العصافير لا تعرف المحاكم بل تقف علي نوافذها تغرد وقد تتشاجر.. هل رأيت عصفورين يتشاجران ؟ إنهما يلتحمان.. ويتناقران.. يتنافران.. ويسقطان إلي الأرض ثم يطيران.. ويعاودان النقار حتي يفتر الغضب الذي يغلي تحت الجناحين ثم يفترقان ويطيران مع سائر الرفاق كما ولو لم يكن قد حدث شئ ما أبسط خلافاتهما.. وما أسرع الحلول هذه هي إحدي القصائد الرقيقة التي تضمنها كتاب أو ديوان' زمن البراءة' للدكتور نعيم عطية الصادر عام1992, وإن كانت هذه القصيدة سبق نشرها في مجلة المجلة عام.1970 ولد الدكتور نعيم عطية بأسوان في الثامن والعشرين من مارس عام1927 من أم يونانية ووالد مصري, وتخرج من كلية حقوق جامعة الإسكندرية عام1948, ثم حصل علي الدكتوراه في القانون من جامعة القاهرة عام1964 عن رسالته بعنوان' مساهمة في دراسة النظرية العامة للحريات الفردية' وعمل مستشارا بمجلس الدولة وتدرج في وظائفه حتي وصل إلي منصب نائب رئيس المجلس, وإلي جانب تخصصه القانوني فإنه أسهم في الحياة الثقافية رابطا بين الأدب والفن والقانون. ويتميز الدكتور نعيم عطية بتعدد جوانب نشاطه الثقافي, فهو إلي جانب مؤلفاته القانونية مولع بالفنون التشكيلية وله فيها دراسات سواء عن الذين أثروا حركة الفن التشكيلي في مصر أو علي النطاق العالمي, كما أنه له أعماله الإبداعية في مختلف القوالب الأدبية من قصة ورواية ومسرح وشعر منثور أو نثر غنائي, بالإضافة إلي دراساته الأدبية أو النقدية, وترجماته من الأدبين الإنجليزي والفرنسي. أما دراسته وترجماته المتعددة من الأدب اليوناني المعاصر إلي لغتنا العربية فلعله أبرز أديب مصري معاصر آل علي نفسه أن يقدم هذا الأدب إلي القارئ العربي قصة ورواية وشعرا بحيث منحه رئيس اليونان وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي تقديرا له عن هذه الجهود, وسلمه له سفير اليونان بالقاهرة في حفل أقيم بدار الأوبرا. وقد قدم الدكتور نعيم عطية للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتابا خلال رحلة أدبية طولها نصف قرن أي بمعدل كتاب كل عام. وقد نشر صديقه محمد الراوي كتابا عنه بعنوان' الحرية والعزلة' حوارات في أدب الدكتور نعيم عطية, دار النهضة العربية.1998 وتتأرجح كتابات الدكتور نعيم عطية الإبداعية بين الاتجاهين الواقعي والتجريدي, وتعتبر علاقة الرجل بالمرأة من أهم المحاور التي تدور حولها قصصه القصيرة ورواياته, كما أن تخصص المؤلف في القانون يلقي بظله علي كثير من قصصه, بل إن عمله بالقانون مصدر من مصادره القصصية. كذلك فإن كتابات الدكتور نعيم الإبداعية لم تضع يوما في حسابها مجاراة السوق الأدبية الرائجة, فهذا باب سهل مضمون لكنه موقوت, لكنه اختار الباب الضيق في الفن, باب التجريب, فروح الفنان أشعرته أن الشكل التقليدي يضيق عن استيعاب لحظتنا الحضارية بكل ما فيها من جنون ولا معقول, فرفض أن يضيف كما إلي الكم السابق عليه وعاهد نفسه علي أن يقدم إنتاجا أصيلا, أن يغامر, ولو كلفه ذلك أن ينشر كتبه علي حسابه كما فعل أكثر من مرة, بهذا أثبت أنه كاتب مغامر متنوع وأن قالبا أدبيا واحدا يضيق عن استيعاب تجربه حياته المصطخبه الثرية وشعاره' كل ما لا يميتني يحييني' فقد واجه في حياته ما كان كفيلا أن يقتل غيره, لكنه علي عكس ذلك استطاع بإرادته وموهبته أن يجعله مصدر إخصاب لحياته الأدبية. وليس أفضل من هذه الكلمات الصادقة التي يوجز فيها نعيم عطية رؤيته الشاملة لإبداعه حين يعلق قائلا إن أعماله الأدبية عرفت الأمل كما اتلمست فيما بعد مسارات أخري. عرفت الأمل المحبط والأمل الميئوس معا, الأمل العدمي واللاأمل, بل ومحاولة التحرر من الأمل ذاتهب. كلمة أخيرة عن نعيم عطية الأديب الإنسان, فقط عشنا معا في مرحلة من مراحل حياتنا لحظات ممتعة, خففت صداقتنا الحميمة ما كان يشوبها أحيانا من مرارة الحياة, وكما صاحبته لحظات في بعض أعماله الإبداعية, فقد أبي إلا أن يرد لي هذه الصداقة أضعافا مضاعفة, لا بدافع حسابي بل بدافع عفوي وجداني, فصاحبني خلال المراحل المبكرة في حياتي الأدبية, وكأنه يرتشف علي مهل مما أبدعه ليفرزه عسلا تذوقيا إبداعيا, كانت ثمرته كتابه' يوسف الشاروني وعالمه القصصي'.. وكان قد أصدر من قبل كتابه' يحيي حقي وعالمه القصصي' فقد كان يكتبه علي فترات متباعدة حتي أصبح نصا مفتوحا يضيف إليه كلما اكتمل لديه محور من محاوره, حتي لقد حدثني بعد طبع الكتاب أنه لاتزال تورق في وجدانه براعم فصول لم تنضج ثمراتها بعد,, وقد أثبت نعيم عطية أن إبداعه النقدي- وهذا الكتاب نموذج له- لا يقل نفاذ بصيرة عن إبداعه الأدبي, وأن الرفقة الوجدانية هي الوسيلة التي تتيح للنص اختراقه بما لا تتيحه أيه وسيلة أخري, فأعاد صياغة قصصي في بانوراما نقدية يسري فيها خيط شبه روائي, تكاملا واندمجا في ضفيرة واحدة تخاطب العقل كما تخاطب الوجدان.