قطعنا شوطا في ملف "قضايا الترجمة". في الأعداد السابقة قدمنا ما يشبه النظرة العامة علي أبرز المشاكل، عبر تحقيقات موسعة مع القائمين علي الجهات الرسمية المختصة في مصر، عرضنا أبرز المعوقات التي كان أهمها العشوائية وغياب التنسيق التي تجعل المؤسسات كالجزر المنعزلة. ونستكمل في هذا العدد وفي الأعداد القادمة حواراتنا مع المترجمين أحد الأضلاع الأساسية في عملية الترجمة، من أجل قراءة أكثر دقة، وأيضا كمحاولة للبحث عن حلول. هنا يتحدث المترجم أحمد صلاح الدين عن أزمة تولستوي، جوجول، تشيخوف، جوركي! وكيف وصلنا إنتاجهم ويتحدث أيضا عن محنة الترجمة من لغة وسيطة، ويؤكد أن الترجمة العكسية من اللغة العربية إلي اللغة الروسية شبه غائبة، باستثناء بعض المحاولات التي يقوم بها بعض الأفراد بمبادرة شخصية. درس اللغة الانجليزية في كلية الآداب جامعة عين شمس، لكن حلم دراسة اللغة الروسية ظل يراوده، فقد أحب الأدب الروسي كثيرا وتعلق بأسماء كتابه الكبار وأعمالهم، خاصة تالستوي، جوجول، تشيخوف، جوركي، تحقق حلمه في دراسة الأدب الروسي بعد انتهائه من دراسة الأدب الانجليزي بسنوات، حيث درس اللغة الروسية بجامعة رودين بموسكو، ثم أدب روسيا في النصف الثاني من القرن ال19، وشرع بعدها في دراسة الماجستير في الأدب المقارن ولكنه لم يكمله لأسباب عائلية، إنها باختصار رحلة المترجم أحمد صلاح الدين إلي الروسية. يعود صلاح إلي أصل الحكاية قائلا:"بدأت أمي تشعر بقلق بالغ عندما زادت أوقات انفرادي بنفسي، وصمتي، اقتربت مني ذات مرة، لم تكتف بالمرور العابر، وإنما جلست إلي جواري صامتة للحظات، لم توجه لي أية أسئلة، بل قالت: (بص يا حبيبي، أنا مش عارفة إيه بيدور جوه دماغك الصغيرة دي، بس عايزاك تعمل حاجة، لو في أي فكرة في دماغك، أو حاجة شاغلاك اكتبها، مذكرات، خواطر، يوميات، سميها علي كيفك، احكي مع حالك علي الورق)، أنهت كلامها ثم أعطتني كشكولا جمعته من بقايا الكراسات، أعدته في مطبعة قريبة من منزلنا، وكان هذا أول تحريض علي الكتابة". أما اهتمامه باللغة فقد كان له قصة أخري، وكانت كلمة السر والدته أيضا: "أرسلتني أمي بعد حادث الكشكول لشيخ؛ لأتعلم أصول القراءة والكتابة والنطق وحفظ القرآن، وهذا أيضا كان حدثا فاصلا في حياتي، لأن ما تعلمته علي يد هذا الشيخ منحني تأهيلا رائعا في القراءة والنطق السليم، وأسس قاعدة بنيت عليها فيما بعد معرفتي اللغوية ودراستي للغات أخري". من الأدب واللغة إلي الدراسة التي انطلق بعدها نحو سوق العمل، وكانت بدايته في مجال الترجمة أثناء سنوات الدراسة، حيث تعامل مع مكاتب الترجمة الصغيرة في وسط البلد، وأول مبلغ حصل عليه كان 50 جنيها نظير ترجمته 25 صفحة عام 1992، ومنذ هذا التاريخ وهو يعمل في مجال الترجمة، أي منذ 23 عاما: "ترجمت خلال الفترة من 1995 وحتي عام 2012 حوالي 2 مليون كلمة في كافة المجالات، لكن لسوء الحظ لم يكتب اسمي علي عمل خلال تلك الفترة، وهذا يرجع إلي عملي لحساب أشخاص آخرين، مثل مكاتب الترجمة، مراكز الأبحاث، المكاتب الاستشارية، والجميع لم يكن ليسمح بكتابة اسم شخص يعمل من الباطن، أما في الفترة من 2001 حتي عام 2012، فقد كان لدي مشروعي الخاص، أتعامل مع مناقصات للترجمة مع عملاء خارج مصر، كدور النشر الأجنبية، قنوات تليفزيونية، وكالات الأنباء، المنظمات الدولية، شركات الكمبيوتر، أو مع مكاتب استشارية مصرية تعمل لحساب شركات عالمية، وهذا لم يكن ليسمح لي بكتابة اسمي علي أي من الأعمال، وهو ما كان صعبا جدا بالنسبة لي، فقد نفذت في هذه الفترة ترجمات في كافة المجالات، ترجمت للأمم المتحدة، البنك الدولي، منظمة الصحة العالمية، منظمة التجارة العالمية، أمازون، مايكروسوفت، أبل، أوراكل، سيتي بنك، تشيز مانهاتن، سامسونج، سوني، كوداك، فوجي فيلم، وزارة الصحة الكويتية، طيران الإمارات، طيران البحرين، مرسيدس بنز، بينجوين راندم هاوس، يورك كلاسيكس، وزارة الثقافة البحرينية، هاربر كولينز، سيمون أند شوستر... وغيرها". لكن صلاح قرر في الأخير التخلي عن مشروعه هذا لظروف عديدة، منها رغبته في التعبير عن ذاته أكثر، وممارسة ما يحب... الكتابة والترجمة الأدبية: "أعمل حاليا علي أكثر من كتاب، منها ما سيصدر قريبا، ومنها ما سيصدر لاحقا في العام القادم، الكتاب الأول (ورثة تالستوي... علي جسر كوزنيتسكي)، وهو مؤلف يتناول الأدب الروسي الحديث والمعاصر، يحتوي علي عدد من الدراسات، المقالات النقدية والإبداعية، النماذج الإبداعية المترجمة، أما الكتاب الثاني (الحياة في مصر)، ترجمة لعمل المدون الروسي الشهير ديميتري كارياجين، يتحدث فيه عن رحلاته إلي مصر وانطباعاته عنها، وهو كتاب في منتهي الأهمية، وأرجو أن يترجم إلي لغات أخري ويقدم لزوار مصر من السائحين، إلي جانب كتابين آخرين في الأدب الروسي أيضا أوشكت علي الانتهاء منهما، أعمل عليهما منذ خمس وست سنوات علي الترتيب، سأعلن عن تفاصيلهما في الوقت المناسب، إضافة إلي ثلاث روايات جديدة من الأدب الروسي الحديث لكاتبين شابين من مشاهير المشهد الأدبي الروسي اليوم، سيضافون إلي المكتبة العربية في القريب". أما مسألة اختيار الكتب، فأحمد صلاح يعتمد فيها علي قراءته للعمل، فإذا أحب العمل صارت لديه رغبة في ترجمته للغة العربية، وهذا الحب ليس من قبيل المزاج الشخصي، إنما هناك معايير قائمة علي العلم والخبرة والذائقة، ثم يبدأ بعدها الحوار مع دار النشر أو الكاتب للحصول علي حقوق الترجمة، وعند نيل الموافقة يبدأ فورا في ترجمة الكتاب، ثم العمل بشكل مواز للاتفاق مع إحدي الجهات لنشر الكتاب، ويضيف: "للإنصاف ودون مجاملة، فإن دكتورة سهير المصادفة، التي أتشرف بالعمل معها كمدير لتحرير سلسلة الجوائز، من أكثر الشخصيات نشاطا في هذا المجال، فهي تتيح لجميع المترجمين فرصا متساوية للعمل في السلسلة، والعمل معها يسير بشكل مهني وفي منتهي السلاسة والاحترام، وكان هناك مشروع تعاون مع المركز القومي للترجمة لكنه توقف لأسباب لا أعلمها، أما دور النشر الخاصة، فأغلبها يتعامل مع المترجم وفق معايير ضيقة، والمقابل الذي تقدمه له ضعيف للغاية، بصرف النظر عن خبرته وقدراته، حتي إذا حصلت الدار علي تمويل جيد من إحدي الجهات". إذا؛ سواء كانت الجهة التي تتعامل مع المترجم تابعة للدولة أو خاصة، فهناك مشاكل عديدة يعاني منها مجال الترجمة، أولها حسبما يوضح هي عدم وجود إستراتيجية واضحة للدولة تتكاتف فيها كافة الأجهزة: "لا يكفي علي الإطلاق وجود مؤسسة أو مؤسسات مختصة بالترجمة شكلا، في حين يشير الواقع إلي غيابها موضوعا، هل غاب عن الدولة بالكامل إدراك أهمية المترجم ودوره الحضاري والتنويري؟ يجب أن يكون هناك معايير واضحة ومحددة، من أول اختيار العنوان وحتي صدور الكتاب من المطبعة إلي منافذ البيع، عدد النسخ، التوزيع، السعر، هناك العديد من العناوين التي تتكرر ترجمتها في أماكن عديدة، ناهيك عن القرصنة التي تقوم بها بعض دور النشر التي تعمل من وراء الستار، وهناك سؤال يطرح نفسه بقوة؛ ماذا تفعل أقسام اللغات بالجامعات المصرية؟، ولماذا تدني مستوي الخريجين ليصل إلي هذا الوضع الكارثي؟ من هو المترجم؟ وهل يتم قبول المترجم وفق قياسات حقيقية لقدراته، أم أن الأمر خاضع للعلاقات والأهواء والمصالح الشخصية؟ هل هناك برامج تدريبية متوافرة لرفع مستوي المترجمين أو تأهيلهم من الأساس؟، حيث إن هناك العديد من الأشخاص يعملون في المجال ولهم كتب في الأسواق ولا يفقهون شيئا لا في الترجمة ولا في اللغة، من أين أتي هؤلاء؟ كيف مروا؟ الأمر الاخر يتعلق بمقابل الترجمة، الذي يجب وضع معايير دقيقة لتحديده ، كما يجب أن يكون هناك بنود تعاقد معيارية يتفق عليها الجميع وتفرضها الجهة المسئولة علي الجميع، فلا يصح أن يتساوي المتخصص ذو الخبرة مع غيره، ولا يصح أن يحصل المترجم علي مقابل وفق مزاج صاحب الجهة الناشرة، كما أن هناك شيئاً آخر هو تأخير دفع المستحقات، خصوصا للمترجم المحترف الذي عليه أن يواصل حياته ويفي بالتزاماته في ظل ظروف عمل صعبة". إلي جانب ذلك، هناك عدد من الأخطاء التي ترتكب في عملية الترجمة نفسها، ولكن صلاح يري أنها طبيعية لأن معايير الجودة غائبة، مع استثناءات بسيطة، فقد وضع العالم معايير أيزو في الترجمة منذ زمن بعيد، ولذلك الأمر عائد بالأساس إلي غياب استراتيجية واضحة للدولة في هذا الصدد. ومن أبرز تلك الأخطاء أيضا هو الترجمة عن لغة وسيطة، فهي إحدي الوسائل التي يتم اللجوء إليها حال عدم توفر المترجم المتخصص في اللغة الأم المترجم منها، أي أنها ليست الخيار الأول أو الأوحد، لذا يجب التعامل معها في حدود ضيقة جدا، وفي هذه الحالة، هناك معايير معينة وخطوات نوعية هامة تدخل في عملية الترجمة والمراجعة وتأكيد الجودة: "لا يصح الاعتماد بشكل أساسي علي النص الوسيط، إنما يجب مراجعة النص المترجم مقابل النص الأصلي من خلال متخصص يعي ما يفعل، وإذا لم يتم التعامل مع هذا الأمر بمنتهي الوعي والمهنية، كان النص النهائي كارثة حقيقية، والحقيقة أن البعض يتعامل مع الترجمة من لغة وسيطة، ومنهم مترجمون للأسف، خاصة العاملين في اللغات الشائعة، علي أن الأمر فرصة للعمل والحصول علي المال والتواجد، علي حساب المهنية والقواعد العلمية، ولا تخضع الكثير من هذه الأعمال للمراجعة الدقيقة". ولأن الترجمة تجمع بين ثقافتين، فلابد أن تكون العلاقة تبادلية بين طرفين، وهو المفقود بالنسبة للتعامل مع تلك اللغة، فالترجمة العكسية من اللغة العربية إلي اللغة الروسية شبه غائبة، باستثناء بعض المحاولات التي يقوم بها بعض الأفراد بمبادرة شخصية: "لقد لعبت دار التقدم ودار رادوجا دورا بالغ الأهمية في نقل العديد من الأعمال العربية إلي اللغة الروسية، وقد قدمت قبل شهور تقريرا وافيا عن حركة الترجمة من اللغة العربية إلي الروسية منذ القرن العاشر حتي يومنا هذا، وقد أظهر تراجع الترجمة في هذا الاتجاه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وحتي الان، باستثناء دار نشر وحيدة (مركز التعاون الإنساني) التي تعمل بتمويل ذاتي، بعيدا عن الجهات الرسمية التي تغط في نوم عميق". من الروايات التي ترجمت من خلال الدار في الأعوام العشرة الأخيرة رواية علاء الأسواني (عمارة يعقوبيان)، رواية (أن تكون عباس العبد) لأحمد العايدي، (أفراح القبة) لنجيب محفوظ، (الأمين والمأمون) لجورجي زيدان، (رحلات ابن فطومة) لنجيب محفوظ، (شيكاجو) لعلاء الأسواني، (قبول الآخر) لميلاد حنا، يقول مدير تحرير سلسلة الجوائز مشددا: "أنا أطمع في اهتمام الجهات التي تتولي أمور الترجمة في مصر بالترجمة من العربية للغات الأخري عموما، وهذا ليس ترفا بأية حال، للأمر أهمية قصوي في الوجود، حيث إن فهم الآخر لنا ولثقافتنا سيفتح مجالا أوسع للتعاون والتفهم، فلا يجب أن نستسلم للصور النمطية الشائعة عنا دون محاولة ولو بسيطة لتغييرها، لكن يجب مراعاة فكرة التقديم المتدرج، أي دراسة طريقة تفكير القارئ الأجنبي جيدا ثم ترجمة الأعمال التي ستجد قبولا لديه حتي تتكون عنده صورة ذهنية مختلفة، تسمح فيما بعد في إفساح المجال أمام أعمال أخري، وهنا أؤكد مرة أخري علي أهمية وجود متخصصين علي وعي بالسياقات الثقافية المتاحة لاستقبال الأعمال المترجمة حتي لا تذهب هذه المحاولات أدراج الرياح، والبعد عن المجاملات والأهواء في التعامل مع هذا الأمر البالغ الحساسية". في النهاية، يعود صلاح للأسماء التي يحبها من كتاب الأدب الروسي، وهم كثر، لكنه فضل ألا يكرر الأسماء القديمة التي يعرفها الجميع: "من منا لم ينبهر ويتأثر بعظماء الأدب الروسي، الأفضل من وجهة نظري أن نذكر الأسماء الجديدة التي تقدم أدبا رفيعا يستحق الاهتمام، منهم من تربطني به صداقة شخصية مثل دينيس جوتسكو وزاخا بريليبين، أما قائمة من أراهم رائعين وأتابع أعمالهم، فهم كثر أيضا مثل: فلاديمير ساروكين، فلاديمير شاروف، فيكتور بيليفين، زاخار بريليبين، دينيس جوتسكو، تاتيانا تولستايا، باريس أكونين، إدوارد ليمونوف".