أعرف الكاتب أحمد ناجي منذ ما يقارب العشرة أعوام. كان ناجي بوابتي الأولي لمعرفة القاهرة وأهلها. نزهتي الأولي في وسط البلد كانت معه. لقد مرَّت دورة كاملة منذ تلك الزيارة. عقدٌ كامل بدأ بحركة كفاية، مرورًا بالثورة المصرية وصولًا لمصر المجلس العسكري، ومن ثمَّ مصر الإخوان، وانتهاءً بمصر السيسي. قبل نزولي القاهرة، تحادثنا وتعاركنا وتحادثنا علي مدوَّنته ومدوَّنتي وفي الإيميلات. هناك من العراكات بيننا ما يصعب حصرها بيننا كمجموعة كانت تكتب في فضاء الإنترنت العام آنذاك: الإسلام، الحركات المسلَّحة، القضيَّة الفلسطينيَّة، الغرب، إلي آخر المواضيع القليلة التي تحدَّد الحديث فيها قبل العام 2011. أنا آتي من إرث عروبي وقومي أحاول الخروج منه بتأنٍ وبلا ردَّات فعل متطرّفة، وهو ينطلق من مصر مبارك التي لا أعرف عنها كثيرًا، فأحصرها في عالم متخيَّل عن دور مصر المركزي السابق للنكسة. لقد كان عصرًا خاليًا من الشبكات الاجتماعية، يقتصر علي المنتديات والمدوَّنات والايميلات والتشات، وكنا أنفارًا يمكن عدُّهم بسهولة. في زيارتي الأولي للقاهرة عام 2008، قبضوا علي حسين، فانتهيتُ مع أصدقائي في مركز هشام مبارك أتابع قضيَّته. وفي الثورة، أصابوا عين مالك. ثمَّ بعدها، قبضوا علي علاء، ثمَّ ماهينور، ثمَّ سناء. وخلال ذلك كله أصابوا جسم سلمي بالخرطوش. حتي جاء يومٌ ذات صيف، زرتُ فيه القاهرة فوجدتُ الناس يرقصون في الشارع لمروحيَّات عسكرية ترسم لهم قلوبًا دخانيَّة في السماء. كان كرنفالًا يوحي أنَّ هذه الفاشيَّة المجتمعيَّة ستقيم لفترة، وأنَّ هذا البلد الذي يجبرك -من حبِّه - علي تحمِّل غباره وتعبه ووسخه الذي يعلق تحت الأظافر نهاية كل يوم، ستدخل مرحلة غير مسبوقة من القمع السياسي والمجتمعي. ربَّما يحتاج الواحد منَّا أحيانًا لشخصنة القضايا العامة ليعود من لا مبالاةٍ ما تسيطر عليه وهو داخل النفق. لكني أفكِّر أيضًا خلال متابعة أخبار محاكمة وسجن ناجي، أنه ينبغي الحذر من السقوط في فخ االحزنب الذي تنصبه مؤسسات الدولة مع كل انتهاك وعنف نظامي ترتكبه بلا مساءلة. تتراوح كتابات أحمد ناجي بين الأدبيْن الغاضب والساخر. لكنَّه في هذا وذلك يبقي مسيَّسًا، وتسييس كتباته موجَّه، لا فوضوي علي عهد الاتهام السلطوي الغبي غير ذي المعني. في المساحة الممتدَّة بين غضب عدمي والتزام صارخ، انوجدَت مقالات ناجي وتدويناته ونصوصه وروايتاْه. مازجًا بين العدميَّة الغاضبة والالتزام، لم يوفِّر ناجي أصدقاءه والشخصيات التي صارت عامة أثناء الحراك المصري من نقده، فكانت آراؤه عن البرادعي واشباب الثورةب سابقة لما ظهر لاحقًا من فشل عام وانتهازيّة فاضحة. أمّا تعليقاته عن الطبقة الوسطي ومحافظتها المجتمعية والسياسية فكانت غير شعبيَّة، وذائقته الموسيقيَّة لم تكن يومًا تُلاقي الذائقة الأخلاقية التي تحكم علي الحاضر بوصفه وريثًا غير مؤهل لماضٍ جبَّار. وناجي لم يكن يتحرَّج من تضمين نصوصه بعض التأثيرات البصريَّة ضاربًا عرض الحائط بفكرة حماية مصادر النصِّ المنتشرة بين كتَّاب الإلهام، ومع هذا كله، خاصمَت لغته عبارات ثابتة اصطُلِح علي استخدامها لوصف الحب والجنس والنزق والغضب. يمكن الجدال إلي ما لا نهاية في مضمون ومستوي ما يكتبه ناجي، وقد يُشارك ناجي نفسه في مثل هذا النقاش، لكن الموضوع غير ذي صلة بالقضيَّة وحكم السجن لعامين، فناجي لم يأبه يومًا أن ينتمي لنخبة مثقفة تعيش علي صلتها االرحميَّةب بمؤسسة الدولة، وتُعلن عن ضرورة حماية قيم الحداثة المفتعلة والمنقوصة مُغفلةً بالطبع دور الدولة في علاقتها بجماعاتها داخلها وخارجها. لم يهتمَّ أن يكون واحدًا من الذين يبنون صورتهم العامة التي تقترب من الكمال، ويعيشون عليها، ولا يمكن تصوُّره في زمن مقبل عضوًا في مجلس حكماء ما يجتمع مع سلطة مقبلة. إنَّ نظرة سريعة علي مواقفه اللحظوية علي حساباته في الشبكات الاجتماعية تؤكد هذه الفكرة. فناجي ابن لغة عاقة كنا نتعارك دومًا حول منصوباتها ومرفوعاتها، وابن موسيقي يمقتها الأخلاقويُّون، وابن الانترنت المفتوح السابق، والرافض لانترنت اليوم الذي يُدفَع يومًا بعد يوم نحو التتجير والتأهيل المجتمعي، في حضور اللجان الإلكترونية ومجتمعات الفضيلة المعنِّفة. لكنّه حتي في كونه كل ذلك، لم ينتمِ لمجموعة من المثقفين تحدَّد دورهم بلعبة تكسير التابوهات السطحية والمباشرة مع تحييد علاقة الدولة بجماعاتها داخلها وخارجها. ناجي بهذا المعني هو هارب إلي عالم آخر، وليس من قبيل الصدفة أن يكون مهتمًا بملاحقة كتَّاب من مثل جورج حنين أو ألبير قصيري. نحن، بضعة أصدقاء ومجموعة من قارئي ناجي، غاضبون. لكنَّ حزننا عزيز، ولن نستدخله في خطاب الدولة وسلطاتها، أو نعتمد خطاب مثقفين لا ينتجون إلا ثقافة مهزومة قائمة علي رفع الإصبع والتحذير من الخراب، ويساوون بين الدولة والمعترضين عليها باعقلانيّةب معهودة ممَّن اعتاد البقاء علي الهامش لينتهي مثقَّف سلطة. نحن نعرف أننا وحدنا تمامًا، ولذلك نغضب ولا نحزن. (روائي لبناني)