في أبريل 1997 ألقي الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا محاضرة طويلة في كلية الفلسفة بباريس، حول مفهوم الكذب. المحاضرة كانت صياغة مختصرة للدروس التي ألقاها في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية بباريس خلال الموسم الجامعي 1994- 1995 تحت عنوان "مسائل المسئولية. الشهود" وتلقي الضوء علي ضرورة التمييز بين تاريخ الكذب كمفهوم وتاريخه في حد ذاته، والذي يحيل علي عوامل تاريخية وثقافية تساهم في بلورة الممارسات والأساليب والدوافع التي تتعلق بالكذب، والتي تختلف من حضارة إلي أخري، بل وحتي داخل الحضارة الواحدة نفسها. الدراسة/المحاضرة التي كرسها جاك دريدا لدراسة هذا المفهوم صدرت مؤخراً في كتاب عن المركز الثقافي العربي بترجمة وتقديم رشيد بازي، الذي يقول في تقديمه إنه يجب العمل علي تحديد أوجه القرابة التي توجد بين الكذب ومفاهيم أخري. فيجب علي سبيل المثال التأكيد كما يفعل كانط- علي العلاقة العضوية التي تربط الكذب بالوعد ومن ثم بالحنث. فالكذب هو في خاتمة التحليل إخلال بالوعد الذي أعطاه الكاذب ضمنيا للآخرين بقول الحقيقة لهم، وبالتالي فهو يسعي إلي توجيه سلوكهم، أي أن الكذب يتضمن بعدا إنجازيا غير قابل للاختزال. في الدراسة يستخلص دريدا نتائجه من فرضية جوهرية حول العلاقة بين الكذب والقصدية، ويذهب إلي أنه من المستحيل وذلك لاعتبارات بنيوية، البرهنة بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة بأن أحدا ما قد كذب، وذلك علي الرغم من أننا بوسعنا البرهنة علي أنه لم يقل الحقيقة! ويؤكد من جهة أخري، استحالة الكذب علي الذات. فهل بإمكان الإنسان أن يقول لذاته وعن قصد أشياء مختلفة عن تلك التي يفكر فيها فعلاً، وأن يفعل ذلك قصد خداعها وإلحاق الأذي بها؟ أي كيف يمكن الكذب علي الذات دون اعتبارها بمثابة آخر مستقل يجب كما يري جان جاك روسو الالتزام بواجب الصدق تجاهه؟ ورغم عنونة الكتاب ب"تاريخ الكذب" يقول دريدا في دراسته إنه من الصعب الاعتقاد بأن يكون للكذب تاريخ " من يستطيع رواية تاريخ الكذب؟ ومن بإمكانه الجزم بأن تاريخ الكذب الذي يعد بروايته سيطابق الحقيقة؟ وحتي إذا افترضنا وقمنا بتنازل، لا يجب أن يعني أبداً تسليمنا، بأنه بإمكان الكذب أن يكون له تاريخ". لكنه يقول في موضع آخر أن بإمكان فعل الكذب أن ينتج تاريخانية من نوع آخر، تاريخانية داخلية للكذب "إذ افترضنا بأننا نتوفر في تقاليدنا المسماة بالغربية، سواء كانت ذات أصول يهودية أو يونانية أو رومانية أو مسيحية أو إسلامية، علي مفهوم موحد قار وموثوق فيه للكذب، فلا يكفي أن نعترف بتوفره علي تاريخانية نظرية في عمقها، أي ما يميزه عن المفاهيم السائدة في مراحل تاريخية وثقافات أخري. يجب كذلك فحص الأطروحة المقترنة بتاريخانية ذات أبعاد عملية واجتماعية وسياسية وقانونية وتقنية قد تكون ساهمت في تغيير مفهوم الكذب وربما تكون أحدثت قطائع داخل تقاليدنا المرتبطة به".