ذهب عمي الطاهر . عندما زرته قبل أن يعود الي الجزائر، كان ذلك ظهر الأحد 13 جوان، راودني لبرهة حدس بأنني أراه لأخر مرة، وكان ذلك فعلا. كنت قد زرته خلال الأسبوع، لكنني حين علمت انه يغادر فرنسا بعد ثلاثة أيام، قاومت كسلي الطبيعي، و حملت عائلتي الصغيرة، و قمنا بزيارته و كان في ضيافة صديقنا الصحفي محمد الزاوي. بدا لي في ذلك المساء متعبا أكثر من عادته، لكنه مازحنا كعادته، و شاكسني فأجبته مشاكسة أيضا، أنني امرأة و أم أولاد، وأنني يمكن ان أحدثه عن أحوال البيت، عن آخر مودة في تجهيز الصالون، و عن غلاء الأسعار...و كل تلك الأمور التي تتلهي بها النساء، كي لا تزعج الرجال و تتركهم يخوضون بكل حرية مهماتهم التاريخية. وواصلنا الحديث علي هذا المنوال. ثم عاتبته _هكذا في الأخير ستذهب يا عمي الطاهر، لمن ستتركنا في باريس ؟_ و حين سلمت عليه للانصراف وجه لي، بنبرة جدية، وصية تخص حياتي العائلية. فاجأنني فلم اعرف ماذا أقول، لكنني أحسست بأنني ألتقيه لآخر مرة. معرفتي بعمي الطاهر تعود للتسعينات عن طريق الشاعر عمار مرياش. وتوطدت هذه العلاقة خلال السنة السوداء سنة 97 سنة المجازر في الجزائر العاصمة. كان زوجي قد غادر الجزائر الي فرنسا ولم يكن في إمكاني اللحاق به بعد. و قد كان عمي الطاهر و زوجته الكريمة يسألان عن أحوالي باستمرار و يدعوانني لمشاركتهم كسكسي نهاية الأسبوع. ثم رحلت الي فرنسا و جرت الأيام. حين جاء عمي الطاهر الي باريس للمعالجة في نهاية 2008، اعتدنا علي زيارته مع عائلتي، و كان يتعامل مع المرض بشجاعة و بروح الفكاهة التي عرف بها. فلم يكن يشتكي و يطيل الحديث عن الداء الذي يعاني منه. وكان سرعان ما يوجه الحديث الي مواضيع أخري، شخصية، عائلية، أو أدبية. فكان مريضا زيارته خفيفة و ليست شاقة أبدا كما يحدث غالبا حينما يكون الداء من هذه الخطورة. فكنا نعود في كل مرة من زيارته بمعنويات أحسن و بحماس أكثر. بالفعل هو الذي كان يحمسنا و يشجعنا علي تجاوز مشاكلنا و احباطاتنا. حتي اننا تعودنا أن نلح عليه، بكل أنانية، بان يستقر في باريس فنحن بحاجة إلي وجوده معنا أكثر من كل الذين تركهم وراءه في الجزائر. فكان يجيبنا مازحا بالقبول مشترطا علينا عدة مطالب تعجيزية. و من اللقاءات التي ستبقي عالقة في الذاكرة، الأوقات التي قضيناها معه خلال احتفال نهاية سنة 2009 . لم تكن حالته جيدة في الأسابيع التي سبقت نهاية السنة، وحين هتفت له لأطلب منه مشاركتنا عشاء و سهرة 31 ديسمبر أجابني بان ذلك كان سيسعده كثيرا و لكن صحته لا تسمح له بذلك. فأصررت علي هذه الدعوة واقترحت أن ينام عندنا حتي لا يتعب أكثر. و لكنه اعتذر بلطف، و غير عمي الطاهر رأيه ليلة ذلك الاحتفال، ففرحت لهذا و كان فعلا احتفالا، آتي كما عادته محمل الأيدي، أهداني ورودا و برتقالا من حديقة بيته في الجزائر، بعثت به زوجته و قد وصلته اليوم ذاته ، وقضينا سهرة مرحة معه و بعض الأصدقاء الجزائريين. وكان أصدقاؤنا من اصل أمازيغي فجري الحديث عن العربية الأمازيغية وعن التزاوج بين هذين الانتماءين، و عن الثقافة الشعبية و الشعر الشعبي و ما آل اليه. و كان عمي الطاهر مرحا مهتما بالجميع. و سعدنا لحالته فقد أكل- علي غير عادته- قليلا من أغلب الأطباق، وذهب الأولاد للنوم، واطلنا السهر ثم غادرنا أصدقائنا و نام الجميع. وفي الصباح حين طرقت برفق علي باب الغرفة لأوقظه أجابني عمي الطاهر في الحين فقد كان مستيقظا. و جلسنا نأخذ فطور الصباح، ثم استيقظ الأولاد و تفاجئوا برؤية عمي الطاهر جالسا علي كنبة الصالون أمام مائدة الفطور و ابتهجوا كما لو أنهم وجدوا البابا نوال في الصالون. ووضعت البرتقال علي المائدة، حيث كنت نسيته عند العشاء لكثرة المحليات كما هي العادة في مثل هده المناسبات ، و جلسنا نأكل البرتقال اللذيذ المشبع بهواء و شمس الجزائر، برتقال حديقة عمي الطاهر، و شعرت في تلك الجلسة بشعور فارقني من زمان، شعور يعود الي الجلسات العائلية مع والدي حول مائدة العيد في منزلنا بمدينة البليدة.شكرا عمي الطاهر علي كل شيء و شكرا علي البرتقال. } باريس