تعتبر الكاتبة لودميلا أوليتسكايا ظاهرة فريدة في الأدب الروسي المعاصر. وعلي الرغم من الجوائز الأدبية العديدة التي حصلت عليها الكاتبة وكون مؤلفاتها تتمتع بانتشار واسع في روسيا ويعاد إصدارها مرات ومرات ويتم ترجمتها إلي مختلف اللغات، إلا أن أعمالها كثيرا ما تتعرض لانتقادات أيضا ليس فقط من الناحية الأدبية بل والأخلاقية أيضا. ولدت لودميلا يفجينيفنا أوليتسكايا عام 1943م بجمهورية بشكيريا الروسية حيث تم ترحيل أسرتها في سنوات الحرب إلي هناك. وقضت الكاتبة طفولتها المبكرة في مدينة دافليكانوفا إلي أن انتهت الحرب فعادت الأسرة مرة أخري إلي موسكو. وفي العاصمة التحقت لودميلا بجامعة موسكو الحكومية حيث اختارت أكثر الأقسام صعوبة وهو قسم علوم الجينات. وليس ذلك بغريب حيث كان أبواها يعملان في المجال نفسه. فقد كانت أمها ماريانا جينزبورج عالمة أحياء وكيمياء شهيرة. أما الأب يفجيني ياكوفليفيتش اوليتسكي فكان أستاذا في العلوم التقنية وله عدة كتب ومؤلفات عن الميكانيكا والاقتصاد الزراعي. وبعد أن أنهت دراستها الجامعية التحقت بالعمل بمعهد علوم الجينات العامة التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية واستمرت عامين فقط حيث أرغمت علي الاستقالة من وظيفتها لما لوحظ عليها من الولع بالقراءة وإعادة نسخ الكتب الممنوعة يدويا وهو الأمر الذي لم يكن مرحبا به في تلك السنوات. وكانت تلك اللحظة فارقة في مسارها الإبداعي حيث ظلت لودميلا بلا عمل لسنوات ثم التحقت بمساعدة أصدقائها للعمل رئيسا لقسم الأدب في المسرح الموسيقي اليهودي. وكان من بين واجبات الوظيفة كتابة المسرحيات والسيناريوهات وكذا نقد المسرحيات والعروض المسرحية. كما كانت أوليتسكايا تقوم أيضا بترجمة الأشعار من اللغة المنغولية وكان هذا أمرا نادرا. كان عملها يتطلب مهارة إبداعية كبيرة وقدرة علي رؤية العالم المحيط بتفاصيله الصغيرة. ودفعتها الوظيفة إلي التفكير في أن يكون لها نشاطها الأدبي الإبداعي الخاص وبدأت أعمالها القصصية في الصدور منذ نهاية الثمانينيات. ونالت الكاتبة شهرة واسعة ككاتبه سيناريو بارعة. وكان ذلك بفضل كتابتها لسيناريو فيلمي "الأخوات ليبيرتي" و"امرأة للجميع". كما قامت بكتابة سيناريو لأفلام "الموت السهل" و"ملكة البستوني" و"مراسم دفن مرحة". وصدرت أول مجموعه قصصية للكاتبة تحت عنوان "الأقارب الفقراء" في عام 1993م باللغة الفرنسية. وبعد مرور عام واحد نالت ترجمة "صونيتشكا" جائزة بوصفها الأفضل بين الكتب المترجمة. وقد نالت الكاتبة علي هذه القصة جائزة ميديتشي. ثم منحتها إيطاليا جائزتها الأدبية التي تحمل اسم جوزيبي أتشيربي. وبلغ عدد الأعمال التي نشرت للكاتبة منذ ذلك الوقت أكثر من عشرة أعمال بما فيها الروايات والقصص والمجموعات القصصية والتي تم ترجمة الكثير منها إلي أكثر من 30 لغة. وتعد لودميلا أوليتسكايا المرأة الأولي في روسيا التي تنال جائزة البوكر الروسية عن روايتها "قضية كوكونسكي" والتي تم تحويلها أيضا إلي مسلسل. وما تزال الكاتبة تبدع إلي يومنا هذا. وفي عام 2007م قامت لودميلا أوليتسكايا بتأسيس صندوق يحمل اسمها يهدف إلي تقديم الدعم للمبادرات الإنسانية. وشهدت الفترة من 2007 -2010م تقديم دعم مكثف من الصندوق لإصدار عناوين محددة من كتب الأطفال التي تتناول تفسير الاختلافات الثقافية والاجتماعية والإثنية بين مختلف الأمم. ونال هذا المشروع دعما من معهد التسامح الديني واثنتين من كبريات دور النشر الروسية. وقد جمعت الكاتبة في إبداعاتها بين القيم الرفيعة للأدب الروسي الكلاسيكي مع عناصر وأدوات أدب ما بعد الحداثة. و يمثل أدب ما بعد الحداثة ظاهرة أدبية عالمية فريدة يمثل مجموعة من التصورات الفلسفية والجمالية التي تعكس أزمة الإيمان والقبول بكل القيم السابقة. وينطلق من اتجاه "الحداثة" ويركز اهتمامه علي تنوع وتعدد أوجه جمالياته. وهذا ما يبرر تسامحه في التعامل مع كل أشكال الأدب والفنون الأخري بشكل عام. ويخلق أدب ما بعد الحداثة مزيجا من جماليات الأدبين الجماهيري والنخبوي وبذا يتسم بازدواجية التوجه. وتتسم نصوص ما بعد الحداثة بكونها ممتعة لكل من المثقف الراقي والقارئ العادي. أما اتجاه ما بعد الحداثة الروسي فيجمع بين المذهب العقلي الغربي والروحانية الشرقية وهذا ما يميزه عن نظيره الغربي. وتحمل إبداعات أوليتسكايا مؤثرات أدب ما بعد الحداثة ممزوجة بالتقاليد الكلاسيكية في الأدب الروسي. وقد لعبت وظيفة الكاتبة الأولي دورا هاما حيث نراها تعشق التفاصيل الدقيقة وهو ما يجعل وصفها لطباع الأبطال وعالمهم الداخلي مميزا. وتجمع أوليتسكايا في إبداعاتها بين مختلف الأجناس الفنية حيث يخرج العمل الأدبي فريدا ومميزا. وربما المثال الواضح علي ذلك رواية "المترجم دانيال شتاين" والتي تعد نموذجا للتنوع الفني فهي رواية كولاج وكتاب سيرة ذاتية ووثائقي ولاهوتي. وتمس إبداعات أوليتسكايا مختلف الموضوعات. وأغلب هذه الموضوعات تحمل طابعاً أنطولوغياً. كما يغلب موضوع العائلة في كتبها وغالبا ما يرتبط بمشكلات الطفولة. وتؤكد الكاتبة في أعمالها علي أهمية العائلة في المجتمع وتظهر ما يعاني منه المجتمع من افتقاد التفاهم بين الناس وغياب الوحدة الروحية بين الأقارب. حيث لم تعد الأسرة تمثل قيمة عند أبطال أوليتسكايا. وهذا ما نلحظه جلياً في رواية "صونيتشكا" وفي الوقت نفسه تظهر أوليتسكايا وجهاً آخر محتملا للحياة عندما تصبح العائلة درعا وسندا للإنسان. ويمثل ذلك الموضوع الرئيسي لقصتها " الثاني من مارس من نفس العام". ويرتبط موضوع العائلة بموضوع الطفولة. ودائما ما يكون الحديث عن الطفولة مرتبطا بسرد بيوغرافيا الأبطال. وهنا تكشف الكاتبة العالم الداخلي لأبطالها ويساعدنا ذلك علي فهم سمات الشخصيات وأسباب سلوكياتهم. وتنظر أوليتسكايا للقضايا العائلية من وجهه نظر اجتماعية وكذا من منطلق تكوين الشخصية والعلاقات الإنسانية. وتدور احدث قصة "صونيتشكا" حول فتاة شابة غير جميلة حادة الطباع وليس لديها أصدقاء، تقضي معظم وقتها في قراءة الكتب. وتضع البطلة نفسها مكان بطلات الروايات التي تقرأها فتعاني معهن عذابات الحب والخيانة ومتعة النجاح. ثم تلتحق بالعمل بمكتبة الحي فتقضي وقتا أطول في القراءة هوايتها المفضلة الوحيدة. وتمر السنوات وتنتهي الحرب والفتاة تلتهم الكتاب تلو الآخر ولا تفكر في حياتها الخاصة. إلي أن حدثت الصدفة التي غيرت حياتها. حيث التقت صونيتشكا في المكتبة بفنان مغمور يدعي روبرت فيكتورفيتش. وكان يكبرها بسنوات كثيرة حتي أنها كانت تراه في الأيام الأولي من التعارف كأب لها. كان يبدو لها رجلا حكيما طيبا واعيا. وفي المقابل نظر إليها روبرت كامرأة تصلح له زوجة مخلصة وقادرة علي تأسيس عائلة. لم يكن يشعر تجاهها بأحاسيس الحب الجارف بل كان اقرب إلي الاحترام والمشاعر الطيبة. وتزوجا وسرعان ما أنجبا ابنتهما وكرست صونيتشكا حياتها لعائلتها بالكامل. وسرت الحياة هادئة حتي التقي الزوج بفتاه تدعي ياسا استطاعت أن تسلب الرجل الحكيم عقله حيث اغرم بها وهو العجوز وعاود الرسم من جديد بفضلها. وعندما علمت زوجته صونيتشكا بذلك لم تتألم كثيرا فقد كانت تعي أنها تشغل مساحه معينة في حياه روبرت وكذا ياسا تشغل مساحة أخري. وكان هذا الوضع يرضي الجميع. وأصبح الزوج يقضي وقتا أطول مع ياسا. وكبرت الابنة وانفصلت لتعيش بمفردها. أما صونيتشكا فعادت للقراءة مجددا بالتدريج. ويموت الزوج فجأة فتقوم صونيتشكا علي تنظيم أمور الدفن وتحيط ياسا بعنايتها ورعايتها وتنظم معرضا للوحات الزوج المتوفي. وتعود الحياة مرة أخري لتنتظم وتنقضي أيام المعاناة وتغرق صونيتشكا مرة أخري في القراءة وفي عالمها الأدبي. وتقضي أيامها بين الكتب التي تمنحها السعادة الكاملة. وهكذا تبدو الحياة الزوجية والعائلة كفترة مؤقتة ابتعدت فيها البطلة عن طريقها الأساسي في الحياة. أما الآن فلن تترك عالمها أبدا. وتعترف أوليتسكايا أن كتبها الأولي صدر في الخارج وليس في روسيا حيث صدر كتابها الأول "الأقارب الفقراء" في باريس حيث كانت الأوضاع السياسية في روسيا حينها تحول دون إصدار كتبها في الداخل الروسي. وكان ذلك من مسببات شهرتها الواسعة حيث تم إصدار كتبها في بلدان أوروبا كافة وترجمتها إلي لغات كثيرة. ومن أهم الجوائز التي حصلت عليها الكاتبة جائزة بريز ميديتشي الفرنسية في عام 1996م وجائزة البوكر الروسية عام 2001م، وجائزة "كتاب العام" في 2004م وجائزة سيمون ديبوفوار الفرنسية 2011م وغيرها. وهكذا يمكن القول إن أوليتسكايا كانت شاهداً علي العصر ومراقبا دقيقا للتحولات التي شهدها المجتمع الروسي في العقود الثلاثة الأخيرة. صدرت الطبعة العربية من "صونيتشكا" حديثا عن دار الكرمة بترجمة لعياد عيد.