وسط الزحام المنظم كان كل شي يمضي بهدوء. وصلنا معهد العالم العربي في الثالثة عصرا وصعدنا إلي أعلي طوابقه، وفي الثالثة والنصف وصل الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند. انتظرنا بالأعلي حتي يستكمل جولته بأنحاء معرض "أوزوريس.. أسرار مصر الغارقة". كنا قد مررنا بالتجربة نفسها صباحا، تأملنا القطع الفريدة التي يضمها، منها ما هو بالغ الضخامة مما جعل بعض الرفاق يتساءلون عن كيفية نقلها ، كانت القطع قد بدأت رحلة بحرية ثم برية استغرقت أسابيع. أسلوب العرض المدهش جعلني أتساءل مع زملائي : لماذا لا نستورد القدرة علي الإبهار لتصبح عنصرجذب في متاحفنا ؟ توقفت امام ذلك التمثال البديع لامرأة فاتنة ترتدي غلالة شفافة تظهر مفاتنها. لم تفقد جاذبيتها رغم أنها فقدت رأسها في رحلتها الممتدة عبر الزمن! تنتابني الحيرة بين انبهار بسيناريو العرض ، وبين رفضي المزمن لفكرة المعارض الخارجية خوفا علي أي خطر ولو بسيطا يمكن أن يهدد قطعة ولو صغيرة من آثارنا. علي مدي اليوم حاصرتني الحيرة، ولم يخلصني منها مؤقتا إلا الإعلان عن دخول الرئيس الفرنسي ومرافقيه، وبدء مراسم الافتتاح . أي فصل بين الحاضر والماضي سيكون تعسفيا ، كلمات الافتتاح كلها أكدت ذلك، بدءا من كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي التي ألقاها سامح شكري وزير الخارجية، حيث شدد علي أن منطقة الشرق الأوسط تشهد تحديات مختلفة، من بينها تحدي الحفاظ علي التراث الثقافي والحضاري من التدمير المتعمد الذي ترتكبه الجماعات الإرهابية، كذلك الاتجار بها، وأعرب السيسي عن تقديره لمبادرة الرئيس الفرنسي الذي كلف مدير متحف اللوفر ببلورة مشروع لحماية الآثار في مناطق النزاع المسلح ، وأعرب عن قناعته بأن التطرف والإرهاب لا يمكن أن ينتصرا في النهاية. وفي السياق نفسه مضت كلمة أولاند حيث أشار إلي أن المعرض ينقل رسائل عديدة ، منها رسالة أمل لما يمر به الشرق الأوسط من تحديات بدأت أوروبا تدرك حجمها مؤخرا. أما الرسالة الثانية فتتمثل في أن الماضي يجعلنا ننظر للمستقبل، خاصة أن من يحاولون هدم الماضي هم أنفسهم من يقتلون البشر. بينما تؤكد الرسالة الثالثة علي أهمية التعاون بين مصر وفرنسا في كافة المجالات، كما أن هناك حاجة للتكاتف من أجل حماية الشرق الأوسط من الإرهاب وما ينتج عنه من تخريب للتراث . وكان الدكتور ممدوح الدماطي وزير الآثار والمهندس خالد رامي وزير السياحة السابق قد شهدا افتتاح المعرض الذي بدأه جاك لانج مدير معهد العالم العربي بكلمة ركز فيها علي أسطورة أوزوريس التي تعتبر من الأساطير المؤسسة بالحضارة المصرية، وأشار إلي أنه بعد قتل أوزوريس علي يد أخيه ست أعاده الحب من الفناء، وأضاف أن هذه الأسطورة تمسنا في مرحلة نري فيها البربرية والعنف يتصدران المشهد في أكثر من مكان. وقال: "فليتمكن أوزوريس اليوم من الانتصار علي ست رمز الهمجية والتعصب". رحلة أوزوريس صباح الاثنين السابع من سبتمبر . كانت قاعة العرض الواسعة مستعدة بآثارنا. يشغل المعرض مساحة 1100 متر مربع مخصصة لمعرض نحو 250 قطعة. كثافة عدد القطع في الكيلو متر المربع قليلة جدا مقارنة بمثيلتها في المتاحف المصرية، لهذا كان سيناريو العرض مبهرا، أي مقارنة مع ارتفاع الكثافة الأثرية في متاحفنا المكتظة بالقطع تبدو ظالمة، تتضافر عوامل أخري لتزيد فاعلية عنصر الانبهار: النظافة، الإضاءة، التفاعل بين كل قطعة ومحيطها. كلها عناصر تجعل الزائر يشعر أنه دخل في إطار طقس قديم، إنه مسار الطواف الشهير لقارب أوزوريس من معبد آمون في هيراكليون إلي معبد كانوبس حيث انتقل أوزوريس إلي العالم الآخر ليسود فيه ملكا ، المدينتان ظلتا غارقتين في مياه المتوسط حتي اكتشفهما فرانك جوديو في رحلة بحث بالأعماق استغرقت عشر سنوات، وأسفرت عن: " كشف النقاب عن تحف رائعة ذات جماليات منقطعة النظير لها أهمية تاريخية لا مثيل لها، ومن بينها بقايا المعبدَين حيث مورست طقوس وشعائر الاحتفاء بأسرار اوزوريس. وتسمح هذه اللُقي الأثرية الفريدة من نوعها اليوم بإعادة إحياء أسطورة أوزوريس ، إحدي الأساطير المؤسِّسة للحضارة المصرية"، هكذا يؤكد كتالوج المعرض. من بين هذه التحف الرائعة ما يعرض الآن في باريس، وتستمر رحلته حتي نهاية يناير القادم قبل ان ينتقل المعرض إلي مدينتين أوروبيتين أخريين. لا تقتصر المقتنيات علي الآثار الغارقة فقط بل تمتد إلي قطع ذات علاقة بأسطورة أوزوريس ، من بينها : " أكثر من أربعين تحفة من مقتنيات كبريات المتاحف المصرية : المتحف المصري في القاهرة ومتحف الإسكندرية القومي والمتحف البحري في الإسكندرية والمتحف اليوناني الروماني في الإسكندرية ومتحف الآثار بمكتبة الإسكندرية"، هكذا كتب المنظمون مؤكدين أنها تزور باريس للمرة الأولي. رحلة أوزوريس في الخارج ارتفعت ثلاث قطع لعدة أمتار، في إطار واحد ضخم يتجاور تمثال ملك مجهول وآخر لإيزيس، تفصل بينهما لوحة حجرية، وفي الداخل يقف الإله حابي شامخا في استقبال الزائرين، تتنوع القطع بين ما هو شديد الضخامة، وما هو في رقة الحلي، وبينهما تتنوع الأحجام، يبدو العجل أبيس أكثر جمالا، وأوزوريس المنبعث من الموت أكثر رقة، وتماثيل سيرابيس الذي يجمع بين أوزوريس وأبيس أكثر وقارا، إنه أسلوب العرض من جديد. غير أن تمثال المرأة الذي فقد رأسه يظل الأكثر قدرة علي جذب انتباهي. ليس فقط لدقة تفاصيله الفاتنة بل لغموض صاحبته المختلف عليها. هناك من يري أنه لإيزيس، والبعض يعتقد أنه يخص كليوباترا بالإضافة إلي ترجيحات أخري عديدة، غير أن الدكتور ممدوح الدماطي يؤيد وجهة النظر التي تري أنه لإيزيس، بينما يتبني كتالوج المعرض وجهة نظر أخري وهي أنه لأرسينوي الثانية زوجة الملك بطليموس الثاني وكان شديد الولع بها وعندما ماتت أمر بجعلها إلهة. استكمال الحديث عن مقتنيات المعرض يحتاج إلي كتاب لا مجرد موضوع صحفي ، ويكفي أن نشير إلي أن الكتالوج الخاص به صدر في 250 صفحة لندرك أن الإلمام بكل التفاصيل هنا مستحيل . رغم الإبداع المحيط بي إلا أن الهاجس نفسه لا يريد أن يتركني أعيش اللحظة! فلاش باك علي مدي سنوات سابقة كنت قد حضرت وقائع استخراج بعض القطع المشاركة في المعرض من قاع خليج أبي قير، أذكر حديثا دار بيني وبين الراحل الدكتور جاب الله علي جاب الله الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلي للآثار، كانت هناك مخاوف من قدرة عدد منها علي مقاومة أخطار بيئتها الجديدة، بعد أن تأقلمت مع طبيعة المياه المحيطة بها لقرون طويلة. وها هي تعود إلي البحر لكن علي ظهر باخرة هذه المرة، أنتظر ان يعلو صوت عالم آثاركبير طالما كان مصدرا أساسيا في كل تحقيقاتي الرافضة للمعارض الخارجية، لكن رفضه هذه المرة سيفتقد بعض موضوعيته السابقة، علي الأقل بالنسبة لي. فعلي مدار سنوات مضت خرجت أمام عينيه معارض كثيرة دون أن يتكلم بعد أن أصبح جزءا فاعلا في منظومة العمل الأثري الرسمية. عندما تولي الدكتور زاهي حواس أمانة المجلس الأعلي للآثار تم الإعلان عن خروج معرض أثري إلي أمريكا وكندا، رحلته كانت طويلة، خمس سنوات سيقضيها في الغربة. اعتبرتها كارثة من وجهة نظري، وعندما التقيت العالم الكبيرفي حديقة المتحف المصري خلال مناسبة مسائية سألته عن أسباب صمته، فأجابني أن بروتوكول المعرض تم توقيعه في عهد الدكتور جاب الله، قلت له إن الأسماء لا تعنيني بل الآثار، وذكرته بمعارك خضناها ضد خروج معارض لفترات أقل إجاباته الباهتة كانت سببا في شعوري باللاجدوي، وربما تكون هي سبب تحولات عديدة حدثت في حياتي بعد ذلك. أرفض إصرار مسئولي الآثار من أمناء متعاقبين ثم وزراء علي أهمية المعارض الخارجية، وإن كنت أحترم دفاعهم عن قناعتهم، وأصر علي موقفي الرافض لخروج أية آثار مصرية لأن القانون يمنع خروج الفريد والمهدد بالتلف، وكل آثارنا فريدة من وجهة نظري، ومن وجهة نظر منظمي المعرض الحالي أيضا، كما أن التلف احتمال لا يمكن استبعاده والسوابق كثيرة ، بدليل أن محكمة القضاء الإداري سبق أن رفضت إقامة معرضين خارجيين بعد أن أثبت رافعو الدعوي ( ومن بينهم العالم الكبير ) أن هناك آثارا تلفت أثناء نقلها في رحلات الذهاب والعودة. وبين التأييد والرفض يبقي الواقفون علي الأعراف، هؤلاء الذين تباينت مواقفهم دون سبب منطقي سوي أنهم انتقلوا بين خانتين متناقضتين. أتذكر كل ذلك في مطار شارل ديجول، خلال انتظارنا في صالة السفر استعدادا للعودة تطالعنا شاشة التلفاز الكبيرة بخبر عن مشاكل طبيعية في اليابان استلزمت إنقاذ المواطنين باستخدام الطائرات . نضع أيدينا علي قلوبنا قلقا ، فهناك معرض أثري سيقام في اليابان بعد اسابيع ، يتجدد رفضي المزمن للمعارض الخارجية، وبالتأكيد لن يكون الرفض مجديا في وجه منطق مضاد يملك سلطة التنفيذ، خاصة في ظل هذه الظروف الحرجة التي أصبحت فيها وزارة الآثار تشبه "عزيز قوم ذل " وتضطر لاستدانة نحو 60 مليون جنيه شهريا لسداد مرتبات العاملين بها. كما أن المعارض تلقي دعما رسميا من كافة مؤسسات الدولة التي تري أنها تساعد في تنشيط السياحة بعد أن تراجعت بشكل حاد بعد الثورة. طابور الصفوة بعد الافتتاح نخرج إلي الشارع، يستقبلنا طابور طويل يمتد ويدور مع سور معهد العالم العربي، إنهم المدعوون لزيارة المعرض ، أشخاص من صفوة المجتمع الفرنسي، غير أنهم في مرتبة ثانية بعد من حضروا افتتاح أولاند ، النظام سيد الموقف، والهوس بالحضارة المصرية القديمة هو العامل المشترك بينهم، عرفت وقتها أسباب التوقعات المسيطرة بأن عدد زوار "اوزوريس" سيتجاوز النصف مليون، رغم أن مؤشرات اليومين الأولين كانت ضعيفة إلا أن المنظمين متفائلون، كانت الثقة تملؤهم بدليل أن سعر التذكرة 15 يورو، وهي نفس قيمة تذكرة زيارة متحف اللوفر بكل ما يحتويه من كنوز.