عمدت الروائية "سهير المُصادفة" في كافة أعمالها الروائية السابقة إلي اختيار بطلة "أنثي"، وتناولت تيمات أنثوية الطابع، إلا أن الطرح الفلسفي في رواية "بياض ساخن"، الصادرة مؤخراً عن الدار المصرية اللبنانية، يُمثل إضافة أكثر عُمقًا إلي رواياتها السابقة. تحكي الراوية "عبلة/ لولا" قصتها - بالتبادل بين شقي ذاتها المُنفصمة- علي خلفية الاضطرابات السياسية التي أعقبت ثورة 25 يناير. ويتابع القارئ قصة سريعة الإيقاع؛ تهيم فيها "عبلة/لولا" علي وجهها في شوارع القاهرة وغيرها من المُدن، وهي تحاول فهم طيات التاريخ المصري المتنوعة ذ من الحقبة الفرعونية إلي القبطية، والإسلامية، والحديثة، والمُعاصرة - وكيف أثرت في تشكيل مصر التي نعرفها اليوم. تحتشد رواية "المُصادفة" بالمجازات، وتنجح المؤلفة إلي أبعد مدي في الإيحاء للقارئ، إذ يمكنه التعامل مع "عبلة/لولا" بوصفها رمزًا لمصر نفسها. وهناك عدة عوامل ترجح هذه الاحتمالية؛ من بينها الدم المُختلط للبطلة. تعمل "عبلة/لولا" مُترجمة، وتتحدث عدة لغات بطلاقة، وتنتمي إلي الشريحة العليا من الطبقة المتوسطة، ولها أسلاف من الأتراك، إلا أنها مرتبطة بالريف المصري علي نحو واضح، وهو ما يُعزز كونها استعارة مُحتملة لمصر؛ التي وقعت فريسة للاحتلال العثماني في حقبة مُتأخرة من تاريخها، ويُمثل الفلاحون ركيزتها الأساسية عبر التاريخ، بداية من العصر الفرعوني. وبالطبع تعاني "عبلة/لولا" من أكثر حالات الفصام بشأن رؤيتها السياسية إزاء الموقف الراهن: إنها علي وعي بمساوئ النظام القديم، ومع ذلك علي استعداد للتعايش مع نظام آخر بمثابة نسخة طبق الأصل منه. ويلعب العِرق والجنوسة دورًا محوريًا في الرواية، حيث تجاور المؤلفة بينهما حين تناقش "الجنون"؛ وهو ما يُساهم في إنتاج سرد يتغلغل بعمق في تحليل مُتعدد الجوانب. وتقدم لنا ذبطريقة عرضية- كيف تختلف أعراض الجنون من الرجل إلي المرأة، وهي فكرة تحولها المؤلفة إلي إشكالية عبر طرح التساؤلات حول ما يدفع المرء إلي الجنون. وبالمثل، تضع المؤلفة فكرة "الثقافة" تحت المجهر. ويلوح سؤال عما يُساهم في تشكيل "الإنسان المُثقف" في خلفية السرد. تنظر البطلة بإعجاب شديد لحكمة عمتها الأُمية، رغم ما يظهر من اطلاعها الواسع علي الحضارة الغربية. ورغم انتماء "عبلة/لولا" للنخبة الثقافية مابعد الحداثية، وانغماسها في الثقافة الغربية (الرفيعة)، إلا أنها تنتقد سياسات الحكومات الغربية: ذات النزعة الاستعمارية الجديدة؛ ومن ثم، أصبحت الإمبريالية الأمريكية موضوعًا لإحدي نوبات الغضب التي انتابتها. وتتبني "المُصادفة"، في روايتها "بياض ساخن"، موقفًا نسويًا يحتقر كافة ممارسات العنف ضد المرأة، سواء كان عُنفًا منزليًا أو تحرشًا في الأماكن العامة. وتحرص كذلك علي عدم لوم الضحية، وتلقي بالمسئولية علي عاتق المُجتمع الذي يغض الطرف عن مُحاسبة مُرتكب العُنف. وفي إحدي نوبات الغضب، تصب "عبلة/لولا" جام غضبها علي مُرتكبي العنف ضد المرأة، وتوجه إليهم سيلًا من السُباب علي لسان البطلة التي تعاني حصارًا مُحكمًا. تمكنت "المصادفة" من توظيف النثر ذي الطبيعة الشعرية ببراعة في تصور ذهن ذوجسد- المريض النفسي. فرغم أن محور الرواية هو وصف الحالة الذهنية للبطلة المُصابة بالفصام، إلا أن الجسد لعب دورًا محوريًا. تولي المؤلفة اهتمامًا بالغًا بوصف الأجساد: ملامح الوجه، والأظافر، والشعر، وأوضاع الجسد، ونظافته، إلخ. إننا بصدد مشروع طموح، تمكنت فيه "المُصادفة" من تناول الكثير من الأفكار في رواية طويلة نسبيًا، إلا أن الإيقاع السريع للسرد جعل من قراءتها تجربة مُمتعة للغاية. عائشة خليل ناصر؛ حاصلة علي درجة الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط من جامعة إكستر، وحصلت مؤخرًا علي درجة الماجستير في النساء، الجنس، والدراسات الجنسية من جامعة ولاية أوريغون. وتهتم في أبحاثها بالدراسات الثقافية والمرأة في الشرق الأوسط.