أتذكرُ الآن ذلك الصيف الأخير قبل أن يرسلوني بعيداً. كان ذلك في 1979، والشمس في كل مكان، وتحتها رقدتْ طرابلس لامعةً وساكنة، وقد مضيَ كل إنسانٍ وحيوانٍ ونملة يستميتون بحثا عن الظل، في تلك الرُقع الرمادية من الرحمة إذ تتناثر، هنا وهناك، منحوتةً في بياض كل شيء. ولكن الرحمة الحقيقية لم تكن تصل إلا مع الليل، نسمةً يبرّدها خلاء الصحراء ويرطّبها البحرُ الهامسُ، فهي ضيف متمنع يعبر الشوارع الخاوية في صمت، لا يدري إلي أي مدي له أن يجوب مملكة النجم الأوحد هذه. النجم الذي يبزغ الآن، وفياً كعهده، طاردا أمامه تلك النسمة المباركة. وقد أوشك الصبحُ علي الطلوع. كانت النافذة في غرفة نومها مفتوحة علي اتساعها، وشجرة الصمغ التي أمامها صامتة، خجلة الخضرة في النور المبكر. ولم تكن قد نامت حتي صارت السماء رماديةً مع الفجر. وحتي في ذلك الوقت، كنتُ أخشي أن أتحرك من جنبها، وأنا لا أعرف إن كانت سوف تثب من جديد - مثل دمية متحركة تتظاهر بالموت - لتُشعل سيجارة أخري وتواصل استجدائي، كما كانت تفعل قبل دقائق قليلة فقط، ألّا أخبر أحداً، ألّا أخبر أحداً. لم يعلم بابا شيئاً عن مرض ماما؛ فلم تكن تمرض إلا وهو مسافر في عمل. فكأننا، حين يخلو العالم منه، لا نكون غير تذكارين أحمقين، أو صفحتين خاويتين لا تمتلئان إلا بذكري كيف تمّ زواجهما. جلستُ مراقباً وجهها الجميل، وصدرها يعلو ويهبط مع كل نَفس، غير قادرٍ علي تركها، وكأنني أسمع ما حَكَتْه لي قبل قليل يدور ويتردد في رأسي. أخيراً تركتُها وذهبتُ إلي السرير. حين استيقظتْ أتت إليّ. شعرتُ بثقلها يغوص بجانبي، ثم بأصابعها في شعري. صوتُ أظافرها علي فروة رأسي ذكّرني بمرّة ساء فيها حظي، إذ قذفتُ تمرةً في فمي دون أن أفتحها أولاً، فلم أكتشف أن السوس قدغزاها إلا وأجساده القشرية الصغيرة تطقطق تحت أسناني. بقيت مستلقيا، صامتاً، متظاهرا بالنوم، مُنصتاً إلي تنفسها الذي تشوّشه الدموع. حاولتُ علي الإفطار ألا أتحدث إلا قليلا. أصابها صمتي بالتوتر، فمضت تتكلم عما قد نأكله علي الغداء. سألتني إن كنتُ أريد بعض المربي أو العسل. قلتُ لا، ولكنها ذهبت للثلاجة فجلبت شيئاً منها علي أي حال. بعدها، وكالمعتاد في الصباحات التي تلت مرضها، أخذتني في جولة بالسيارة لتسحبني خارج صمتي، وتردّني إلي نفسي من جديد. في انتظار أن تسخن السيارة، فتحت الراديو وراحت تحرّك المؤشر فلم تتوقف حتي سمعت صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الجميل. سَرّني هذا، لأنه كما يعرف الجميع لا بدّ أن نمسك عن الكلام وننصت في خشوع إذا قرئ القرآن. وقُبيل أن ننعطف لندخل في شارع قِرقارِش المحاذي للبحر، ظهر بهلول الشحّاذ فجأة من العدم. داستْ ماما علي الفرامل وقالت يا ساتر. راح يحوّم بجانبها، ماشياً ببطء، شابكاً يديه الوسختين علي بطنه بإحكام، وشفتاه ترتعشان. قالت ماما "أهلاً يا بهلول" وهي تنبش في محفظة نقودها. قال "انا نشوف فيكم، نشوف فيكم" وبرغم أنها كلماته التي غالباً ما يفوه بها، فكّرتُ في هذه المرة كم هو معتوه بهلول هذا وتمنيتُ أن تُخفيه خافية. راقبتُه في المرآة الجانبية وهو يقف في عرض الشارع، يضمّ النقود التي أعطتها له ماما إلي صدره كمن أمسك فراشةً للتو.
أخذتني نحو وسط المدينة، إلي بائع حلوي السمسم في السوق قُرب ميدان الشهداء، الميدان المشرف علي البحر، الميدان الذي يقف فيه بشموخ تمثال سيبتموسسيفيروس، الإمبراطور الروماني الذي وُلد في "لبدة" قبل كل تلك السنين. اشترت لي من حلوي السمسم كل ما طلبت، وقد التفت كل واحدة في ورقة سيلوفان معقودة من طرفيها. رفضتُ أن تضعها في حقيبتها. وكان العناد في مثل تلك الصباحات يستولي عليّ. قالتْ: "لكن مازالت عندي حاجات أكثر أشتريها، وسوف تقع منك بهذا الشكل." فقلتُ مقطباً حاجبي "لا، سوف أنتظرك بالخارج"، وابتعدت عنها في غضب، غير مكترث بأن تتوه مني أو أتوه أنا منها في المدينة الكبيرة. صاحتْ عليّ فانتبه الناس "اسمع. انتظرني عند تمثال سيبتموسسيفيروس". كان علي الجانب مقهي كبير يفرش مقاعده في الممشي، وفيه رجال، أعرف وجوه بعضهم من قبل، جلسوا يلعبون الدومينو والورق. تعلّقت أعينهم بماما. تساءلتُ لو أن ثوبها ينبغي أن يكون أوسع. وأنا أسير مبتعداً عنها شعرتُ كأن سلطتي عليها تنحسر، بدأت أشعر بالأسف والحزن، فقد كانت دائماً في مثل تلك الصباحات تبدو سخية وخجلة، كما لو أنها خرجت عارية. وددتُ لو أجري إليها، لو أمسك يدها، لو أتشبث بثوبها بينما تتسوق وتتعامل مع العالم، هذا العالم الحافل بالرجال وطمع الرجال. أرغمتُ نفسي علي ألا أنظر ورائي وركزّت بدلاً من ذلك علي المتاجر المتراصة في الفسحات مقوَّسة الأسقف علي جانبي الممر المغطَّي. فوق متجرٍ منها تطايرت الأوشحة الحريرية كالموج، وأمام متجر آخر تكدست القبعات السوداء مرتفعة بطول قامات الرجال. كان سقف الممر مصنوعاً من شرائط داكنة من القماش. ونِصال الضوء البيضاء التي اخترقت فتحات السقف أنارتْ الغبار السابح والتمعتْ ساكنة وجميلة علي الأقواس والأرضية، لكنها كانت تندفع مثل شرارات علي رءوس المارة ثم هابطة علي أجسادهم، جاعلةً الظلال تبدو أدكن مما كانت عليه. بالخارج، كان الميدان مغموراً بضوء الشمس، والأرض توشك أن تكون بيضاء تماماً من البريق، حتي بدت الأحذية الداكنة والأجساد التي تعبره وكأنها تطفو فوق العالم. تمنيتُ لو كنتُ تركت عيدان حلوي السمسم معها. صارت إبراً صغيرة توخز ذراعيّ. ورحت أوبخ نفسي علي عنادي وعلي تركها تشتري لي كل هذا العدد. نظرتُ إليها بين ذراعيّ فلم أشعر بأية شهية نحوها. استندتُ علي قاعدة تمثال سيبتموسسيفيروس الرخامية منعشة البرودة. وقف الإمبراطور الروماني من فوقي، وحزامه المرصّع بالفضة متدلٍ إلي ما تحت بطنه، وذراعه تشير نحو البحر، "داعيا الليبيين أن ينظروا صوب روما"، مثلما وصف لنا أستاذ رشيد وقفة التمثال. كان أستاذ رشيد والد كريم أقرب أصحابي ويدرّس تاريخ الفن في جامعة الفاتح. تذكرت قائدنا وهو يقف مثل هذه الوقفة مرتدياً واحداً من أزيائه العسكرية، ويُلوّح بذراعه بينما تمر الدبابات قُبالته في عيد الثورة. التفتُ نحو البحر، بزرقته الفيروزية اللامعة فيما وراء الميدان. بدا وكأنه وحش أزرق عملاق ينهض علي حافة العالم. رحتُ أزمجر: "غرررر"، ثم تساءلتُ تُري هل سمعني أحد. ركلتُ بكعب حذائي قاعدة التمثال مرات عديدة. حدّقتُ في الأرض، في حرارتها وبريقها اللذين جعلاني راغباً في النعاس بعينين مفتوحتين. ولكن عندئذٍ، ودون أي بحث وقعت عيناي علي هدفي مباشرةً، ورأيتُ بابا. كان يقف علي حافة الرصيف في الشارع المواجه للميدان، يتحقق من السيارات المارة في الاتجاهين، منحنياً للأمام كأنه علي وشك السقوط. قبل أن يخطو إلي نهر الطريق أشار بيده ثم فرقع إصبعيه مرتين. كانت تلك إيماءته التي أعرفها. أحياناً كان يشير لي علي هذا النحو، وكأنما يقول "هيا، هيا" ثم يطرقع إصبعيه، "هيا، انهض." من خلفه ظهرَ ناصر، الموظف في مكتبه، حاملاً تحت ذراعه آلة كاتبة صغيرة لامعة السواد، مكافحاً للحاق به. كان بابا يعبر الطريق بالفعل متجها ناحيتي. للحظة اعتقدتُ أنه قد يكون آتيا بناصر إلي تمثال سيبتموسسيفيروس، ليعلِّمه عن الإمبراطور الروماني كل ما علمني عنه، وعن مدينة لبدة الكبري وروما. فقد كان بابا يعتبر ناصر أخا أصغر، وكثيراً ما قال هذا بلسانه. همست "بابا؟". كانت عيناه محجوبتين وراء عدستين داكنتين محدبتين كأنهما صَدَفَةُ سلحفاة. لقد لوّن الله السماء والشمس والبحر بألوان كلنا نقدر أن نشير إليها فنقول إن البحر فيروزي والشمس برتقالة والسماء زرقاء. وكنت أري النظارات الشمسية فظيعة، لأنها تغيّر هذا كله وتنأي بمن يرتدونها. في تلك اللحظة، تذكرت بابا، قبل يومين اثنين فقط، وهو يودعنا بالقبلات، فقالت له ماما "ربي يوصلّك طيب، ويفتحها في وجهك". وقبلّتُ يده كما علمني. انحني وهمس في أذني "رد بالك من أمك، أنت الآن رجل البيت في غيابي"، وابتسم لي كما يبتسم الناس حين يظنون أنهم يُجاملونك. ولكن انظر الآن، انظر؛ ها هو يسير حيث أستطيع أن ألمسه، هنا حيث يُفترض بنا أن نكون معاً. تسارعت ضربات قلبي. كان يقترب أكثر. فكرت أنه ربما يقصدني، ولكن كان من المستحيل رؤية عينيه. راقبتُه يمشي مشيته المألوفة تلك، وقد ارتفع رأسه إلي الأعلي قليلاً، ومضي حذاؤه الجلدي المصقول يدق مع كل خطوة، علي أمل أن يصيح باسمي، ويلوّح بيده، ويطرقع بإصبعيه. وأُقسم لو أنّه فعلها لوثبتُ بين ذراعيه. وحينما صار أمامي، قريباً لدرجة أني لو مددتُ ذراعي للمسته، كتمتُ أنفاسي وامتلأت أذناي بالصمت. رأيتُ في وجهه تعبير المهابة، الذي كنت أقدِّره وأخشاه، والتقطتْ أنفي حواف رائحة العطر الذي يضعه بعد الحلاقة، وشعرت كأن الهواء انتفش من حوله وهو يسير مبتعداً. تبعه ناصر علي الفور، حاملاً الآلة الكاتبة لامعة السواد تحت ذراعه. تمنيتُ لو أنني مكانه، أتبع بابا هكذا مثل ظله. دخلا عمارة، من العمارات المطلة علي الميدان، بيضاء ذات نوافذ خضراء. كان الأخضر لون الثورة، ولكن نادراً ما تري نوافذ مطلية به. " ألم أقل لك انتظرني عند التمثال؟" سمعتُ ماما تقول هذا من خلفي. التفتُ للوراء ورأيتُ أنني شردتُ بعيداً عن سيبتموسسيفيروس.
شعرتُ بالغثيان، خشيةَ أن أكون ارتكبتُ خطأً بطريقةٍ ما. لم يكن بابا في رحلة عمل خارج البلاد، بل هنا، في طرابلس، حيث ينبغي أن نكون معاً. كان يمكنني أن أمدّ يدي وأمسك به من المكان الذي كان متوجهاً نحوه، لماذا لم أتحرّك؟ جلستُ في السيارة وهي تنقل إليها المشتريات، ولم أزل مُمسكاً بحلوي السمسم، رافعا عينيّ نحو المبني الذي دخله بابا وناصر. ارتجّت نافذة في الطابق الأعلي ثم فُتحت، وظهرَ فيها بابا. حدّق في الميدان، وقد خلع نظارته الشمسية، وانحني مستنداً بيديه علي حافة النافذة مثل زعيم ينتظر أن يتوقف التصفيق والهتاف. علّق منشفة حمراء صغيرة علي حبل الغسيل واختفي بالداخل.
في طريق العودة إلي البيت كنتُ أكثر صمتاً من ذي قبل، دون أن أبذل في ذلك أي جهد هذه المرة. ما أن غادرنا ميدان الشهداء حتي أخذتْ ماما تدير رقبتها نحو مرآة الرؤية الخلفية. وعندما توقفنا في إشارة المرور التالية، راحت تهمهم هامسةً بدعاءٍ ما. توقفتْ سيارة قريبةً للغاية بجانبنا بحيث كان يمكنني أن ألمس خد السائق. كان فيها أربعة رجال يرتدون بدلات سفاري غامقة وينظرون إلينا. لم أتعرف عليهم للوهلة الأولي، ثم تذكرت. تذكرتُ فجأة حتي شعرت بقلبي يثب. كانوا هم أنفسهم رجال اللجان الثورية الذين أتوا منذ أسبوع وأخذوا الأستاذ رشيد. نظرتْ ماما إلي الأمام، وظهرها يبتعد سنتيمترات قليلة عن الكرسي، وقبضتاها مضمومتان بشدة حول عجلة القيادة. حررتْ إحدي يديها، ووضعتها علي ركبتي وهمستْ لي في صرامة "انظر أمامك". حين اخضرَّت إشارة المرور لم تتحرك السيارة المجاورة. يعرف الجميع أنه لا يجب تجاوز سيارة من سيارات اللجان الثورية، فإن كان ولا بدّ فبحذر وتروٍّ، ودونما إظهار أي قدر من السرور بالأمر. بدأت بضع سيارات خلفنا في إطلاق نفيرها، دون انتباه لهوية السيارة التي تقف إلي جانبنا. انطلقت ماما بالسيارة ببطء، وهي تنظر إلي المرآة الخلفية أكثر مما تنظر إلي الطريق أمامها. ثم قالت "إنهم يتبعوننا، لا تنظر للخلف". حدّقت في ركبتيّ العاريتين أدعو وأدعو، وقد أحسستُ بالعرق يتجمع بين راحتيّ والسيلوفان الذي يغلِّف حلوي السمسم. ولم تنطق ماما بحرف حتي أوشكنا علي الوصول للبيت فقالت "خلاص، ذهبوا"، ثم تمتمتْ لنفسها "أليس لديكم شيء يشغلكم أفضل من توفير حراسة لنا يا كلاب ؟" اطمأن قلبي وانفرد ظهري، وتلاشي الدعاء من شفتيّ. وكان الشيخ مصطفي إمام مسجدنا، قد علّمني أن الصالحين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن المذنبين لا تطمئن قلوبهم. لم أساعدها في حمل المشتريات إلي المنزل كما اعتدتُ أن أفعل. ذهبت إلي غرفتي مباشرةً ورميت حلوي السمسم علي السرير، نافضاً ذراعيّ مجريا الدم فيهما من جديد. تناولت كتابي المصور عن مدينة لبدة. كنتُ قد زرت المدينة العتيقة قبل عشرة أيام للمرة الأولي، والتي تبيِّن فيما بعد أنها الأخيرة. فلم تزل صور مدينة الأطلال المهجورة المجاورة للبحر ماثلة في ذهني مفعمة بالحياة. اشتقتُ أن أعود إليها. لم أخرج من غرفتي إلا حين اضطررتُ إلي ذلك ،بعد أن أعدّتْ الغداء وجهزتْ المائدة ونادت عليّ. قطّعت الخبز وناولتني قطعة، ورأيت أنها لم تغرف لنفسها سلطة، فقربت إليها الوعاء. في منتصف تناولنا للطعام نهضتْ وشغّلت الراديو. وتركت محطة فيها رجل يتحدث عن استصلاح الصحراء. قمت وقلت: "تسلم يداكِ"، وذهبتُ إلي غرفتي. قالت من ورائي"سأقيّل قليلاً". كان صمتي يدفعها لقول أشياء لا داعي لقولها، فقد كانت دائما تنام في القائلة، وكذلك كان الجميع يفعلون، الجميع سواي. لم أستطع أبداً أن أغفو ساعة القيلولة. انتظرتُ في غرفتي حتي انتهت من غسل الصحون وأعادت الطعام لمكانه، ولما تأكدتُ أنها نائمة، خرجتُ. كنت أسير في المنزل بحثاً عن شيء أقوم به حين رنّ جرس الهاتف. جريت إليه قبل أن يوقظها. كان بابا. عند سماع صوته تسارعت دقاتُ قلبي. فكّرت أنه لا بدّ اتصل مباشرةً بعد أن رأيته ليفسّرَ لماذا لم يسلّم عليّ. "أين أنت؟". "خارج البلاد. دعني أتحدث إلي أمك". "في الخارج، أين؟". فكرر: "في الخارج،" كما لو كان من الواضح أين يقع هذا المكان. "سأعود غداً." "اشتقت إليك". "وأنا أيضاً اشتقت إليك. نادِ والدتك." "نائمة. هل أوقظها؟" "قل لها فقط إنني عائد إلي البيت غداً، علي الغداء." لم أرغب أن ينتهي الحديث فقلتُ: "لقد تبعونا اليوم بنفس السيارة البيضاء التي أخذوا فيها أستاذ رشيد. كنا إلي جانبهم تماماً في إشارة المرور ورأيتُ وجوههم. كنتُ قريباً للغاية منهم بحيث يمكنني أن ألمس خد السائق ولم أخف من شيء، ولاحتي شيء بالمرة، ولا حتي قليلاً، لم أخَف." "ساراك غداً، ووضع السمّاعة. وقفت لبرهة بجانب الهاتف أسمع الصمت الكثيف الذي كان يبدو أنه يحلّ علي بيتنا في تلك الساعات من بعد الظهيرة، صمتٌ يشحذه طنين الثلّاجة في المطبخ وتكتكة الساعة المعلقة في الردهة. ذهبت لأري ماما وهي نائمة. جلستُ إلي جانبها، واطمأننتُ قبل كل شيء أن صدرها يعلو ويهبط بالأنفاس. تذكرتُ الكلمات التي قالتها لي ليلة أمس "نحن روح واحدة وانقسمت نصفين، نحن صفحتان في كتاب واحد"، كلمات شعرتُ بها هديةً لم أكن أريدها.