بدأت الكاميرا بنسخ العالم في تلك اللحظة التي أخذ فيها المشهد البشري ينحط بدرجة مذهلة نحو التغيير بينما عدد لا يحصي من أشكال الحياة البيولوجية والاجتماعية عرضة للتدمير في فترة وجيزة من الزمن فإن هناك وسيلة في متناول اليد لتسجيل ما يختفي سوزان سونتاج في عام 1985 حضرت إلي القاهرة المصورة آن باركر ولفت نظرها الجداريات في جنوب مصر المرسومة علي جدران البيوت اهتمت بالسؤال عن معناها وماترمي ألية و قررت في تلك اللحظة أن تعود للقاهرة مرة اخري مع زوجها إبفون نيل الباحث في الثقافة الشعبية ليقوما بتسجيل هذه الجداريات في منحة مقدمة من مؤسسة فورد ولمدة عشر سنوات جابت آلان باركر صعيد مصر والنوبة والاحياء الشعبية حتي جمعت 150 صورة لجداريات الحج وقدمتها في كتابها الهام والفريد رسوم الحج فن التعبير الشعبي عن الرحلة المقدسة والذي صدر من المركز القومي للترجمة عام 2010. كان هذا الكتاب قد أثار في نفسي عدة أسئلة لماذا لاتوجد رسوم للحج في المناطق الاكثر مدنية مثل الزمالك والمهندسين والمعادي ومصر الجديدة والكمبوندات الجديدة علي أطراف القاهرة ؟ لماذا يكاد يندثر هذا الفن الآن ؟ هل يمكن تسجيل ورصد لوحات جدارية جديدة في الاماكن التي لم تقوم آلان باركر بتوثيقها ؟ كان أول من وثق لرسوم الحج وأعجب بها المستشرق الانجليزي إدوارد لين، الذي اختلط بالمصريين في الفترة من 1835 إلي 1838 ويذكر في كتابه المصريون المحدثون، أنّ المصريين كانوا يقومون بتزيين بيوتهم برسومات الحجّ. فقبل عودة الحاجّ بثلاثة أيّام يقومون بتلوين الباب والحجارة باللونين الأبيض والأحمر بطريقة بدائية، وقد يوجّه الحاج كتابا مسبقاً إلي ذويه يطلب منهم إعداد هذه الترتيبات قبل مجيئه وقد سجلت آلان باركر في كتابها حوارات مع الفنانين الفطريين الذين يقومون بعمل هذه الرسومات وكيف يختلف الاسلوب الفني لكل منهم سواء في الصعيد أو النوبة أو الاحياء الشعبية ونلاحظ مثلا إن منطقة بهي الدين بسيوة وهي المنطقة التي يتواجد بها قبائل عربية عكس بقية المناطق التي يرتكز بها الأمازيغ أن أهالي بهي الدين يزينون بيوتهم بكتابات دينية صوفية مثلا كلمة (نحبكم في الله ) وهي كتابات تدون ويعاد كتابتها في أوقات الحج والمولد النبوي. أعتقد أن المناطق الراقية رغم وجود الحجاج بها بالتأكيد تنظر لهذا الفن علي أساس أنه شكل بدائي من الفن لا يصح أن يوجد علي جدران بيوتهم كما أن الحج هنا لا يمثل مصدرا للتفاخر والمكانة الاجتماعية كما في الريف والأماكن الشعبية إذ تكسب هذه الرحلة صاحبها مكانة أجتماعية أعلي في الاوساط الشعبية ويتربت عليها سلطات عرفية لصاحبها خاصة في الصعيد والنوبة خاصة في القرنين التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حيث يصبح مصدرا للحكم القبلي وجلسات الصلح بين القبائل وفي المشاكل الاسرية مثل النفقة والطلاق وحل المشاكل الزوجية إذ يكفي ما يصدره كبار القبيلة والحجاج في ذلك النوع من المشاكل . يكاد فن رسوم الحج يندثر الآن ففناني هذا المجال لم يحل محلهم فنانين جدد كما تم التعامل مع هذا الفن اكاديميا بشئ من التعالي فلم تتم دراسته بشكل منهجي وتحليل عناصره الزخرفة ونوع الالوان المستخدمة فيه وطرق الرسم وأداوته رغم وجود كلية للفنون الجميلة بالاقصر التي يوجد فيها العديد من الفنانيين الفطريين الذين يعملون بطرق تعتمد علي الحدس والاحساس ومراعاة البيئة وكان يمكن ان يتم تقديم يد العون لهم للعمل علي تطوير مهاراتهم بدراسات موسمية خارج الاطار الاكاديمي ونلاحظ ان جميع مصانع الالبستر تكون واجهاتها مزيجا من عصور مختلفة فرعونية وقبطية وإسلامية ولكن لم يتم توثيق تلك الواجهات بشكل علمي ونلاحظ أيضا أن العامل المادي قد لعب دورا في انصراف فناني الجرافيتي الشعبي عن العمل حيث لايتم التعامل معهم كفنانين ولكن كمجرد فني (نقاش) يقوم بعمله في واجهات البيوت ولم يتم توارث المهنة بشكل كبير ولعب نوع الخامات المستخدمة في البناء إيضا دورا في صعوبة الرسم علي الجدران لان الرسوم كانت تتم علي البيوت الطينية والمصنوعة من الطوب اللبن واعتبر ذلك البناء دليلا علي الفقر والعوز حيث اتجه البناء في الريف والصعيد والنوبة للتوسع في الخرسانة وعدم استخدام الجير في عمل الواجهات بل أصبح يتم بخامات أخري، ومن الغريب عدم وجود هذا الفن في أي دولة اخري في العالم الإسلامي سوي مصر, وبهذا يمكننا اعتبار فن رسوم الحج فنا مصريا خالصا. هناك من يرجع انتشار رسوم الحج للعصرين المملوكي والعثماني ولكن يمكن اعتبار هذا الفن امتدادا لرسوم الفراعنة داخل جدران حجرات الدفن والمعابد كما ان الرسوم القبطية خاصة الرسم علي جدران الكنائس التي تسمي بجداريات الفرسك والتي استخدموا فيها ألوان الأكاسيد الطبيعية المختلطة بزلال البيض وهذه الرسوم وطريقة إبداعها هو ما حفظ طرق الرسم الفرعونية التي انتقلت بعد ذلك لفن رسوم الحج ومن الافكار المتكررة في رسوم الحج هي رسم بيت الله الحرام في وسط الحائط بينما يكون علي الجوانب طريقة الانتقال سواء كانت جملا أو سفينة أو قطارا أو طائرة كما يكون الرسم عادة مصحوبا بكتابات من نوع حج مبرور وذنب مغفور وغالبا ما تكون هناك آية الحج ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَي كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) (الحج: 27) ونلاحظ أن التبرك بغمس الكفوف في دماء الأضحية وطبعها علي الحوائط ليست عادة مصرية فقط بل هي منتشرة في معظم البلاد الإسلامية، إذ تعبر عن طرد الارواح الشريرة في بعض الأوساط الشعبية، كما انها تمنع عين الحاسد كما يخضب البعض يد الأطفال لانها تمثل الطهارة وبالتالي فان أكفهم المطبوعة علي الحوائط تمثل قوة أكبر في طرد عين الحسود والصور المنشورة هنا أخذت في محافظتي الاقصر وأسوان وحي السيدة زينب ونتمني أن يتم توثيق ما تبقي من تلك الجداريات واستكمال العمل الذي بدأته آلان باركر وأفون نيل حتي تستكمل الذاكرة لبصرية لهذا الموضوع المهم.