لم أقرأ العملين السابقين لأحكم، لكن ما تستطيع أن تقوله بضمير مستريح هو أن هذه الرواية صعبة في قراءتها، وبحاجة للكثير من الصبر، خصوصا في قسمها الأول. ربما تكون هذه هي الفضيلة الأهم للجوائز الأدبية؛ أنها تمدك بالصبر اللازم للاستمرار في عمل ما رغم صعوبته. لكن، رغم الاستطراد وزحام الشخصيات والرغبة في طرح كل شيء عن كل شيء - أو بحسب التعبير الدقيق لكاي ميلر في الجارديان - "أن المدهش في هذه الرواية هو طموحها" فإن ما تحقق ليس هينا بالمرة؛ إن الرواية قدمت ملخصاً وافياً وقاسياً لجامايكا - وحققت توازناً مثيراً للإعجاب بكتابة رواية سيرة لا تتورط في الفضائحية، ولا تنزلق للتقرير أو عرض السيرة بطريقة مدرسية. إنّ ظلّ بوب مارلي كان يطوف بنا طوال القراءة دون أن يظهر بشكل واضح، وهو شيء مدهش تماما. تقرأ ما يقوله بام بام، أحد أفراد المافيا المكلفين باغتيال مارلي "إن المغني يظن أنه، لكونه جاء من حيث جئنا، يمكنه فهم كيف نحيا. لكنه لا يفهم أي حاجة. كل واحد بيسافر يرجع ويفكر بنفس الطريقة" فتدرك الطريقة التي فكر بها بها جيمس وهو يعمل. كما تلتقي بواحدة من أجل شخصيات الرواية، هي نينا بورخيس، التي تقدم لمارلي بعض المشروبات في الفندق فيدور بينهما حديث ويدعوها للجلوس وهو يعزف، تقتنع وتقنعنا معها أن أغنيته الشهيرة هي عنها، تقول "يتردد صدي صوت البيز البعيد عبر الشارع، بدا وكأنه يلعب نفس الأغنية طول اليوم. بدت وكأنها أغنية أخري كتبت عني، لكن هناك ما لا يقل عن دزينتين من النساء في جامايكا الآن، وألفين آخرين في أنحاء العالم يفكرن في الفكرة نفسها عندما تنبعث أغنية من أغانيه من الراديو. لكن Midnight Ravers عني، ويوما ما سأخبر صاحبتي كيمي، وستعرف - أظن يعني - أن كونها الأجمل لا يعني أنها حصلت علي كل شيء" وأعود أطارد "جوجل" بحثا عن حقيقة وجود نينا بورخيس تاريخياً، تلك الشخصية العذبة، ولا شيء سوي ابتسامة الروائي الساخرة. هناك الشخصية الدالّة ألكس بيرس، الصحفي الأمريكي، الذي يفترض أن يكتب مقالة لمجلة فنية عن مارلي، فيتصادف وجوده عند محاولة اغتيال، ويبدأ الفصل الخاص به باستطراد عن الموسيقي وفهم العالم الثالث، ثم في المنتصف يعلق ساخراً مما كتب، رغم أنه كان يبدو مقنعاً ومتماسكاً ويهدمه تماماً "اللعنة. كأنني أكتب لعجائز يتناولن الإفطار في مقهي في الجادّة الخامسة بنيويورك" ثم يختتم بتعليق أظنه ينتمي لمارلون جيمس نفسه أكثر من أي شيء "في لحظة ما، يتحتم عليك أن تترك حكايتك تتمدد. أحيانا ما يكون مدي الحكاية أهم من بؤرتها" وهذا هو بالضبط ما فعله في روايته. يتقمص (هرمس) في ديوانه (كلاشنكوفي الحبيب) الصادر عن دار (شرقيات) روح شبح خلقه التجرد من المفاهيم .. يتحرك هذا الشبح فيما يشبه التناثر بين ذاكرة المفاهيم المنزوعة، وبين الحالة الشبحية المواجهة المنطوية علي استشرافات بداهة والتي تحوّل إليها العالم مع تفحص تلك الروح للمرئيات المتشابكة .. بدت هذه المشاهد المرصودة كاحتمالات طائشة .. مبتورة .. تحاول أن تستجيب لرمزيتها لكنها تدرك أنها لا يجب أن تفعل .. هي تخبو بمجرد ظهورها .. مبكراً ، وربما مبكراً جداً ولكنها حتمية التلاحق الفوري للحضور والغياب التي لا تليق بشبح وحسب، وإنما التي تناسب أيضاً محاولات تأويل الكينونة فيما بعد التخلص من المفاهيم. الذين تحولوا لقرود ارتاحوا من خطوة الحضارة والذين تحولوا لضباع ضحكوا كثيراً تحول كل منهم لحيوان كنا يائسين تمامًا من بشريتنا تحولوا وودعتهم وظللت هنا أسمع أخبارهم وأشيخ. إذا كان تحوّل البشر إلي حيوانات وهو خلق مجازي متجذر في الذاكرة ناجماً عن اليأس؛ فإنه سيكون دافعاً قوياً بالتأكيد للاستفهام عن الكائن الذي ودعهم وظل هنا بما يعني انفصاله عن هذا التحوّل .. ما هي الذات التي بقيت لتسمع أخبار الذين تحولوا إلي حيوانات وتشيخ، ولماذا؟ .. هل هو ذلك الكائن الذي لم يصل يأسه إلي (الموت) أي إلي مستوي القهر البالغ، اللازم للخروج من بشريته؟، أم أنه ذلك الذي تجاوز يأسه حتي إمكانية الرهان علي الخروج؟ .. ربما كانت المقامرة تتمركز حول ضرورة أخري تتمثل في تكوين سيرة ما لذلك التحوّل .. ذاكرة مضادة للحالة البشرية، توثّق الطبائع التي أنتجها الوجود ربما بعد الموت في حضورها الحيواني .. لكنها في جميع الأحوال سيرة قائمة علي السماع، أي أن تفاصيلها ستظل محكومة بالذاكرة التي تشيخ، أو ربما بشكل أدق تساهم تلك التفاصيل في بناء شيخوختها .. هي إذن احتمالات أكثر من كونها تفاصيل يجب أن تُنحت في بناء صلب .. هواجس تناسب الموتي الذين حلت أرواحهم في حيوانات، أو أولئك الذين تكفلت الذات التي ودعتهم وظلت هنا بتحويلهم وهم لازالوا علي قيد الحياة .. عناصر إيحائية تنسج مغامراتها في وعي الكائن الذي ربما لم يكن بشراً أصلاً حتي يتحول مثلهم، أو الذي لم تغادر بشريته نحو الموت ليشاركهم التحوّل .. قد يكون شبحاً يستند إلي عتمة ما بين الحياة والموت يستطيع أن يكون هكذا وهو لا يزال حاضراً في العالم بكامل واقعيته الإنسانية، وكذلك بينما يكون متوارياً كمصير غامض داخل الموت .. الشبح الذي يلعب بطقوس خفية، ويراقب دون حاجة لأن يري، ويسمع أخبار الظلام الذي قاده بمشيئة شبحية نحو صوغ الأجساد الميتة، أو التي مازالت حية لإعادة تمثيل الألم علي نحو ناصع. في شارع فؤاد المتصالب علي الجحيم أو شارع الجلاء أتناول الإفطار وأتحدث عن التخلي عن المفهمة التقليدية وأحوال الوعي. أمشي إلي مكتبة مارًا ببولاق أبو العلا، أتحاشي وأستقبل الأكتاف والعيون. ما سرق أرواح هؤلاء، هو بالتأكيد ما أغلق نادي أنس الوجود هو ما سرق البلح من الوكالة هو ما يدورني كالدمية بين السقاة. يضع (هرمس) هنا ألوان اليومي في تضاداتها (التخلي عن المفهمة التقليدية) مقابل (تحاشي واستقبال الأكتاف والعيون) .. (أحوال الوعي) في مقابل (سرقة الأرواح) .. لكنه ليس تنافراً خالصاً بل يمكن القول أنه تجسيد لتناغم مختلف .. نوع من تنظيم الصراع بين الاستبعاد غير المنقذ للأطر، والخضوع الحتمي لمطاردات الشوارع التي قررتها النمطية .. ترتيب خاص بين الانسجام مع التجليات الجمالية الناشئة عن تحرير الذهن من المصائد، والفقد كهيمنة قدرية ترتجل شروطها .. إن هذا التناغم لا ينطوي علي براءة كتلك التي تبدو ظاهرياً، بل يمكن الشعور بفكرة التنازل عن إمكانية العثور علي ماوراء (التخلي عن المفهمة التقليدية) لصالح الوحشة مهما كان الإحساس بها كفائض قاصر ومبتذل يعادل (الغربة) مثلاً باعتبارها فضاءً عاماً .. يمكن ملامسة طيف لتهكم مستتر، يستبعد الثقة في الأغراض الممكنة ل (أحوال الوعي) أمام الإيمان بإبادة طاغية، تتولي أسرارها الحفاظ علي بقاء الحواس منتمية إلي (دمية تدور بين السقاة). لو أن رجلاً حوي في قلبه جحيمًا كاملة ألن يبيع الكون كله لو سنحت له الفرصة؟ يقول. ثم يتحسس مسدسه ناظراً في عيون من حوله يراه الجميع لآخر مرة في أمكنة عديدة تُروي عنه أساطير: سَبَح له السمك في الهواء. كان يخرج من النهر والماء يغلي علي جسده الأحمر. قتل رجلاً بنظرة. لكنهم لن يقولوا أبدًا أن أمرًا ما كان يأكله عميقا أنه فقد شيئًا عزيزا. أنه ساقط كالآخرين. أنه احتضر ببطءٍ وحيدًا فوق سطح إحدي بنايات وسط المدينة. هناك قابلية لاستدعاء علاقة التوتر بين التعارضات عند (دريدا)، والتي تضمنتها نظريته عن (المكمّل) باعتباره نصاً أو عنصراً يضاف إلي آخر أو يعتبر ثانوياً بالنسبة له، ويعتبر الآخر بنية أو نظاماً نصياً أكثر اكتمالاً .. في (نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر) ل (ديفيد بشبندر) ترجمة: (عبد المقصود عبد الكريم) سيتم تلخيص الأمر علي هذا النحو: (إذا كانت الإضافة إلي البنية ممكنة فلا يمكن أن تكون البنية كاملة، وإذا كانت إضافة المكمّل ممكنة فلا يمكن أن يكون المكمّل ثانوياً تماماً) .. عند (هرمس) وتحديداً في المقطع السابق سنجد مكمّلاً محجوباً لما يبدو أنه تحديد أساسي وهو الأسطورة .. هذا المكمّل هو ما يقترحه النص كحقيقة مقموعة تعارض الإعجاز المعلن .. ما لا يعد ثانوياً إذن هو ذلك الذي يأكل في العمق، فقد العزيز، السقوط، الاحتضار البطيء داخل الوحدة .. لا تنبعث الأسطورة من أوهام متخيلة، توحدها الرغبة الجماعية في امتلاك يقين زائف عن ذات خارقة، بل يروق لي تشريحها كقراءة مسالمة لرغبة مؤجلة في التدمير، تعطي الذات إشارات وجودها طوال الوقت .. إن الأساطير قد تكون تأويلاً هزلياً للجحيم الذي في القلب .. فهماً فكاهياً لبيع الكون .. قد تكون تفسيراً غيبياً سهلاً للمسدس الذي يتم تحسسه أثناء النظر في العيون .. ربما كان الجميع يعرف أن المعجزات المختلقة أكثر قدرة علي استحضار الطمأنينة من ذلك الظلام الذي يمنع من التعرف علي النية المرجأة في القتل، والتي يختزنها الكائن المحتضر .. لكن الرغبة المؤجلة في التدمير الذي يُمارس شعرياً بصورة تعويضية قد تكون مكمّلاً محتجزاً لمتن غائب ينتظر التخلص من الأسطورة حتي يمكن للذات أن تحضر بما كانت متجردة منه في أبصار الآخرين .. الانتظار يبدو شاقاً إذن، وهذا لا يفسر تحوّل الذات إلي شبح يستطيع الرماية والفتك باللغة في قصائد الديوان وحسب، بل ربما أيضاً يقودنا للحصول علي المنطق الذي شيّد وصف (الكلاشنكوف) ب (الحبيب).