.. وفي لوحات أخري تبدو الأسماك ممزقة متآكلة ومتكلسة كأحجار بركانية.. لكن الفنان يفاجئنا بلوحة لسمكة كبيرة علي خلفية نخلة سامقة، فيوحي لنا بأن السمكة صاعدة نحو نهايتها المحتومة.. بسقوطها من فوق النخلة، أو ربما كانت الفكرة هي استعادة أسطورية من الفنان للأغنية الفلكلورية التي تخاطب طالع الشجرة، بما يسمح للمخيلة أن تحول النص إلي: ياطالع النخلة هات لي معاك سمكة! وإلي جانب لوحات السمكة المنهوشة.. ثمة لوحات قليلة تتسرب إلي المعرض من معارض سابقة للفنان، تحتوي علي أيقونتين مختلفتين وهما الكبش والبومة، حيث نري كلا منهما يبسط سيطرته الكلية علي الكون، ومن تحتهما أطلال حضارة دارسة.. فرأس الكبش المقدس في الحضارة المصرية القديمة (خنوم) بجُرمة الأشهب لم يعد حاضراً بجبروته الأسطوري برغم مظهره المهيمن، بل صار وديعاً بلا حول ولا قوة، وربما صار نعجة فوق أطلال مدينة بائدة.. أما البومة.. بعينيها الكاشفتين لما تخفيه طبقات الظلام، فتنظر نحونا من عليائها فوق الأطلال بتحد سافر وتهكم ساخر مما بلغه الإنسان من مدنية مدمرة، فلم يبق شيء غير الخراب الذي توجت ملكة لعالمه، ينطبق عليها المثل العربي: "خلا لك الجو فبيضي وصفري"! رؤيتان في المعرض: إن عالم الأسطورة يبدو استمراراً -إذن- لعالم الفنان القديم، ويعكس درجة عالية من التشاؤم الفلسفي حول الحياة والوجود، اما المجموعة الأكبر من لوحات المعرض -التي تمثل المرأة البطولة المطلقة فيها - فتحمل قدراًَ من الحلم والشاعرية ومن تجليات الأنوثة والخصوبة، ومن معالم الطبيعة البكر، التي تنبئ -كما سبق القول- بنوع من المصالحة والتفاؤل الحذر.. حتي ولو كان ذلك مجرد وقفة أو هدأة مؤقتة مع الذات لالتقاط الأنفاس.. والفنان- سواء في المراحل السابقة أو المرحلة الحالية -يصدر عن رؤي فلسفية لا تصل إلي حد اليقين.. تتراوح بين الوجودية والسريالية والميتافيزيقية والأسطورية.. وتغلفها الشاعرية في مجملها. لكن ماينبغي التركيز عليه قبل ذلك كله هو أسلوب الفنان في معالجة هذه الرؤي.. فقد اختار دائما أسلوبا كلاسيكياً، وقد يبدو من النظرة الأولي منهجا تاريخيا تخطاه الزمن.. لكننا لدي تأمله عن قرب نراه يتخطي هذا المنهج بابتعاده عن فكرة المحاكاة والتمثيل للطبيعة وعن المثالية المطلقة في عناصرها الواقعية، وإن بدا جسدانيا مغرقاً في الحسية.. وقد نري الفنان يأخذ بالنظرة "الجشطلتية" للكائنات كوحدة متكاملة لا تتجزأ، بعيداً عن التفاصيل الوصفية لعناصر الواقع، ليحقق بناءً قوياً راسخاً ذا أساس مكين، كما يلجأ إلي فكرة الإدماج والإحلال والتلبس والتوحد بين الكائنات، مع احتفاظه ببعض السمات الكلاسيكية من ثبات وتجسيم ومنظور هندسي وعدم اهتمام بالحركة الديناميكية للعناصر، مخففا من ذلك باختفاء الغموض السحري علي الكائنات، وبتأثير بقع الضوء في نقل الحركة عبر مراكز إضاءة متناثرة أو متبادلة فوق سطح اللوحة، متأثرا في ذلك برؤية رامبرانت في توظيف الضوء بين المساحات المظلمة.. إلا أن الأعمال الأخيرة للفنان قد شهدت ثراءً واضحاً في التأثيرات الملمسية الخشنة والمتقطعة، ما أدي إلي توتر درامي.. كما تجاوزت "البالته" اللونية للفنان درجات اللون البني التي سادت أعماله السابقة فجعلتها أقرب إلي المونوكروم أو إلي الزمن القديم. حيث احتشدت اللوحات الجديدة بألوان قوية علي سلم لوني متعدد الطبقات.. كما تألقت بعض هذه اللوحات بإضاءة نهارية تنتشر مفسحة المجال لصرحية العناصر وجماليات الطبيعة، مع الحرص علي النأي بعيداً عن الصورة الوصفية المباشرة، لتظهر في خلفية اللوحات ملامح غامضة لقلاع وحصون ومبان أركيولوجية مندثرة. وإن كانت رؤيته الجديدة أكثر إنسانية وشاعرية وأقل سريالية من أعماله السابقة، فإنها قد تفتقر للكثير من دراميتها وديناميكيتها ومخاطرتها البصرية والتعبيرية معاً.. فضلا عما تشي به من رؤية انسحابية من الواقع والعصر، وهو ما يصب في فن بلا هوية.. لكن الكلمة الأخيرة سوف تكون للأيام والتجارب المقبلة بعد هذه الهدنة أو الهدأة التي ربما استدعتها ظروف الفنان.