اليوم موسم الحصاد.. تعرف على مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي والمدينة الصناعية    أسعار الذهب في الصاغة المصرية بداية اليوم الأربعاء 21 مايو 2025    سعر الريال السعودي أمام الجنيه اليوم الأربعاء 21 مايو 2025    إيهود أولمرت: ما تقوم به إسرائيل في غزة يقترب من جريمة حرب    موعد نهائي الدوري الأوروبي 2025 والقنوات الناقلة    أبو الدهب: الأهلي قادر على التقدم في المونديال بوجود زيزو وبن شرقي    طعنوه ب"مطواة".. تحقيق عاجل في مصرع صاحب مقهى بمشاجرة مع 3 أشخاص بكرداسة    مواعيد مباريات الدوري السعودي اليوم والقنوات الناقلة    غرفة عمليات رئيسية و5 فرعية لمتابعة امتحانات النقل الثانوي بالوادي الجديد    العملية استغرفت 5 ساعات.. استخراج مسمار اخترق رأس طفل في الفيوم- صور    بعد واشنطن.. الاتحاد الأوروبي يرفع العقوبات عن سوريا: آمال كبيرة تلوح في الأفق    جيش الاحتلال يعلن مقتل جندي وإصابة آخر في تفجير منزل بغزة    اليوم.. أولى جلسات طعن المخرج عمر زهران على حكم حبسه    رئيس الإذاعة يكشف تفاصيل وموعد انطلاق إذاعة "دراما FM"    موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى المبارك 2025    بتكلفة 175 مليار دولار.. ترامب يختار تصميما لدرع القبة الذهبية    لينك و موعد نتيجة الصف الأول الثانوي الأزهري الترم الثاني 2025 برقم الجلوس    هبوط كبير تجاوز 800 جنيه.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 21-5-2025    الخارجية الفلسطينية ترحب بالإجراءات البريطانية ضد ممارسات الاحتلال في الضفة وغزة    مصرع طفلتين غرقا في ترعة بسوهاج    ثلاثي الأهلي يجتاح قائمة الأفضل ب الدوري في تقييم «أبو الدهب».. ومدرب مفاجأة    مساعدات عاجلة واستئناف «هدنة غزة».. تفاصيل مكالمة وزير الخارجية الإماراتي ونظيره الإسرائيلي    المستشار محمود فوزي: قانون الإجراءات الجنائية اجتهاد وليس كتابا مقدسا.. لا شيء في العالم عليه إجماع    أسعار الفراخ اليوم الأربعاء 21-5-2025 بعد الهبوط الجديد.. وبورصة الدواجن الآن    أفضل وصفات طبيعية للتخلص من دهون البطن    آداب وأخلاق إسلامية تحكم العمل الصحفى والإعلامى (2)    «غزل المحلة» يعلن مفاوضات الأهلي مع نجم الفريق    ملحن آخر أغنيات السندريلا يفجّر مفاجأة عن زواج سعاد حسني وعبدالحليم حافظ سرا    محافظ الدقهلية يشهد حفل تجهيز 100 عروس وعريس (صور)    أسطورة ليفربول: مرموش يمكنه أن يصبح محمد صلاح جديد    طريقة عمل المكرونة بالصلصة، لغداء سريع وخفيف في الحر    ننشر أسماء المصابين في حادث تصادم سيارتين بطريق فايد بالإسماعيلية    ترامب يتهم مساعدي جو بايدن: سرقوا الرئاسة وعرضونا لخطر جسيم    رسميًا الآن.. رابط تحميل كراسة شروط حجز شقق الإسكان الاجتماعي الجديدة 2025    بعد شهر العسل.. أجواء حافلة بالمشاعر بين أحمد زاهر وابنته ليلى في العرض الخاص ل المشروع X"    رئيس الجامعة الفرنسية ل"مصراوي": نقدم منحا دراسية للطلاب المصريين تصل إلى 100% (حوار)    تفسير حلم الذهاب للعمرة مع شخص أعرفه    محافظ الغربية يُجري حركة تغييرات محدودة في قيادات المحليات    الخطيب: سعداء بالشراكة الجديدة والجماهير الداعم الأكبر للأهلي    شاب يقتل والده ويشعل النيران في جثته في بني سويف    حدث في منتصف الليل| الرئيس يتلقى اتصالا من رئيس الوزراء الباكستاني.. ومواجهة ساخنة بين مستريح السيارات وضحاياه    52 مليار دولار.. متحدث الحكومة: نسعى للاستفادة من الاستثمارات الصينية الضخمة    مجلس الصحفيين يجتمع اليوم لتشكيل اللجان وهيئة المكتب    تحول في الحياة المهنية والمالية.. حظ برج الدلو اليوم 21 مايو    لميس الحديدي عن أزمة بوسي شلبي وأبناء محمود عبدالعزيز: هناك من عايش الزيجة 20 سنة    اللجنة العربية الإسلامية: نرحب ببيان بريطانيا وفرنسا وكندا لوقف حرب غزة ورفع الحصار    ميكالي يكشف موقفه من تدريب الزمالك    إرهاق مزمن وجوع مستمر.. علامات مقاومة الأنسولين عند النساء    بمكونات سهلة وسريعة.. طريقة عمل الباستا فلورا للشيف نادية السيد    عضو مجلس يتقدم بطلب لتفعيل مكتب الاتصال الخدمي بنقابة الصحفيين (تفاصيل)    تفسير حلم أكل اللحم مع شخص أعرفه    نص محضر أبناء شريف الدجوي ضد بنات عمتهم منى بتهمة الاستيلاء على أموال الأسرة    «منصة موحدة وكوتا شبابية».. ندوة حزبية تبحث تمكين الشباب وسط تحديات إقليمية ملتهبة    نائبة تطالب بتوصيل الغاز الطبيعي لمنطقة «بحري البلد» بأسيوط    المدرسة الرسمية الدولية بكفر الشيخ تحتفل بتخريج الدفعة الرابعة    تعرف علي موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى المبارك 2025    هل يجوز الجمع بين الصلوات بسبب ظروف العمل؟.. أمين الفتوى يُجيب    رئيس جامعة أسيوط يتابع امتحانات الفصل الدراسي الثاني ويطمئن على الطلاب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فلتحيا الجزائر !
" ليالي الشعر العربي - ليلة مصر "
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 09 - 2015

لم أكن أنوي أو أتوقع أني سأكتب عن الجزائر . لطالما وصفناها في مصر ب " بلد المليون شهيد " وهي بلد المليون و32 ألف شهيد . صعبة الكتابة عن الحب وأنا وقعتُ في حبك يا جزائر من أين أبدأ ؟ كل البدايات تصل إلي نهايات وأنا أمقت النهايات والتغطية التقليدية . لم أكن أسجل أية معلومة أو كلمة رسمية أو عفوية . أهدرتُ فرصة تدوين الأساطير المحيطة بقسنطينة مقر " ليالي الشعر العربي " منذ أبريل الماضي ( 2015 ) و حتي أبريل المقبل (2016 )كما كان قد أعُلِن بمناسبة اختيار هذه المدينة المارسيلية الطابع والتصميم كعاصمة للثقافة العربية لعام 2015.
الأساطير التي أهدرتُ تدوينها وظل يسردها في سيارتنا الشاعر الجزائري الشاب الأمين بلحاج انتهزها الشاعر المصري جمال القصاص ليرتجل قصيدته عن المدينة التي حملت اسم مؤسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين . شارك من مصر الشعراء أحمد الشهاوي وجمال القصاص وعلي عطا و رضوي فرغلي وكاتبة هذه السطور لتمثيل بلدنا فيما أسموه علي كتيب الملتقي " ليلة مصر " كما جاء في الكتاب الإعلامي التعريفي بنا وبالشعراء الجزائريين المشاركين أن شعار التظاهرة الثقافية لمجمل الليالي الشعرية العربية هو " الشعر والتراب ".
يثير العنوان خيالي و مشاعري . نكتب ، نعمل ، نأكل ، نحارب ونحن مفعمون بما يعطل كل هذا . ترابيون يمصون ثدي الحياة الذي ينضب سريعًا . نخترع الفن بمعني ما لمقاومة هذه الترابية ، زائلون في ضيافة زائلين . المدينة تبدو خجلي منا ، تتواري لنكتشفها ، تريد منا ذلك الجهد ، ولا يمكن الاكتشاف بدون الناس أنفسهم ، متابعة سلوكهم ، كيفية معاملتهم للغريب خاصة معاملة من لا يحرصون علي تقديم الصورة المثلي عن بلدهم للآخر . قسنطينة تئوب إلي سر يخصها كل ليلة ما بين نخلِها وقراميدها، تبدو منتظرة لشيء ما ، للشتاء مثلا ؟ أم لمن يأتي مرة في العمر ليجد حكايته مسرودة في منحنيات الأزقة وخطوط الوجوه ؟ تبدو كعاصمة للثقافة العربية مختبئة حبيسة شوارعها الجبلية مثيرة للإقامة والكتابة بعيد المهرجانات وذهاب الزائرين شديدة الشبه بشوارع مارسيليا التي شاركتُ في فعالياتها من أعوام كعاصمة للثقافة الأوروبية .تقدم الأكواخ المتوحدة أعلي الربوات في الطريق بين الجزائر العاصمة و قسنطينة صورة مثالية للخيال ، عما يمكن أن يتحقق لو تم إقامة بيوت مشابهة بدائية ليمارس الفنانون والكتاب فنهم وكتابتهم طوال العام .
يفرض الحب قانونه فيسري الدفء من العروق للعروق ، كاسحا الأفكار النمطية وأية ذكريات وافتراضات ضمن سياق علاقات ناصعة لم يوجد ما يشوبها في وقت ما. قلت للشاعر الجزائري سليمان جوادي أثناء تصويري لبهاء قسنطينة المتجلية بزينة الفن والأنوار السائلة من شجر ميدانها العام وألوان الإضاءة المختلفة في نوافيرها الراقصة إن أهم ما يلفتني في أي بلد هو الناس رغم تقدييسي للطبيعة . الجزائر شديدة البهاء طبيعتها تحاورك ، تسليك ، تهددك في لحظة اكتئابك ، والأروع كما أكدت لجوادي هو الناس فلولاهم لتم ظلم بهائها الرباني . لا أتحدث عن السحب التي توجت رءوس الجبال والهضاب الخضراء التي تذكرنا بالهند واليونان ولا عن مرافقة شجر الزيتون لنا والذي ذكرني بمرتفعات جزر اليونان و تركيا فهنا بالجزائر مدن بقي بها النخيل و مواطنات محجبات لتذكيرنا بأننا في بلاد عربية ، وبقي من غطاء الوجه الجزائري التراثي في حي القصبة ( قصير جدا علي الوجه يسمح بدخول الهواء حيث ينتهي بلا ربط عند الذقن وهو مخرم من منتصفه شبيه بالدانتيلا ) ما يذكرنا بأننا - تحت الطوفان اللغوي الفرنسي - في بلد عربي وإسلامي .
استمعنا إلي الشاعر الجزائري الكبير خميس فلّوس ( اللقب يعني الكتكوت الصغير ) وهو وسليمان جوادي من أعظم الشخصيات تواضعا لكن لم نحظ بسماع أغلب الأصوات الشعرية من أجيال أخري في مدينة علمنا أن بها ما يقارب عشرين شاعرًا . تمنيت لو استمعنا لوزير الثقافة الشاعر عز الدين ميهوبي عقب كلمته المرحبة بالوفد المصري ، وهو قد جاء خصيصا إلي قسنطينة في رحلة شاقة ( أكثر من 450 كيلو مترا من الجزائر العاصمة ) للاستماع لشعرنا ثم كنا في ضيافته بقية الأمسية عند التلة أو الجبل حيث ما يطلقون عليه " نصب الأموات " فهناك أقيمت احتفالية " سيمفونية الجسور " للأوركسترا السيمفونية الوطنية أما النصب نفسه فمقام علي أعلي جبل بقسنطينة مدينة الجسور المُعلّقة التي حدستُ أن " مدن لا مرئية " للروائي الراحل إيطالو كالفينو لا بد جاءت بعد زيارة لها علي برنامج سياحته الشعرية الخاصة . ندخر المدن والناس بداخلنا خزانات ينبجس منها ماء الشعر بعد عقود حين يريد . كالفينو وصف في روايته المذكورة تلك الجسور المعلقة التي قد لا تكون استثناءً لقسنطينة لكن اختيار الأسماء المؤنثة القديمة لمدنه ، ما بين شرقية ( زبيدة ) وأوروبية أو إغريقية ( برنيس ) يحدثني أن كالفينو حين كتب عن الجسور المعلقة التي يرتاح عليها القمر في روايته كان يقصد قسنطينة .
الجسور كما سيقول الشاعر سليمان جوادي ونحن نقف علي أحدها نلتقط الصور كسياح هي المكان المفضل للانتحار . من هنا قفز الكاتب الجزائري صالح زيد إلي الوادي السحيق الذي يرعبنا النظر إليه. قال : "وجدوا أشلاءه اليوم التالي تحت ".
في ليلة مصر بمسرح قسنطينة الجهوي قدمنا الأديب والباحث الجامعي د. عبد السلام يخلف .. إنسان جميل آخر عميق التواضع يحمل كاميرته ومعه ابنه محمد الصادق يساعده في حملها والتصوير معا . حيا وزير الثقافة ضيوفه الذين هم نحن والجمهور وشعراء الجزائر وسفيري تونس والأردن وصديقه الشاعر أحمد الشهاوي الذي عرفه منذ ما يزيد علي ثلاثين عامًا وأشاد في كلمته بالمتنبي و بقسنطينة مدينة مالك حداد كما شكر عميقا وكثيرا الشاعر الجزائري بو زيد حرز الله المنظم للتظاهرة الثقافية واصفا ليالي الشعر بكونها " تكرست كبدر من علياء المدينة وأعطت لقسنطينة عاصمة الثقافة العربية زخمًا حقيقيًا علي الصعيد الوطني والعربي " و مشيرًا إلي قوة العلاقات المصرية الجزائرية منذ بدء المساندة المصرية لثورة التحرير الجزائرية وما تلاها من دراسة جزائريين بمصر وإيفاد معلمين للتدريس بالجزائر ومنوهًا للقامات الشعرية مثل أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي . الشاب يوسف في المطعم الإيطالي بفندق الأوراسي مقر إقامتنا والذي قال لنا بوزيد إنه " فندق العظماء " لكون جمال عبد الناصر و هواري بومدين قد نزلا فيه سيحكي لنا بضراعة أن زيارة مصر " أمنية " له ولما سألته لماذا قال بعرفان يليق بإنسان حقيقي " لأن أستاذي في المدرسة كان مصريا " وذكر لي اسمه كاملا مع أني نسيته أما يوسف نفسه فصغير السن جدا .
أشار المصورون بالقاعة إلي تأثر حرز الله بشكر الوزير وباللحظة كلها فانفعل وسال دمعه و هو من أصابه الإرهاق العاتي منذ حمل عبء تنظيم الفعاليات. كان يخفض رأسه بتواضع جم ويتعامل بجدية وصدق يليقان بمن نصفهم بأن ما في قلوبهم هو علي لسانهم وجاء تنحيه عن مواصلة جهده جديرا بما بذله من جهود خارقة بدنيا ونفسيا لشهور متواصلة حتي أنه كان يحضر لاستقبال الوفود بمطار العاصمة ثم العودة معها ( أي قطع مسافة تسمعائة كيلومتر في يوم أو أقل كل مرة ) ، هو إنسان يفضل الطعام الشعبي الرخيص المتقشف لنفسه علي طعام فنادق الخمس نجوم ولا تملك إلا أن تحبه وتحترمه .
من الوزير عرفنا أن "المُنشّط أو المُسيّر الجديد (كما يقولون في المغرب والجزائر ) د. عبد السلام يخلف سيواصل القيام بأعباء حرز الله في الليالي الشعرية المتبقية وهي الليلة الخليجية والليلة الشامية وليلة المتنبي بينما تم الاعتذار لمن أرسلت لهم دعوات لأمسيات تخص ليلة المهجر وغيرها من الليالي .
جمال القصاص يتجلي في الارتجال لا تعوزه الكلمات ولا الصور ولا صدق الانفعال باللحظة . يؤمن بالشعر بكل خلية في دمه ويصدق قدرته علي اجتراح المعجزات . في كلمته شكر بأسمائنا الشاعر حرز الله ثم تكلم عن العلاقات التاريخية بين مصر والجزائر وعما تمثله مصر لدي الجزائر متطرقا إلي الحلم المصري والإصرار علي قهر قوي التخلف والأخطار المحدقة بالدول العربية ومؤكدا علي قوة الشعر والإنسان فكلاهما يستطيع هزيمة كل شيء .
الفن حالة المدينة . كان عز الدين ميهوبي ينتظرنا لنستمع إلي مقطوعات من أوبرات عالمية يتخللها - أوقاتًا - الغناء الأوبرالي أعلي منصة المسرح الذي أقيم علي " نصب الأموات " وهو نصب يخص جنود فرنسا ممن سقطوا في الحرب العالمية الثانية وبه أسماء عربية وجزائرية عديدة يعلوه تمثال مجنح لسيدة ويذكرنا بقوس النصر الفرنسي الشهير في باريس . جلس الوزير ونحن والجمهور في رحابة الفن والطبيعة يحرسنا قمر مكتمل . اعتقدنا أننا سنأتنس بفن المالوف الجزائري كما كان أفادنا الشاعر الشاب الأمين بلحاج صباحا لكن ما استمعنا إليه من " بحيرة البجع " و " كارمن " و " عايدة " وغيرها بينما تتراقص الإضاءة الملونة قرمزية وبنفسجية علي النصب في الخلفية وعلي الشجر كلها جعلتنا نرقص علي مقاعدنا في الهواء الطلق . القمر والموسيقي في العراء لا يمكن أن يغلبهما شيء وتجددت أمنية من مناماتي : أن أرقص علي قمة جبل و لو وحدي علي وقع موسيقي لا أعرف مصدرها !
القمر يرعي لحظة النشوة بجانب الجندرمة الوطنية . لحظة لم يخدش بهاءها ما قمنا بتصويره صباح نفس اليوم حين حكي لنا جوادي و فلّوس عن تكسير الإرهابيين أثناء سنوات النزيف الجزائري المعاصر لأجزاء ضخمة من اللوح الحجري المحفور عليه أسماء من سقطوا من جنود فرنسا هنا أثناء حربها ضد النازي . علي المنصة أشاهد جاري في الغرفة المواجهة لغرفتي مباشرة بالفندق .. عازف أوروبي ضخم طويل الشعر أصادفه أثناء انتظاره تنظيف غرفته وفي الإفطار وفي نفس الليلة لدي عودته من العزف بينما أبحث عن مفتاح غرفتي .
أعترف من نفسي للأمين بلحاج بما قلته للتلفزة الجزائرية : تقصير المشارقة المزمن وعلي رأسهم المصريون في التعرف إلي الأدب المغاربي ككل مقابل عدم إطلاع المغاربة إجمالا علي الأسماء الروائية والشعرية الراهنة ومقصودي الأجيال من بعد جيل الرواد وكذلك بعد الغيطاني وصنع الله إبراهيم و شريف حتاته و نوال السعداوي وأن أهمية الليالي هذه هي محاولة تجسير تلك الهوة . بلحاج كان قد حكي لنا بالسيارة عن وعود المستعمر التقليدية بالاستقلال والتي لم تكتفِ فرنسا بكونها أخلفتها عقب هزيمة النازية بل ردت بمذبحة فتحت فيها النار علي جموع الشعب التي خرجت في الشوارع مطالبة بالحرية فقتلت الألوف . كان يؤكد أن الجزائريين لا يحبون الفرنسيين جدا كما يشاع وبالأحري أنهم لا ينسون وحتي من يتجنس منهم يظل انتماؤه الوجداني للجزائر . يقول عن المرحلة الاستعمارية " الجرح غائر " و هو نفس ما أكده لي القاص والمسئول الإعلامي عبد الرزاق بو كِبَّه
أحببتُ البراءة التي يمكن أن أقول عنها ما قاله أرخميدس لدي اكتشافه قانون الطفو : " وجدتُها.. وجدتُها" !
أحكي للأهل والأصدقاء في مصر أني تلمست روائحها المنسية هنا كما في تونس والمغرب وربما أيضا في أوروبا بمعني أن أكثر المجتمعات العربية انفتاحا ربما علي مستوي العلاقات بين الجنسين والأكثر تقدما في مجالات ملف الأسرة والمرأة و مدونة الأحوال الشخصية ( التونسية بخاصة ) هي التي استشعرت فيها ملامح تلك البراءة عفية في الوجوه والتعاملات وتلقائية التعليقات والابتسامة الصبوح الحرة حتي علي وجوه العجائز علي سلالم " حي القصبة " أو ما يعرف بالمدينة العتيقة كما هي نفس التسمية بتونس . من مثلا يتخيل أن يجمع شارع واحد بين وزارتين تبدوان متعارضتين : وزارة المرأة و وزارة الداخلية ؟ . يحدث في تونس .
الانغلاق وليس الانفتاح الثقافي والإنساني علي الآخر هو ما يزيد هامش الجريمة في العلاقات الإنسانية ، هو ما يؤدي إلي القسوة علي الذات و بالطبع علي الآخر إلي حد شيطنته ويظل يتقلص ذلك " الآخر " حتي يصبح جارك أو ابن خالك أو أية سيدة تمشي في شوارع بلدك ، الانغلاق قنبلة موقوتة في سيكولوجياتنا يترجمها التراث الغنائي لدي الفلاحين في مصر وفي صعيدها مثلا فتأتي الأغاني التراثية كاشفة للمسكوت عنه ، مشبعة بالإيحاء الجنسي ورغبة استعراض أشياء أمام الأخريات والتفاخر بما يمليه العرف كسبب للتباهي ، هذا الانغلاق يصيب الروح في عمقها فأفرح وأحزن في آن لدي رؤية عائلة جزائرية علي متن طائرة مصر للطيران التي أقلتنا للجزائر ينام الابن صاحب التسع سنوات علي مقعده و ببساطة يمدد الأب الضخم الشاب أنامله علي وجه زوجته المحجبة يداعبها بحنان . لو تجاوزنا عن التعميم لا أظن معظم الأزواج المصريين يسمحون لسلوكهم المعلن بمثل هذه اللفتة المُحِبة الدافئة.
هناك في بلاد الشهداء والجبال والصحاري ، حيث كل شيء من ثقافة و تحضر واهتمام بالنظافة وحرص علي الهوية وإتقان اللغات الأجنبية و طبيعة جميلة .. كل شيء جاهز للسياحة لكن لا توجد سياحة كما يعترف الجزائريون . كم أحزنني الأمر ! فحتي خارج دوائر المثقفين الشعب مؤهل للتعامل مع الآخر . " سطيف " مثلا كمدينة دوما تحتل المرتبة الأولي في الحفاظ علي المظهر الحضاري والنظافة علي مستوي الجمهورية الجزائرية و حين تنظر إلي البيوت والمباني المتراصة في مدرجات الجبال بالمدن الصغيرة والعاصمة ، تلك التي يجدد طلاؤها فتظل محتفظة برونقها المعماري الفرنسي القديم وسط نعمة الهدوء وسماء لم تحتجب بهيستيريا التشييد والتعلية تحمد الله أن رأس المال العفن لم يصل إلي هذه البلاد الشاسعة ذات الطبيعة البكر ( يتركون الشجر هنا كما في لبنان والهند كما يجب أن يترك .. بلا تقليم يشوهه علي غرار " كعكات الشجر " في الشوارع والأندية بمصر والذي ينسف نصف الهدف من زراعته : التظليل!).
" لم يصل .. لكنه سيصل " هكذا قالت لي الصحافية المحبة لمصر بعد تعريفها بنفسها - زليخة صحراوي . صحراوي كانت أجرت حوارات مع جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وغيرهما و رغم تشاؤمها حيال ما قد يحدث أري أن درجة الوعي ومستوي ونوع التعليم بالجزائر والاحتكاك الثقافي بالآخر كلها ضمانات قد تمنع ما حدث لمصر نتيجة لسياسة الانفتاح الاقتصادي المتوحشة من سبعينيات القرن العشرين والتي زادتها العولمة تغولا. لا أقول هذا للسيدة صحراوي فقط أستمع إليها وحين أنتقد وأنقل مخاوفي أصف مصر .
قبل أيام من زيارة الجزائر كان أحد محلات ال " 2 و نصف جنيه " بالقاهرة يعرض أحدث ما ورده من إكسسوار حريمي من الصين . " بروشات " ورود وأشكال عدة لفت نظري بينها " بروش " عبارة عن علم أمريكا بحجم كبير . لم أجد بروشا لعلم مصر ولا أي بلد آخر .
إذن هو " الزمن الأمريكي " كما اختارت مديرة إحدي مدارس اللغات و "البيزنس " بالإسكندرية تسمية مدرستها في لافتة مدقوقة بهذا الاسم بالإنجليزية علي عمارة تراثية قديمة في حي سابا باشا بالإسكندرية في مصر.
لماذا لا أخرج من الزمن الأمريكي إلا حين أخرج منكِ يا مصر ؟!
في الهند والمغرب والجزائر وتونس وأيرلندا بل ودول أوروبا أتخفف من عبء المحنة . أحبك يا بلدي وأسخط وأحزن علي خيارات رؤسائك الاقتصادية والثقافية والتعليمية منذ السبعينيات من القرن العشرين . يتجدد الشجن المفاجئ حين يصحبنا الأصدقاء الجزائريون والسائق عياشي إلي محافظة تيبازة في آخر أيامنا بهذا البلد شاسع الكرم والرحابة الإنسانية . هنا " هرم " بناه الملك الأمازيغي " يوبا الثاني " لمليكته " كليوباترا سيليني " ابنة كليوباترا التي عانت من نوستالجيا عالية ودفعها الحنين لمصر أن تشترط نهرا كنهر النيل كمهر فكان لها " ماء الزعفران " أو ما عرف ب " مازفران " ولما ماتت أقام لها " هرم " تيبازة . عند هرم يوبا المحاط بالأحراش علي قمة جبل يتمكن الجزائري والزائر من دخول المكان بلا رسوم . الطبيعة والأثر مجانيان بلا تمييز من الدولة . في طريق العودة وسط باعة الذرة المشوية والمخبوزات الشعبية علي الطريق الجبلي شاهدنا أعدادًا هائلة من المواطنين وهم يستمتعون بشواطئ البحر في الأسفل بخيامهم وشماسيهم الخاصة ، بلا شماسي عليها إعلانات تخص شركة محمول أو منتجات مثل كوكا كولا ويتم فرض " إتاوة " تأجيرها بالإكراه كما يحدث للمواطن المصري الذي حرّم عليه شراء وحمل مقاعده وشمسيته كما كنا نفعل بحرية في طفولتنا ، بعدما فقدنا شواطئنا أصلا بسطوة رأس المال ودعاوي توسيع الشوارع وتحويل البحر المردوم إلي " كافيهات " أو مقاهٍ سياحية . تذكرت الشاعر والمترجم الوهراني الفرانكفوني الذي أقام و عمل فترة بجريدة الأهرام إبدو بمصر " محمد سحابة " . قال لي مرة : " في مصر مابقاش فيه شواطئ رمال ( كان يقصد الإسكندرية ) .. اختفت تقريبا ومساحتها أصلا رفيعة بينما في الجزائر الشواطئ شاسعة و متاحة للناس ".
في الجزائر أكلتُ التين البرشومي الذي يقف باعته و قد وضعوه في سلال كالتي يوضع فيها الورد بمحلات الورد هنا بالقاهرة . علي الجروف بين الجبال يشتري الشاعر أحمد الشهاوي تينا ويصر علي إطعام الجميع . نأكل دون غسل الثمار ولا يصيبنا أذي . حتي وسط الذباب الذي لم يرحم الشوك والملاعق في مطعم " السلسبيل " بمنطقة الأشير قبيل وصولنا قسنطينة .. كل الذباب علي الخبز الفرنسي الفاخر لا يصيبينا بألم المعدة المتوقع . أتأمل هذا حين أتذكر كم ننفق علي مطهرات الطعام والفواكه بالقاهرة كما استرجعت زيارة قديمة لي لمدينتي الداخلة والخارجة بمحافظة الوادي الجديد في مصر حين كنا نكتفي بإزالة التراب من علي ثمرات الجوافة المقطوفة من شجرها أو باستخدام قليل من ماء القلل التي معنا لغسل التمر ونأكل ولا نمرض . الذباب حين لا يجد قاذورات وقمامة ( أزبال كما تسمي في المغرب العربي كله ) لا يخلف أمراضا !
في تيبازة كان الروائي الفرنسي الجزائري المولد ألبير كامو يعتكف ليكتب ، يجعل أبطاله يصارعون الوجودية لتنتصر . الأجمل كان أطفالا جزائريين صغارا ( في حوالي العاشرة من العمر علي الأكثر ) التقيناهم فجأة وبينهم أطفال من النيجر يتكلمون العربية . هي رحلة مدرسية اغتنمها فجأة الكاتب الجزائري المرافق لنا بو كِبَّه فطلب منهم بلا توقع غناء النشيد الوطني الجزائري .
في لحظة واحدة دخل كل الأطفال في حالة مغايرة تماما للهو والاسترخاء المرح ونظرات الفضول للغرباء الذين هم نحن لدي دخولنا المكان . اصطفوا كجوقة علي مسرح وبدأ الغناء الطفولي المنغم كأنما يرون إلها يعبدونه و هم ينظرون في الفضاء . هذه الجوقة الوطنية المفاجئة أصابتني بالقشعريرة . غالبت دموعي . حكيت لبو كِبَّه كيف بعد ثورة 25 يناير في محفل يخص الثورة والإصرار علي دولة مدنية في الختام لما طالبونا بالوقوف وأداء النشيد الوطني وفي ذروة الفورة والحماسة الوطنية لم يكن يحفظ النشيد أحد تقريبا حتي إن إدارة المكان تحسبت لهذا فوضعته مكتوبا تتحرك كلماته علي شاشة عرض عملاقة جانبية . اليوم بعد ثورتين شعبيتين ما زال التلاميذ والراشدون لا يحفظون ما كنا نردده بكل ثقة وتلقائية أمام علم بلادنا في المدارس الحكومية و حتي الخاصة في أوائل عهد ما سمي ب " الانفتاح الاقتصادي " . ولم أقل لبو كِبَّه كيف امتنع السلفيون المصريون في مجلس الشعب وقت حكم الرئيس الإخواني المخلوع محمد مرسي عن الوقوف لتحية علم مصر أو لأداء النشيد الوطني .
حقول القمح و الذرة علي جانبي طريق السفر من و إلي قسنطينة تصيبني بالحنين يا مصر . نحن لا نزرع القطن وقمحنا لا يكفينا وما كنا نصدره نستورده من عقود ولا أحد يشرح لنا لماذا . التين الشوكي في الجبال يذكرني بك يا مصر ، الفخار المحروق علي الطريق يذكرني بكِ والابتسامة التي عادت للوجوه الجزائرية ترسم خطا من الأمل لنا . غيابها عن وجوه المصريين والمصريات خاصة أو ربما لكوني أتملي وجوه النساء أكثر ؟ - يسحب كل الكلام .
يصر الشعراء وبقية الوفد المرافق لنا أن الشرطة صارت ملتزمة بما أُنجِز من تقدم في ملف حقوق الإنسان فلا يتم ضرب المعتقلين وشاهدنا في الشوارع مساءلات شرطية لشباب واقتياد بلا عنف بل أصر بعض الأصدقاء الجزائريين أن العنف والمشاكسة قد يصدران عن المواطن لدي تعامله مع الشرطة ، وفي المطار لدي عودتنا شاهدنا مواطنا آسيويا بدا علي سلوكه أنه غير طبيعي و مهتاج فكان يصدر همهمات عالية ويحاول الإفلات . أمسكت به السلطات التي قالت أنه بلا أوراق ثبوتية . أخذوا هاتفه الجوال الذي أعطاه لشاب آخر بدا أنه جزائري ، أصروا علي نزع الجوال من يد المواطن أو الراكب الآخر بما أوقعه أرضا لكن دون أن يمسوه بسوء ودون دفعه بأيديهم أو أي شيء . قلت لأصحابي إني رغم تعاطفي معه بل والمؤكد مع كل لاجئ سياسي مثلا إلا أن من حقهم منعه من استخدام الهاتف الجوال الذي يُستخدَم في عمليات الإرهاب الحديث. وأنت تجد قبيل إحدي محطات تفتيش الحقائب بالمطار عبارة " الأمن قضية الجميع " بعدد من اللغات أدقها وأكثرها قربا للمعني المراد هو الفرنسي " الأمن يخص الجميع ".
في الطريق إلي المطار نعبر بجوار حي سكني حملت لافتته اسم إنجاز الجزائر الأعظم من سنوات :" حي المصالحة الوطنية " ما ذكرني باعتراف أحد الأصدقاء الجزائريين من أن هناك ظلما كبيرا تم القبول به كثمن لإنجاز تلك المصالحة التي تبقي الأهم لحقن الدماء واستعدتُ مع نفسي ما كان حكاه لي الشاعر الجزائري محمد سحابة الذي كانت حياته الشخصية تحت خطر التصفية حين غادر بلاده أوائل التسعينيات من القرن العشرين . كنت أحكي له وقتها مشاهدتي لصور مروعة البشاعة لرءوس منفصلة عن أجساد أصحابها تخص عددًا من الكتاب والصحفيين و الرعاة والمزارعين العزل والنساء وبعض من تم اغتيالهم بمجرد خروجهم من منازلهم . كانت كلها في معرض فوتوغرافي توثيقي لضحايا الإرهاب الجزائري أقامته نقابة الصحفيين المصرية في مبناها القديم ذي المعمار الستيني البعيد عن البهرجة بشارع عبد الخالق ثروت بوسط القاهرة أواسط التسعينيات .
نسلم بأرواحنا علي هذا البلد الجميل الذي كان عامة من نلتقيهم من مواطنيه ومواطناته يسألوننا لدي سماع لهجتنا : " مصرية ؟ مصريين ؟ " وحين نجيب بنعم لم يحاول التجار مثلا فرض سعر خاص بنا كسياح و لو كنا نشتري وحدنا ، و كانت وجوه المواطنين تتسع بابتسامة تلقائية تحتضننا بحب و تقدير حقيقي عميق . من كل قلبي لا يسعني إلا أن أقول للجزائر أرضا وشعبا " فاسلمي .. فاسلمي .. فاسلمي ".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.