في زيارتي الأخيرة لبيروت للمشاركة في ندوة »بيروت في الرواية ... الرواية في بيروت« التي نظمتها الجامعة اللبنانية، وهي من الندوات المهمة التي حضرتها في السنوات الأخيرة، وقد حظيت وعن حق باهتمام كبير علي جميع المستويات من حيث تنوع الجمهور، وعمق النقاش، وسعة التغطية الإعلامية، أسعدني الحظ بمشاهدة أحدث أعمال الكاتبة اللبنانية المرموقة هدي بركات. وهو عمل مسرحي بعنوان «تحيا النجمة Viva la Diva»، وإن كان العمل يحمل العنوان الفرنسي المسجوع، فنحن في بيروت، التي تشكل فيها الهوية اللغوية تجليا من تجليات إشكاليات الهوية اللبنانية الأعم، كما أن المسرحية في مستوي من مستويات المعني فيها هي مسرحية بحث لبنان عن هويته الثقافية قبل هويته الوطنية. ولكني آثرت أن أترجم العنوان إلي معادلة العربي تخليصا للغة العربية من العجمة التي تهب عليها من حدب وصوب. لأن الديفا في العنوان هي الممثلة المسرحية الكبيرة التي تحظي بقدر من الاعتراف والمصداقية، ومقدار كبير من النجومية. وقد عرض العمل علي مسرح بابل في الحمرا ببيروت، وقدمته فرقة لاباراكا، وأخرجه نبيل الأظن، ومثلته الفنانة رندة الأسمر. وهو عمل من نوع المنولوج الدرامي، أو مسرحية الممثل الواحد، أو في هذه الحالة الممثلة الواحدة. وتقدم لنا المسرحية منولوج نجمة مسرحية لبنانية كان لها علي المسرح ماض مزدهر عريق، ثم خبت. تستدعي ذكرياتها عن المسرح وعما جري له وللبنان، وتقيم حوارا دراميا دالا مع قرينتها المسرحية التي تتمثل في صورتها الشخصية الكبيرة المؤطرة والمعلقة وراءها والتي تشغل حيزا كبيرا ومتميزا في الفضاء المسرحي. ولكي يكتسب هذا الحوار وقعا مسرحيا يوسع من أفق دلالاته، ولا يبدو وكأنه نوع من حوار الطرشان أو كأن الممثلة تجدث نفسها عمد العمل إلي تحريك الصورة نسبيا في نوع من تشكلات الوجه وتشوهاته التي تذكرنا بأعمال الرسام الانجليزي الكبير فرانسيس بيكون المولع بتقلصات الوجوه وتشوهاتها. بصورة ترهف من درامية الحوار، وتضفي علي استعادة الماضي مسحة كابوسية. وتوشك المسرحية أن تنقسم إلي قسمين، وإن كانت تدور كلها دفعة واحدة، أي تقدم عصارتها دفعة واحدة للمشاهد دون أي فواصل أو استراحات. يعتمد أولهما علي استدعاء ذكريات الممثلة في نوع من النوستالجيا الشفيفة أو الحنين الرقراق المبطن للماضي العريق، الذي يضفي عليه استحالة استعادته وإمعانه في البعد ألقا غامضا وغير حقيقي، حينما كانت تقوم بتمثيل الأدوار المسرحية الكبري من أنتيجون وكورديليا والليدي ماكبث حتي (ذباب) سارتر، مرورا بالعديد من الأدوار الكبيرة التي مثلتها في الماضي حينما كان لبيروت مسرح كبير، وعالم ثقافي مستقر. في هذا القسم الأول اعتمد العرض المسرحي علي الحوار بين ذاكرة الممثلة واستدعاءاتها، والذاكرة بطبعها خؤون، وبين تصحيحات الصورة الشخصية التي توشك أن تكون شاهدا مستقلا علي التاريخ استخدم فيه المخرج اللامع نبيل الأظن امتعاضات الصورة واشمئناطاتها للكشف عن مدي تشويه أي نوستالجيا للماضي بتجميله غير الحقيقي. وكشفت فيه الممثلة في بعض الأحيان عن براعة وحضور آسرين. أما القسم الثاني، والذي ينتقل بنا إلي زمن الانهيارات منذ الحرب الأهلية اللبنانية وحتي اليوم، فقد بدأ بالانهيار الرمزي للعالم القديم، حينما انهد الستار الذي كان يشكل خلفية المسرح والذي علقت عليه صورة الممثلة الشخصية، وانتقل بنا المشهد إلي خلفية المسرح التي تبدو ببلقعها وكأنها تجسيد للخراب، وإلي مجموعة من شاشات الفيديو التشويشية التي تجسد شيئا من التشوش لا فيما ترويه لنا البطلة فحسب، وإنما في كل ما يدور حولها وحولنا منذ ذلك الزمن الذي انهار فيه العالم القديم مع اندلاع الحرب الأهلية، ولم يقم بعد عشرين عاما علي انتهائها علي انقاضه عالم جديد بعد، تستطيع أن تحقق فيه البطلة/ ولبنان معها/ نفسها من جديد. فكل ما بقي لها بعد تمثيلها لكلاسيكيات المسرح العالمي في السابق، هو أن تقوم الآن بدبلجة مسلسل مكسيكي للاستهلاك العربي المحلي. وشتان بين الوضعين. من وراء هذين القسمين وعبر هذا النص المسرحي الجميل الذي كتبته هدي بركات تتخلق استعارات هذا العمل المسرحي الذي أغناه المخرج بلغته الحركية والبصرية الموفقة. حيث استطاع أن يوظف كل أدوات المسرح ولغاته الحركية واللونية والسمعية والبصرية، وأن يستخدم تقنية الشاشات المتعددة والفيديو والصور المتحركة ليغني عبرها النص دون الاستجابة لغواية التعديل فيه. وهي غواية سهلة وخاطئة معا. فالمخرج المسرحي الجيد يحترم النص، ويثريه بلغته التأويلية التي توسع أفق دلالاته وتساهم في تخليق مستويات متعددة من المعني تحت سطح أحداثه. لذلك استطاع إخراج نبيل الأظن أن يحيل تلك الممثلة إلي استعارة للبنان بأكمله، ماضيه المؤتلق وحاضره الكابي والمترع بالإشكاليات.