الأسئلة كثيرة، والخلافات أكثر، والإنجاز يسير ببطء، و حفظة المأثور الشعبي يرحلون دون أن نجمع مكنون الصدور من معتقدات، ودون أن نعي نصوصهم الشعبية الآسرة، ولا يزال معظم المثقفين يتندرون علي كل ما هو شعبي، نتحدث كثيرا عن الهوية بوصفها مفردة في المطلق، كأنها عشبة نبتت في فراغ، كأنها موجودة لذاتها. نتحدث والطريق يخلو لكلام نظري يفتقد لآليات ميدانية تمثل مشروعا وطنيا يجتمع حوله كل المهتمين بتراث ومأثور الوطن العربي، وقد يري البعض أن الحديث عن مشروع عربي هو مقدمة الفشل، خاصة أن العرب لا يجتمعون علي مشروعات كبري، وأن اختلافات - تبدو - جوهرية في العناصر الفولكلورية المشتركة التي يمكن أن تشكل خارطة متسعة يمكن أن تقود لنهضة ثقافية عبر قراءة عميقة لتفاصيلها: الثقافة المادية - المعتقدات - العادات - التقاليد - التصورات - الأدب الشعبي بأنواعه - الفنون التشكيلية الشعبية - فنون الرقص والحركة - فنون الموسيقي... إلخ. إن أولي خطوات المشروع لابد أن تنبني علي وضع تصور نظري يقف علي ضبط المصطلحات، بداية من مفردة "فولكلور" وما يدور حولها من ترجمات: التراث الشعبي - المأثورات الشعبية - الفنون الشعبية - الأدب الشعبي.. إلخ، وما يندرج تحت المصطلح بوصفه جنسا لما تحته من أنواع، وبالتالي الوقوف علي تحديد المفاهيم الخاصة بكل مصطلح من المصطلحات المتواترة وفك الالتباسات القائمة بينها وحولها، وظني أن هذه البداية تحتاج إلي تقسيم العمل بحيث يتوافر لهذه المهمة نخبة من أهل التخصص مع الاستعانة بما أنجز من أطروحات -ليست قليلة- علمية في هذا الشأن يكون الهدف منها عملية ضبط المصطلح. أما الخطوة الثانية فتتعلق بالأعمال الببليوجرافية لحصر وتوثيق الدراسات التي أنجزت في هذا المجال ووضعها في إطار تصنيفي يتيح المواد العلمية من أبحاث ودراسات (نظرية - ميدانية)، ويمكن من خلالها إعداد مسارد بالمصطلحات المتواترة ومرادفاتها في البلدان العربية من خلال تفريغ المادة المتاحة والتي ستوفرها الببليوجرافيا، وهذا العمل يمكن أن يعكف عليه مجموعة من المختصين في إعداد الببليوجرافيات، علي أن يلحق بها كشافات نوعية : تاريخية - موضوعية.. إلخ، وهو الأمر الذي لن يتم إلا بالتوفر علي الدراسات والأبحاث في كل بلد عربي، وكذا الدراسات والأبحاث التي تخص الثقافة الشعبية العربية في مكتبات العالم. ونظن أن الخطوة الثالثة تتمثل في حصر الجامعين الميدانيين في كل بلد من الدول العربية وإعداد برنامج تدريبي يراعي الهدف من المشروع، كما يضع في تصوره التباينات بين عناصر الثقافة الشعبية سواء في المفردات الدالة علي كل عنصر، وكيفية إعداد بطاقات التفريغ وتدوين المادة المجموعة وفقا للقواعد التي ستستقر عليها لجنة تدوين النصوص. رابعا: أن تكون هناك خطوة جوهرية تشارك بها الشعوب في الجمع الميداني عبر برنامج، يمكن أن نطلق عليه "بنك المأثورات الشعبية"، هذا البنك يمثل الخازنة التي يضع فيها كل مواطن عربي سهمه الفولكلوري (مثل - عادة - تقليد - حكايه... إلخ)، وهو ما سيجعل كل مساهم أحد الفاعلين في رسم الهوية،وبعد أن تتوافر مواد الجمع يمكن العكوف علي تصنيفها من خلال المختصين، وتيسيرا علي الناس من محبي مأثورهم يمكن أن تعد بطاقات توزع من خلال ندوات وأمسيات تعريفية بالمشروع وأهميته وأهمية المشاركين فيه. في هذا السياق فإن أي حديث عن التراث والمأثور الشعبي دون إشارات جوهرية للكنز الحافظ لهما، يعد حديثا عبثيا؛ لكنز يتمثل في المرأة، حاملة التراث وراوية المأثور، والقابضة علي جمر الأغنية الشعبية عبر دورة الحياة بداية من الميلاد وليس انتهاء بالموت، لأن الدائرة مكتملة لا تفصل بين حياة وموت وإنما تربطهما بربط الثقافة الشعبية، الأمر الذي يجعلنا نضع المرأة في مركز الاهتمام ونحن نتوجه إلي إعداد استراتيجية عربية لجمع وتدوين وتصنيف وأرشفة وتحليل عناصر الثقافة الشعبية، حيث يتسع جنس الفولكلور ليضم فنون السرد الشعبي وفنون الشعر وما بينهما من أنواع تخترق التصانيف البليدة لأنواع الأدب المتواترة، ويمكن أن نمثل لنوع واحد من أنواع الأدب الشعبي وهو الشعر وما يندرج تحته من نويعات لتتضح الإشكالية بشكل أنصع، وقد جاء مقترحنا علي النحو التالي: أولا : الشعر المؤدي غناء (شعر الغناء الشعبي) (1) شعر الغناء الشعبي المرتبط بالطفل (أ) شعر الغناء الشعبي الذي يؤديه الطفل (ب) شعر الغناء الشعبي الذي يؤدي للطفل (ج) شعر الغناء الشعبي عن الطفل حيث يضم شعر الغناء الشعبي الذي يؤديه الطفل (عام: عن الأشخاص - عن الحيوانات والطيور - عن الكُتِّاب والمدرسة. المناسبات: عن الحصاد- عن المطر - عن رمضان عن العيدين. الألعاب: الأولاد - البنات- مشتركة، أما شعر الغناء الشعبي الذي يؤدي للطفل فيضم (الميلاد : (1) عامة - (2) ميلاد البنت - (3) ميلاد الولد. التهنين والهدهدة: (1) التنويم - (2) التدليل والملاعبة - (3) الترقيص- الفطام. الذهاب للكُتَّاب - في الحكايات) ، ويضم شعر الغناء الشعبي عن الطفل كل مايتعلق بالطفل في كافة الأنواع الشعرية الشعبية (السير- المواويل-...شعر الغناء الشعبي الذي يؤدي أثناء الحمل...إلخ) لكنها لا تؤدي له مباشرة، ولا يؤديها بنفسه. (2) الشعر الشعبي المرتبط بالزواج. الخطبة- الشبكة- الحنة - حلاقة العريس- الدخلة - الاستحمام - الصباحية. (3) الشعر الشعبي المتصل بالمناسبات الدينية والأعياد أغاني جماعات الطرق الصوفية - الأذكار في مجلس الذكر - أغاني الذكر - القصص والقصائد الدينية- أغاني الموالد - المشايخ - الأولياء - القديسين - أغاني المولد النبوي (يتضمن غناء قصص السيرة النبوية) - الأغاني الكنسية - المدائح النبوية- الابتهالات - التخمير (يشمل التخمير في الحضرة) - أغاني الزار- أغاني الأعياد والاحتفالات- أغاني عيد الفطر - أغاني عيد الأضحي - أغاني الإسراء والمعراج- أغاني رمضان (بالفوانيس)- أغاني التسحير (في شهر رمضان)- أغاني الحج ( ذهابا وإيابا)- أغاني رأس السنة الهجرية- أغاني التقديس - الذهاب إلي التقديس(الذهاب للقدس) ويندر العثور علي رواة لها بعد انقطاع هذه الرحلة وتشمل: أغاني الذهاب والتوديع - أغاني العودة والاستقبال)- أغاني الأعياد المسيحية- أغاني عاشوراء- أغاني شم النسيم - أغاني القمر. (4) الشعر الشعبي المتصل بالعمل الصيد - الحرث والحصاد والجني - سقاية الإبل - أعمال البناء - نشل المياه من الآبار- رعي الإبل - حداء الإبل- طحن الغلال (الرحايه)- الخبيز ... إلخ. (5) الشعر الشعبي المتعلق بالفرجة والرقص أغاني الأراجوز -أغاني خيال الظل- أغاني القرداتي- أغاني الأدباتية والمضحكين أغاني المواوي- أغاني كف العرب (الكفافه)- أغاني السحجة- أغاني الدحية- أغاني الأوكل (الحمامة: بالرطانة /لغة البجا) - أغاني الهوسسيت (السيف: بالرطانة /لغة البجا)- أغاني الدونيب (الدندنة: بالرطانة /لغة البجا)- (6) الشعر الشعبي المتصل بالموت (العديد / المراثي الشعبية) الموت غرقا- الموت محترقا- موت كبير السن - موت البنت- موت الزوجة- موت الابن البكري ةة. إلي آخر التصنيفات حسب الجنس والعمر ونوع الميتة. ثانيا: الشعر المؤدي إلقاء (الشعر الشعبي) (وتشترك معظم هذه الأنواع في كونها تغني أيضا، لكنها تكتسب شعريتها من خلال بنائها الذي يعد بناء مستقلا، ويمكن أن يؤدي دون غناء) ومنها الأنواع التالية : المجرودة - الشتاوة- قول الأجواد - التقدير- الحداء- الشباهة- العلم- القصدان (الواحات البحرية)- الدوبيت / هابيت (وهي المرادف بالرطانة لمفردة دوبيت)- شكر الإبل - شكر البنات -النبذ - الجنزير - نعناع الجنينه ذ البوشان - فن الواو - المربع - الدوبيت - الموال (تصنيف حسب شكل عدد شطرات الموال)- الموال الرباعي - الموال الخماسي / الأعرج - الموال السباعي / الزهيري / النعماني - موال 13 زهرة/غصن - موال 19 زهرة غصن - الموال المردوف - الموال (تصنيف حسب عدد مضمون الموال، ويختلف الرواة فيما بينهم في هذا التصنيف)- الموال الأبيض - الموال الأخضر - الموال الأحمر - البلاليق ثالثا: الشعر الشعبي الذي يتخلل الأعمال النثرية (السير ذ الحواديت القصص إلخ) (وأعني به كل الأشكال الشعرية التي تتضمن الأشكال السردية والحكائية الشعبية من مواويل وأغان) وتكمن صعوبة الجمع الميداني في أن نصوص الجماعة الشعبية لا تتباهي بذاتها لكنها تتجلي في سياقات اجتماعية وطرائق للأداء، فضلا عن تعالقها بأنواع المأثور الأخري من عادات وتقاليد وممارسات وثقافة مادية وحركة ولغات للجسد الإنساني، فالمسكوت عنه أكبر مما تلعقه الألسنة، وتنغمه الشفاه، ويالها من مغامرة غير مأمونة حين تدخل لبئر تفتش فيه عن مكنون الصدور واختراق المتواتر في الدرس لموضوع من الموضوعات المتعلقة بجنس الثقافة الشعبية وظلالها في التراث والمأثور الشعبي العربي، فحين نتأمل علي سبيل المثال موضوع المرأة في التراث والمأثور الشعبي وما يتعالق به من موضوعات مثل الأمومة والطفولة، سنجد أن المدخل شائك قد يوقع حتي الباحث المحترف في لجة اللاعلمية، خاصة مع عدم وجود عمليات جمع ميداني field work تتم وفق استراتيجية متبناة يعكف عليها مجموعة من الباحثين والجامعين الميدانيين، فضلا عن ندرة الدراسات المكتبية disk work المتصلة بهذا الموضوع وجمع عناصره المتنوعة من بطون الكتب والموسوعات، فهاتان المفردتان (الأمومة والطفولة) تصلحان مدخلا مهما لاستشراف بعض الأبعاد الجمالية والقيمية في الموضوع الرئيس وهو المرأة في التراث والمأثور الشعبي، وهما تشكلان موضوعا متسعا يستعصي علي الإلمام به دفعة واحدة، والمجاهرة بأي يقين سيصبح نوعا من السذاجة، فهما تشعان بظلالهما علي عناصر الثقافة الشعبية وتصنيفاتها كافة، إضافة إلي ما يتعالق بهما من تصنيفات تتسع وتضيق حسب نوع التصنيف ووجهته، خاصة بعد أن أصبح جمع عناصر المأثور والتراث الشعبي ضرورة علمية واجتماعية خاصة في ظل هيمنة وسائل الاتصال الحديثة، وسعي الشركات متعددة الجنسيات عبر بعض الباحثين إلي جمع هذه المواد وإعادة تصديرها لنا مرة أخري في أشكال أكثر إبهارا من خلال وسائطها التي لم نمتلكها بعد، وحتي لو امتلكنا بعضها فإننا نتعامل معها بشكل يدعو للاستغراب من مستخدميها، فهذه الوسائط تتيح مساحات من الحرية والديمقراطية لشعوب لم تتعلم معني الديمقراطية بعد، و بالرغم من الجمع الميداني الذي تم عبر السنوات السالفة لعناصر التراث والمأثور الشعبي في موضوع الأمومة والطفولة إلا إن ما تم جمعه لا تحكمه سلسلة ممتدة تربط هذه العناصر جماليا واجتماعيا، وهو ما يدعونا من جديد لتبني مشروع أطلس الفولكلور العربي؛ ذلك المشروع الذي يربط بين العناصر الفولكلورية وأبعادها الجغرافية، بحيث يمكننا معاينة توزع كل عنصر علي خريطة تكشف لنا المشتركات والتباينات في كل عنصر، ولن ننجح في الوصول لهذا الطموح إلا بجمع ميداني لكل عنصر بشكل متزامن وفي كل الدول العربية ، وفي هذا السياق يمكن تأمل صورة البنت في التراث والمأثور الشعبي كعنصر جوهري تتعلق به دورة حياة المأثور الشعبي وتواتره. إن عددا من الدارسين ينهلون من الأقوال الشائعة ويجرون وراء المتواتر استمساكا بيقين لا أدلة عليه غير وجهتهم التي يتجهون، فالكلام عن صورة البنت بوصفها حاملة المأثور - الجسد الذي يسعي عليه أبناء الجماعة ليختزنوا فيه وعيهم عبر نهر لا يكف عن الجريان بالمعتقدات والعادات والتقاليد والفنون - لا يزال غضا طريا، فالموقف من ميلاد البنت - كما يشيع - شائنا، يراه البعض علي هذه الصورة دون وضع النصوص بجوار بعضها البعض وقراءتها في سياقها الأدائي، فهناك نصوص تؤدي للبنت ممتدحة جمالها، فرحة بقدومها، لكننا سنري نصوصا تتردد بين أبناء الجماعة الشعبية، تحمل - تشابها، بل تطابقا بين نص تراثي وأخر مأثوري، أحدهما فصيح "دفن البنات من المكرمات" والثاني "موت البنات سترة" والمعني الذي يشير إليه سطح النص هو تمني موت البنات، وتحت هذا التفسير ستتسق مقولات من قبيل أن الثقافة الشعبية تنظر للبنت وميلادها نظرة متدنية محتقرة إياها، لكننا حينما نعيد التأمل وتأويل النص المَثَلِي بشكل مختلف سنجد رؤية مختلفة هي أن البنات حين يمتن يصبح دفنهن مكرمة، وبهذا يمكن أن يتسق هذا التأويل مع التعبير المثلي الشعبي "كرامة الميت دفنه" دون تفريق بين ذكر وأنثي، لكن الجماعة الشعبية قد خصت البنات بمثل وحدهن إمعانا في تكريمهن، من هنا يصبح التأويل الشائع للمثل الشعبي "موت البنات سترة " تأويلا ساذجا لا يقف إلا عند الدلالة الظاهرة للغة، فالنص الشعبي يحتفي بقدوم الولد، كما يحتفي بقدوم البنت، فالنصوص الشعبية تتزاوج وتنجب وتدرك بخبرات مبدعيها كيفية الكشف عن الوعي الجمالي والحياتي بما تحمله، وتدعونا أن نقف أمام ما تكتنز به من قيم جمالية تحمل طرافة أبناء الجماعة الشعبية حين يزاوجون بين المفردات والسياقات، بل والبني لتتضح المفارقة جلية وصارخة دالة علي كل حالة يفرح فيها الأهل بنوع المولود أيا كان نوعه، وحين نتأمل الجماعة الشعبية سنجدها تعقد القران بين النصوص فتنسرب كالأنهار الصغيرة لتصب في نهر منظومة القيم معلنة عن ملامحها السيسيوستاطيقية، فالنصوص لا تباهي بذاتها لكنها تتصل اتصالا وثيقا بفاعلها وبالمناسبات الأدائية التي تستدعيها لتمارس حضورها الطاغي بين أبناء الجماعة التي لا تعرف فصام النخبة بادعائها أن الجماعة الشعبية تحقر من شأن البنت وهي براء من ذلك وهو ما تشير إليه نصوصها الشعبية بقوة، الأمر الذي يجعلنا ننادي من جديد بمشروع عربي يتبني جمع وتدوين وتصنيف وأرشفة عناصر الثقافة الشعبية التي تواصل المقاومة وهي تواجه في كل لحظة صراعا قاسيا من النخبة العالمة، والميديا المستغلة، والآليات الجبارة التي تسعي - بقصد، أو عن سوء نية - لطمس الهوية وعناصرها الجوهرية بهدف تنميط العالم ليكون المقود الثقافي وما يستتبعه في أيدي قوة واحدة مهيمنة.