تنسيق 2025.. طريقة حصول طلاب الثانوية العامة على الرقم السري اللازم لتسجيل الرغبات بالصور    تجهيز 190 لجنة استعدادا لانتخابات مجلس الشيوخ في أسوان    بالتعاون بين وزارة التعليم العالي وسفارة اليابان.. انتهاء مقابلات المرشحين لمنحة «MEXT» الحكومية    تنسيق الجامعات.. البرنامج المكثف في التمريض بجامعة حلوان    ارتفاع كبير للطن.. سعر الحديد اليوم الأحد 27 يوليو 2025 أرض المصنع    كل ما تحتاجه الأسرة من منتجات غذائية ولحوم وخضار بسوق اليوم الواحد بالجمالية    وزيرة التخطيط تلتقي نظيرتها بجنوب أفريقيا خلال اجتماعات وزراء التنمية بمجموعة العشرين    توجيهات رئاسية مهمة للحكومة اليوم.. تعرف عليها    تموين سوهاج: توريد 184 ألف طن قمح للصوامع والشون منذ بدء الموسم    سوريا تحذر من «مخططات تستهدف النسيج الوطني» وتحمّل إسرائيل مسؤولية التصعيد    إجراء تصويت.. حزب معارض في البرلمان البريطاني يطلب الاعتراف بدولة فلسطين    الجيش السودانى معلقا على تشكيل حكومة موازية: سيبقى السودان موحدا    موعد مباراة إنجلترا وإسبانيا في نهائي كاس أمم أوروبا للسيدات والقناة الناقلة    الأهلي يوافق على رحيل «كوكا» إلى الدوري التركي بشرط (خاص)    إصابة 4 أشخاص في تصادم سيارة نقل أموال وربع نقل بالصحراوي بأسوان    وزير التعليم يعتمد جدول امتحانات الثانوية العامة 2025.. الدور الثاني    حالة الطقس في الكويت اليوم الأحد.. حرارة شديدة ورطوبة نسبية    حجز طرفي مشاجرة علي شقة سكينه في السلام    كاظم الساهر ناعيا زياد الرحباني: خسارة لا تعوض للفن العربى    وفاء الحكيم: نور الشريف وأحمد زكي شكّلا ملامح تجربتي الفنية    بعد اشتداد موجة الحر.. تحذيرات من هيئة الأرصاد للمواطنين    إطلاق حملة توعوية من «القومي للبحوث» للتعريف بالأمراض الوراثية وأهمية الكشف المبكر    بعد انتهاء معسكر تونس .. الأهلي يتجه إلى مطار قرطاج لبدء رحلة العودة للقاهرة    موعد حفل تامر عاشور في العلمين الجديدة و أسعار التذاكر    في ذكري وفاة رشدي أباظة .. دخوله التمثيل كان بسبب صداقته لأحمد رمزي وعمر الشريف    ضمن فعاليات " المهرجان الصيفي" لدار الأوبرا .. أحمد جمال ونسمة عبد العزيز غدا في حفل بإستاد الاسكندرية    الأحزاب فى اختبار الشعبية بالشارع    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: القطاع يحتاج إلى 600 شاحنة إغاثية يوميا    اليوم.. قرعة الدوري «الاستثنائي» بمشاركة 21 فريقا بنظام المجموعتين    وزير الثقافة: نقل الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر    استشهاد 10 فلسطينيين وإصابة آخرين جراء قصف خيام واستهداف منتظري المساعدات بغزة    العودة إلى الجذور.. البابا تواضروس يفتتح ملتقى لوجوس الخامس للشباب    ارتفاع جماعي لمؤشرات البورصة ببداية جلسة الأحد    شوبير: الزمالك يعلن عن 3 صفقات خلال ساعات.. وحسام عبد المجيد يغلق صفحة الرحيل    بورسعيد تودع "السمعة".. أشهر مشجع للنادى المصرى فى كأس مصر 1998    سويلم: إزالة 87 ألف تعد على النيل منذ 2015 ومواصلة مكافحة ورد النيل    مقتل 6 أشخاص جراء تدافع في معبد هندوسي شمالي الهند    زكى القاضى: مصر تقوم بدور غير تقليدى لدعم غزة وتتصدى لمحاولات التهجير والتشويش    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى بولاق الدكرور دون إصابات    إصابة 6 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الأوسطى    "الصحة": حملة 100 يوم صحة قدّمت 15.6 مليون خدمة طبية مجانية خلال 11 يوما    «الإفتاء» توضح الدعاء الذي يُقال عند الحر الشديد    إصابة 11 شخصا في حادثة طعن بولاية ميشيجان الأمريكية    القاهرة الإخبارية: المساعدات لغزة تحمل كميات كبيرة من المواد الغذائية والطحين    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية»| الأحد 27 يوليو    إيتمار بن غفير: لم تتم دعوتي للنقاش بشأن إدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة    حياة كريمة.. افتتاح جزئى لمستشفى دار السلام المركزى بسوهاج اليوم    القصة الكاملة لحادث انهيار منزل في أسيوط    بعد فتوى الحشيش.. سعاد صالح: أتعرض لحرب قذرة.. والشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة    «تجاوزك مرفوض.. دي شخصيات محترمة».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على مصطفى يونس    الثالث علمي بالثانوية الأزهرية: نجحت بدعوات أمي.. وطاعة الله سر التفوق    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    ما حكم شراء السيارة بالتقسيط عن طريق البنك؟    "سنلتقي مجددًًا".. وسام أبوعلي يوجه رسالة مفاجئة لجمهور الأهلي    سعيد شيمي يكشف أسرار صداقته مع محمد خان: "التفاهم بينا كان في منتهى السهولة    تأكيدا لما نشرته الشروق - النيابة العامة: سم مبيد حشري في أجساد أطفال دير مواس ووالدهم    خالد الجندي: من يُحلل الحشيش فقد غاب عنه الرشد العقلي والمخ الصحيح    الأمم المتحدة: العام الماضي وفاة 39 ألف طفل في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نداء إلي وزير الثقافة
أعيدوا الاعتبار إلي أديب كبير اسمه محمد الراوي
نشر في أخبار الأدب يوم 17 - 10 - 2015

بل أصبحت الآن عادات النسيان والتجاهل والاستبعاد والتهميش والتسخيف،عادات قائمة وفاعلة بقوة ،ليس للراحلين فقط ،بل لمن يعيشون بيننا ويقدمون نماذج إبداعية عالية القيمة، ورفيعة المستوي ،وكأنهم غير موجودين علي وجه الإطلاق ، ومنهم علي سبيل المثال مجيد طوبيا ومحمد حافظ رجب ومصطفي نصر الأديب السكندري الكبير ،وكذلك محمود عوض عبد العال وفؤاد حجازي وغيرهم ومع احترامي لمؤتمر أدباء مصر ،لكنني أعتب علي المسئولين عنه دوما ،لا يفكرون إلا في تكريس أسماء كبيرة وعظيمة ،وهي لا تحتاج إلي هذا التكريس أو التكريم علي الإطلاق ،وأخص بالذكر الصديق والمبدع الكبير صنع الله إبراهيم ،والكاتبة الراحلة رضوي عاشور ، ولكن لماذا لا نطلق اسم فؤاد حجازي أو مجيد طوبيا مثلا علي إحدي دورات ذلك المؤتمر ،ونحن في أشد الحاجة لذلك ،لأننا بالفعل نحتاج لتعريف شامل لهذه الأسماء ،بعيدا عن الأسماء التي لا ينقصها تعريف ،ولا تحتاج إلي شهرة ،وبوضوح تام ،فالمؤتمرون يحتاجون إلي لفت النظر لهم هم أساسا ،فيلجأون إلي هذه الأساليب المعيبةفي تصوري.
وعلي رأس هذه الأسماء الكاتب والقاص والروائي الكبير محمد الراوي ،الذي قدّم للحياة الأدبية المصرية والعربية ،إبداعات ذات شأن فني عظيم ،ورغم أنه اعتصم ويعيش طوال حياته في مدينة السويس ،إلا أنه استطاع أن يكسر الحواجز الإقليمية المفتعلة ،ويخترق تلك الأسوار الوهمية ،ليصل اسمه ،وتصل إبداعاته إلي القراء في مصر والعالم العربي ،ليتعرفوا علي تجربة إبداعية وسردية شديدة الثراء والخصوبة والجمال، فهو لم يكن يقف أمام تلك الحواجز ،ولم يصرخ يوما ما بأن أدباء الأقاليم مظلومون ومهمشون ومستبعدون ، رغم أن واقعا مريرا يواجه كثيرا من الأدباء البعيدين عن العاصمة ،إلا أنه يسعي دوما لكسر تلك الإقليمية المقيتة.
في كتابه المهم "بانوراما الحركة الأدبية في أقاليم مصر"،والصادر عام 1981 ،يكتب عن هذه القضية قائلا :"الحركة الأدبية في الأقاليم لم يعد من الممكن تجاوزها ،أو التقليل من شأنها ،أو الغض من تأثيرها ومدي حجمها ،وهذه التجمعات والندوات الأدبية ،علي اختلاف مستوياتها المنتشرة علي طول البلاد وعرضها ،تحاول منذ وقت غير قصير أن تؤكد هويتها وأصالتها أمام بعض العناصر التي تحتمي وراء وسائل النشر والإعلام الرسمية ،والتي يتاح لها من الفرص ما يجعلها تسيطر وتهيمن ".
وفي هذا الكتاب الذي يعتبر أحد المراجع الفريدة في التعرّف علي حركة الأدب في أقاليم مصر ،يستدعي الراوي كثيرا من الأدباء البارزين في أقاليم مصر ،ليكتبوا ويسجلوا تجاربهم الخاصة والعامة في أماكنهم ، ثم ليطرحوا مستوي ونوعية الحركة في تلك الأقاليم، وهكذا كتب الراحل قاسم مسعد عليوة ومحمد سعد بيومي من بورسعيد ،وكتب فؤاد حجازي من المنصورة ،وكتب سعيد بكر ومحمود عوض عبد العال من الاسكندرية، وكتب حسين علي محمد من الشرقية ،وهكذا حتي قدّم الراوي تصورا أوليا لمعرفة كيف يحاول كثير من الأدباء تجاوز تلك العزلة المفروضة وكسرها ،وكتب هو كذلك عن الحركة الأدبية في بلده السويس ،حيث أنه يعتبر القائد الأول في تلك المدينة الباسلة ،والتي عانت وقاومت وعاشت ظروفا حالكة بعد كارثة 1967،تلك الكارثة التي سجلها وأعاد إبداع تفاصيلها في كافة كتاباته ،فهو يكره الحروب عامة ،حتي لو جاءت تلك الحروب بالنصر ،ولكنها في الهزيمة أو الانتصار ،فهي تترك جرحي وقتلي ومشوهين وعاجزين ،وتشهد إبداعاته منذ مجموعته القصصية الأولي "الركض تحت الشمس"،حتي آخر إبداعته ،تصوير ذلك الجو الفجائعي والكارثي الذي حلّ بمدينته ،وبكل المدن التي عاشت تلك الحروب القذرة.
في ذلك الكتاب يشرح كيف استطاع الأدباء في الأقاليم أن يكسروا حاجز العزلة ،فاتخذوا من طباعة الماستر وسيلة ناجحة للحركة الأدبية ،رغم محدودية انتشارها ،وتحدث عن الشعار الشهير الذي رفعه محمود عوض عبد العال "ياجيل الماستر ..يا أدباء المائة نسخة" في مدينته الاسكندرية ،وحاول الراوي في ذلك الكتاب البانورامي فعلا ،أن يقدم إجابات مفتوحة للحوار حول :"ماهو الأدب الإقليمي ؟ومن هم أدباء الأقاليم ؟وهل هناك صفات معينة إذا وجدت في أديب ما ،أصبح من أدباء الأقاليم؟".
ويسترسل الراوي قائلا :"وفي الحقيقة أن قضية أدب الأقاليم اتخذت منحي مشوها ،والذي ساعد علي ذلك ،أدباء الأقاليم أنفسهم ،بالإضافة إلي استسلام قطاع واسع من النقاد والأساتذة لهذا المفهوم الخاطئ الذي روّجه أدباء الأقاليم ،فتحولت القضية إلي أزمة نشر وفرص متاحة في العاصمة ومنعدمة في الأقاليم".
ويحاول الراوي أن يقف أمام محدودية المصطلح ومفهومه الشائع ومدي مظلوميته المرفوعة دوما في وجه العاصمة ،ويقدم رؤية مغايرة تماما ،تتناسب مع مااتخذه من مواقف بعدم مغادرة إقليمه ،إذ أن الإبداع يتطلب التعبير عن الإنسان في كافة صوره الجغرافية ،"فإذا كنا نكتب عن الإنسان ، فهو موجود في كل مكان ،والطبيعة الانسانية لا تتغير ،إنما الذي يختلف هو التجربة الإنسانية من منظور معين ،وليكن هذا المنظور : الهيئة مضافا إليها الرؤية الفنية الخاصة ،بالإضافة إلي السلوكيات والأعراف الاجتماعية التي تختلف من بيئة إلي أخري "،وقبل أن نغادر تلك النقطة ،لا بد من الإشارة إلي كتابمهم آخر للقاص والكاتب الصحفي والروائي محمد جبريل ،عنوانه "قضية الثقافة في الأقاليم"،صدر في ديسمبر عام 1971 عن سلسلة كانت تصدر آنذاك تحت عنوان "اخترنا للفلاح"،وفي هذا الكتاب يطرح جبريل قضية أدباء الأقاليم مبكرا،وبشكل موسع ،ولاغني عن هذين الكتابين ،لمن يبحث في جذور تلك القضية الشائكة وتطوراتها.
صدرت المجموعة القصصية الأولي "الركض تحت الشمس" لمحمد الراوي عام 1973،وقدّم لها الكاتب والأديب الراحل ضياء الشرقاوي ، محاولا أن يطبّق وجهة نظر مثالية علي الكتابة الإبداعية عموما ،وعلي قصص محمد الراوي خاصة ،وهي تتعلق بأن الأدب عموما لا يصلح أن يكون بأي حال من الأحول مرجعا أو وثيقة اجتماعية أو سياسية ،فالأدب يعبّر عموما عن الانسان ،ولذلك فمدينة الراوي في قصصه ،آثر ألا يذكرها ،حتي لا تدلّ علي زمان معين ،أو مكان معين، ويستعين الشرقاوي بأفكار وآراء لأحد الكتّاب المثاليين ،وهو "جايتان بيكون"،والذي يكاد يصل بوجهة نظره إلي حدود نظرية "الفن للفن"، تحت مظلة اسمها "القيمة"، ويتذرع جايتان، وخلفه الشرقاوي ،بأن الفن لا بد أن يكون مستقلا عن كافة الظواهر الاجتماعية والسياسية والجغرافية.
ورغم تلك المقدمة المبهجة ،والحّادة في تصورها ،والتي فرضت إطارا معينا لقراءة المجموعة القصصية الأولي لمحمد الراوي ،إلا أن القارئ سيتساءل في كل قصة يقدمها الراوي في مجموعته، عن أي مدينة يتحدث الكاتب؟،وعن أي ظروف عصيبة يسرد الكاتب؟، وبالتأكيد سيدرك القارئ تلك المدينة ،وتلك الظروف ،رغم العمومية التي حاول الراوي أن يضفيها علي قصصه ،ففي قصته الرئيسية ، يتحدث الراوي ،عن حشد صغير من الناس ، لا يتجاوز عشرة أفراد ،كانوا يحملون تابوتا ،ويصورهم ذاهبين إلي إحدي المستشفيات، تحت لفح الشمس الحارقة ،يتحدث الراوي عن زوجة ترافقه في ذلك الحشد أو الموكب الجنائزي المحدود ،تلك الزوجة المفجوعة في زوجها المفقود في حرب قذرة ،إنهم يسيرون وقذائف النار المفاجئة ،وغير المنتظمة ،تطاردهم بأشكال عديدة ، حتي يصلوا إلي المستشفي ،وهناك يعمل علي تعويقهم حارس المستشفي عن الدخول للبحث عن ذلك الزوج المفقود ،وبعد إيماءات ما ،وتلويح بمكافأة غير مشروعة ،أي رشوة سيحصل عليها الحارس ،دخل السارد والبطل في الوقت نفسه دون الزوجة ،ليبحث عن صديقه ،وهنا يتاح الموقف ،ليسرد الراوي تلك المشاهد البشعة التي خلفّتها الحرب ،وتلك الجثث التي ترقد في أشكال بشعة في الثلاجات ،وروائح الفورمالين تكاد تخنقه ،إنه عالم كافكاوي بامتياز ،ويصف الراوي بحس فجائعي جاهز لديه ،وشبه مدرب من قبل علي التعامل مع ذلك الجو الكابوسي، وتتسلل من خلال سطور النص أوصاف لمدينة ساحلية ،وبها ميناء ،تعيش أجواء حرب قاتلة ،وحالة تهجير وتشتيت عالية ، ولم تفلت نصوص مجموعته الأولي من تلك الأجواء الفانتازية والفجائعية والكابوسية الحادة ،فيقدم عالما غريبا وجديدا ومدهشا تختلط فيه كل أشكال الحسيّة التي يعيشها الانسان في العصر الحديث ،وهناك حضور للموت الكارثي بشكل كبير ،ولا يخامرنا الشك بأن تلك الأجواء يقدمها محمد الراوي تبعا لهزيمة 1967 فقط ،بل في روايته "عبر الليل ..نحو النهار" ،والتي صدرت بعد حرب أكتوبر المجيدة، أي صدرت عام 1975، يصف الراوي مدينة كل مافيها فاجع ،إنها الحرب التي عملت علي تشويه الانسان في كل صوره ، فالانسان لم يخلق لكي يكون هكذا ،حاول الراوي في تلك الرواية أن يعمل علي تعميم المدينة ،وتعميم أبطالها ،وتركهم دون أسماء ،إلا أنه يعتبر أحد كتّاب الحرب بامتياز ،ورغم كل ذلك يتم تجاوز الراوي في كل مناسبة عن حرب أكتوبر، ويظل النقاد واقفين عند اسم أو اسمين قدما بضعة قصص قصيرة عن تلك الحرب ،رغم أن الراوي قدم في غالبية إبداعاته ذلك الانسان الذي يعاني من تلك الحروب البشعة.
وربما يتساءل القارئ الكريم : لماذا نحن نتذكر محمد الراوي الآن ؟ ، والإجابة ببساطة ،لأن محمد الراوي لا يتذكرنا ،ولن يتذكرنا ،فهو قد أصيب بمرض الزهايمر ،ولن يطالبنا إطلاقا بإعادة نشر أعماله الكاملة ،رغم أنها كانت قيد النشر منذ سنوات قريبة ،ربما قبل ثورة 25 يناير مباشرة ،وكانت الجهة التي سوف تصدر تلك الأعمال "المجلس الأعلي للثقافة" ،وكانت الكاتبة أمينة زيدلان ،ابنة مدينة السويس ، هي التي كانت تشرف علي ذلك الإصدار ،ولكن تسارعت الأحداث ،إذ ذهب الراوي نحو غابة النسيان العبثية ،وذهبنا نحن نحو أحداث وفعاليات أخري ،ولو لم ننقذ كتابات محمد الراوي الآن ،سوف تلاحقها وتطاردها آفة النسيان البغيضة، وهذا نداء موجه إلي الصديق حلمي النمنم ،وهو المسئول الأول حتي الآن عن القرار الثقافي في مصر ،وربما لو لم يسع لتفعيل قرار نشر أعمال محمد الراوي ، ربما لن نجد من يفعل ذلك من بعده.
لم يتوقف محمد الراوي طيلة مسيرته الإبداعية والثقافية عن إصدار القصص والروايات فبعد مجموعته "الركض تحت الشمس "، أصدر روايات "عبر الليل ،نحو النهار ،والرجل والموت ،والجد الأكبر منصور ،والزهرة الصخرية ،ثم روايته الفاتنة والبديعة "تلك القلزم، وأصدر مجموعة قصصية أخري هي "أشياء للحزن" ،قدمها الكاتب الراحل نعيم عطية ،ولكنه كذلككان يكتب المقالات ، ويجري الحوارات مع أبناء جيله ،ويكتب الدراسات النقدية ،وأصدر كتابا في غاية الأهمية عنوانه :"أدباء الجيل يتحدثون"،كما أصدر كتابا ممتعا ومفيدا للغاية عن رفيقه وزميله وأستاذه ضياء الشرقاوي ،عنوانه "المغامرة الإبداعية ..الرسائل الأدبية لضياء الشرقاوي"ودراسة نقدية في أدبه ،وفي تلك الدراسة ،يفصح الراوي عن موهبة نقدية عارمة ،ويقدم لنا عالما بانوراميا نقديا عن تجربة الشرقاوي الفريدة ،هذه التجربة التي لا يعرفها أدباء مصر الأحدث ،ولذلك فاستعادة ذلك الكتاب ،لا تعد استعادة الراوي نفسه ،ولا ضياء الشرقاوي أيضا ، بل استعادة ذلك الحراك الفني والأدبي والثقافي الذي كانت مصر تمر به علي مدي عقدين كاملين ،هما الستينيات والسبعينيات.
ففي ذلك الكتاب ينشر الراوي بالإضافة إلي الرسائل المتبادلة بينه وبين الشرقاوي ذلك البيان المشترك بينهما ،والذي كتباه ونشراه علي الناس عام 1976، وعبّر الراوي في مقدمة ذلك البيان ،بأنه كان المفترض أن يصدر ذلك البيان في أعقاب كارثة 1967، ولكنه أفصح بأن الجو في تلك الفترة ،لم يكن جو بيانات ولا غيره ، ولذلك تأخر ذلك البيان عن موعده عشر سنوات كاملة.
وفي هذا البيان يقدم الراوي والشرقاوي أفكارهما ،بشكل أولي فيما حدث ، وفيما يحدث ،كذلك تصورهما عن المرحلة المستقبلية القادمة ، والتي كانت تعتبر مقدمة للقرن الواحد والعشرين ،والذي كان يدق الأبواب آنذاك بقوة ،ولا يختلف الحديث الذي طرحاه الأديبان آنذاك ، عن مايطرحه الأدباء الآن ،وتكاد تكون الأفكار والمطالب والتشخيص والآمال شبه واحدة تماما ،فبعد أن يتحدثا عن الآلة السياسية التي تقود البلاد نحو الهاوية في ذلك الوقت ،رغم الانتصار الذي حققه نصر أكتوبر العظيم ،إلا أن قطاع الثقافة تقوده حفنة من العواجيز المرتعشين ،والذين يخشون أي تجديد ،وأي تقدم ،وأي مغامرات فنية ،وهم لا يتيحون الفرص للشباب فحسب ، بل يعملون علي مطارداتهم في أماكنهم ،وفي نشراتهم ، ويعبّر الكاتبان في بيانهما عن تلك الشيزوفرينيا ،التي يعاني منها هؤلاء الذين يقودون البلاد ،فهم يتحدثون عن الشباب وعن التقدم وعن الحرية وعن تحرر المرأة ،ولكنهم حين التطبيق ،لا شئ ، لاشئ علي الإطلاق ، بل حرب شعواء وشبه تكفيرية يشنها هؤلاء القادة علي الشباب وإبداعاتهم التي بدأت تتقدم وحدها ،دون عون رسمي من القيادة الزاعمة بأنها تعمل لصالح الشباب ، وهي في حقيقة الأمر لا تعمل إلا علي تعويق ذلك الشباب وتقدمه .
ويقدم البيان خطة شبه متكاملة للمستقبل ، مازالت تصلح حتي الآن للمناقشة ، فالكارثة واحدة ،ولكن مصر لم تتحرك منذ ذلك الوقت حتي الآن ، فالذين يجلسون علي المقاعد الوثيرة ،مازالوا هم الذين يهيمنون حتي الآن ، رغم الزعم بقيام ثورتين ،إننا بالفعل نحتاج استعادة كل ماكتبه أبناء ذلك الجيل المقاتل ،حتي نكتشف إلي أي مدي نحن نقف "محلك سر"، وربما نعود للخلف.
ودون الاستطراد في محاولة الحديث عن أهمية محمد الراوي ،ذلك الكاتب والأديب ، الذي لم نضبطه يوما واحدا ،يصرخ بإقليميته ، بل كان يعتز بها ،واعتصم بمدينته ، مقتنعا بتقديم تجربة مغايرة ، ولم تغره مكافآت العاصمة البراقة ، ومن هنا أنا لا أناشد وزير الثقافة والمسئولين باستعادة محمد الراوزي كاتبا ومبدعا فقط ، بل أطالبه برعايته في شيخوخته ، حتي نتأكد أننا نعيش في ذلك الحلم الذي كان يطرحه الراوي في بيانه ، وهو حلم "مدينة الفنون" ،والتي تضم الكتاب والأدباء والمبدعين ،وذلك الاتحاد الذي يهتم بهم ، ويقيهم من برودة وحدة وصقيع الشيخوخة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.