لا تزال الرقابة هي العنوان الأبرز لثقافتنا، عنوان تتضاءل بجانبه أية عناوين أخري. كأنها (الرقابة) أصبحت جزءا من الهواء الذي نتنفسه، وعنصرا أساسيا في جينات مجتمعنا. تتنوع الرقابة لتتحول إلي عشرات الأشكال بعضها واضح وبعضها مستتر. وتتعدد الآليات المتخذة ضد الإبداع من المنع والمحاكمة إلي محاولات الاغتيال الرمزي والفعلي. ويضاعف من صعوبة الوضع غياب تقاليد راقية للحوار تجعله وسيلة للتفاهم بين المختلفين الباحثين عن أرضية مشتركة. تتحول معظم الحوارات والنقاشات المعلنة إلي محاولة كل طرف لإقصاء الطرف الآخر وكتم صوته أياً كانت الوسيلة. واللافت أن محاكمة الإبداع أصبحت فعلاً يومياً متكرراً. علي مدي شهور قليلة وقف مجدي الشافعي أمام القضاء بعد أن صودرت روايته "مترو" أول جرافيك نوفيل مصرية، ثم جاء الدور علي "ألف ليلة وليلة" من جديد لتصبح في قفص الاتهام، وشهدت رواية "عزازيل" وصاحبها يوسف زيدان فصلاً جديداً من فصول "الصراع" بينه وبين رجال الدين المسيحي. مع تقدم المحامي نجيب جبرائيل ببلاغ ضده للنائب العام - بتوكيل من الكاهنين عبد المسيح بسيط ودسقورس كما يؤكد زيدان يتهمه بإزدراء الديانة المسيحية. وهو البلاغ الذي لا يقتصر فقط علي تصريحاته الصحفية التي اعتبرها البعض معادية للمسيحية حيث يقول: "مذكور في بداية الشكوي ضدي ما معناه أنني دأبت علي الهجوم علي الدين المسيحي في روايتي "عزازيل"، وكتابي "اللاهوت المسيحي" وصولاً لتصريحاتي في ندوة موقع "اليوم السابع". أي أن الأمر لا يقتصر علي التصريحات وحدها. كما أن أساس المشكلة بدأ مع نشر "عزازيل" وفوزها بجائزة البوكر العربية، فنجيب جبرائيل المحامي الذي تقدم بالبلاغ موكل من الكاهنين عبد المسيح بسيط ودسقورس. وبسيط ألّف كتابا ضد الرواية لم يلتفت له أحد. وناقش فيه القضايا اللاهوتية الوارد ذكرها في الرواية، وعندما صدر كتاب "اللاهوت العربي" لم يتطرق له، وقال لن أتكلم عن "اللاهوت العربي" كي لا أساهم في رواجه، رغم أن الكتاب نفدت طبعته الأولي خلال يوم واحد فقط بمعرض الكتاب! وكانت تلك حجة مكشوفة، هو ناقش الرواية لأنها عمل فني وبالتالي يمكنه أن يخترع فيها ما يرغب فيه من تأويلات، إنما الكتاب البحثي الذي فيه أفكار واضحة وموثقة عن اللاهوت العربي فلم يناقشه". ويضيف زيدان أن بسيط هاجمه من قبل وقال أنه يمثل اتجاه عبادة الأنثي ويشبه ملاحدة الغرب، فرفع (زيدان) ضده دعوي سب وقذف، ثم بادر بالاتصال به طالبا منه أن يعتذر كي يسحب الدعوي و"هو ما حدث ونشرت 4 صحف اعتذاره، لكنه عاد ليقول لم اعتذر لزيدان، والصحفيون هم من تدخلوا في كلامي. ودسقورس قال: "يوسف زيدان هو ممثل إبليس في الأرض، وهو كذاب وأبو كل كذاب"، وأصر علي كلامه فرفعت عليه دعوي قضائية مؤخرا هو وبسيط". يواصل زيدان كلامه قائلا: "أصبحت الهجمة علي الكتابة الإبداعية هجمة منظمة، هناك من يلجأ للقانون لشغلك وإرباكك طوال الوقت من محكمة لأخري. ما يحدث حاليا هو آخر مراحل الهجوم علي عزازيل، هو بدأ عند نشرها. وهو هجوم مفتعل لأن الرواية نفسها امتدحها رجال دين مسيحي آخرون وكتبوا عنها كتابة جيدة. كما أنها نجحت في إيطاليا، معقل المسيحية في أوروبا، يكفي أنها خلال شهر فقط باعت 20000 ألف نسخة وأصبحت ثاني أعلي كتاب توزيعا في إيطاليا. أسأله: هل ما يحدث قد ينّمي الرقيب الذاتي بداخلك؟ - "طبعاً، لكنني أقاوم هذا الشعور. أنا أو أنتِ أو أي كاتب آخر سنرتبك حين نكتب مع شعور أن هناك عيون مسلطة علينا وأن أي كلمة ستؤخذ قرينة ضدنا. هذه ليست رقابة إنما افزاع، لكن علينا طبعاً مقاومة هذا الاحساس". وهو السؤال نفسه الذي وجهته للفنان والكاتب مجدي الشافعي مؤلف رواية "مترو" فأجاب أنه ببساطة شديدة، ظل لفترة غير قادر علي الرسم أو الكتابة، لأن متعة الخلق والإبداع اٌستقبِلت بنوع من العقاب. "تنامي بداخلي وقتها رقيب ذاتي وضيع لأنه لم يكن إنسانياً، إنما قهري، وهذا أسوأ ما في الأمر. كنت أفكر أثناء العمل هل هذا سيمر أم لا؟ الشيء المؤسف فيما يخصني، أنني عندما أردت الانتصار للعدالة الاجتماعية عبر الفن، شعرت أنني أصبحت ضحية انعدام العدالة الاجتماعية". هل شعرت بوجود دعم كافٍ لك من المثقفين دفاعاً عن حرية الإبداع؟ - شعرت بوجود دعم كافٍ علي مستويين، وأرجو كتابة هذا، أولاً عندما دعمتني أخبار الأدب في أول الأزمة ونشرت غلاف الرواية كغلاف لبستان الكتب، وثانياً عندما جاءت الدفعة الداعمة من الانترنت خاصة من المدونين مثل الإعلامية والمدونة مروة رخا، والمدون "جيمي هود". وهذا الدعم كان مؤثرا ومهما حتي علي المستوي الإنساني بالنسبة لي، فقد أثرت في جدا فكرة أن يجد المرء من يدافع عنه ويدعمه انتصاراً لمبدأ حرية الإبداع، ودون أن يكون هناك معرفة شخصية، إنما فقط رفضا لمحاكمة الإبداع، وهذا فقط ما أحدث نوعاً من التوازن النفسي بالنسبة لي. شعرت أني انتصرت رغم مصادرة عملي. وعلي رغم هذا يدرك الشافعي جيداً مدي الضرر الذي يلحق بالعمل الفني الذي تطاله الرقابة ويخضع للمحاكمة، يقول "تعرض العمل للمصادرة والمحاكمة يكسبه صورة سيئة السمعة، هناك من يهاجمون العمل أخلاقيا دون قراءته، يحدث هذا كنوع من المناورة هابطة المستوي يقودها أناس لهم دوافع سياسية. انزال العمل الإبداعي واخراجه من نطاق الإبداع إلي نطاق آخر هو أسوأ ما قد يحدث له. نحن كمبدعين، لا دور لنا في مؤسسات دينية ولا سياسية، المفترض بنا أن ننتج أعمالا فنية خلاقة، تتم مناقشتها في هذا الإطار، والنزول عن المعايير الفنية حين التعرض لعمل إبداعي ما إيذاء للعمل وصاحبه وللمتلقي لأنكِ تنزلين بمستواه لدرجات أقل. ويواصل الشافعي أن كلمة الرقابة كلمة سيئة جدا وتحمل في طياتها أن هناك من يمنحون لأنفسهم فوقية ما علي الآخرين. "كل المجتمعات تفرز أشكالا من التنظيم. بمعني أنها تصّنف الأعمال الإبداعية إلي أعمال ملائمة لمن في سن العاشرة، وأخري لمن في سن الثامنة عشرة، وثالثة لمن فوق الواحدة العشرين. ويمكننا الالتزام بهذا كمبدعين. يجب أن نوجد لأنفسنا آليات مماثلة. أنا من أكثر الناس الذين أضيروا من الرقابة والمصادرة، وليس عندي مشكلة أن أشارك في لجنة مماثلة، لكن في النهاية يجب أن تظل كل الآراء مفتوحة بلا أي رقابة لمن بلغوا سن الرشد". من جانبه يقدم الكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب المصريين والعرب، بعدا آخر للمسألة بقوله: "أولاً الأدب لا يجب أن يحاكم في المحاكم الجنائية وما إلي ذلك، بل يحاكم في محافله!! عندما يكون هناك قضية متخصصة تحال لخبراء في التخصص ذاته. القضايا الاقتصادية مثلا تحال لخبراء اقتصاد. يحدث في هذا في كل التخصصات ما عدا الأدب، نجد أن هناك محاكم تقول في حيثياتها إن هذا الكتاب يعيب في الذات الإلهية أو يخدش الحياء العام. من يقول هذا الكلام يجب أن يكون متخصصاً في الأدب حتي يستطيع تحليله والوصول لمعانيه الكامنة. المسألة ليست انطباعات سريعة يطلقها رجل الشارع. الناقد والدارس ينظر للأمر من زاوية مختلفة. من أهم سمات العمل الأدبي أنه حمال أوجه، وليس مرآة مسطحة تحمل صورة واحدة فقط. في العمل الأدبي كل زاوية منه تقدم صورة مختلفة، بعض الناس يتوقفون عند زاوية واحدة، وتقول "هذا الكتاب ضد فلان، أو ضد الدين". العمل الأدبي بطبيعته يشع بالمعاني، ولا يصح اختيار معني واحد فقط وجعله يسود. كل هذا يجعل من الضروري في من يحكم علي الأدب أن يكون متخصصاً، وقلنا هذا مراراً للجهات الرسمية، كما قلنا أن اتحاد الكتاب موجود، وهو الجهة المفترض بها أن تقوم بهذا الدور، وبالفعل انتدبوا خبراء من الاتحاد في قضية خاصة بالملكية الفكرية.. والمفروض أن يتم تعميم هذا، وأن لا يحكم غير المتخصصين علي الأعمال الإبداعية.
أسأله: اسمح لي، قد يوحي كلامك بأنك لا تعترض علي محاكمة الإبداع، إنما فقط تعترض علي الجهات التي تقوم بهذه المحاكمة.. بهذه الطريقة من الممكن أن يتحول اتحاد الكتاب إلي جهة تحجر علي حرية الإبداع؟ - »لا يجوز الحجر علي حرية الإبداع وحرية التعبير من أي جهة. أتكلم فيما يتعلق بقضايا الملكية الفكرية وما إلي ذلك، لا فيما يتعلق بحرية الإبداع. حرية التعبير مقدسة، ولا غبار عليها، ولا تهاون فيما يخصها. "لقد أنشأنا في الاتحاد مكتبا جديدا للملكية الفكرية، مهمته الدفاع عن الملكية الفكرية لأعضاء الاتحاد، وأن يتضامن معهم، وحدث أننا تضامنّا مع عدد كبير من الكتاب أعضاء الاتحاد بالفعل، وكسبنا قضية لأحمد الشيخ وخيري شلبي ونجيب محفوظ وآخرين. فيما يخص حرية الإبداع أعلن الاتحاد تضامنه مع يوسف زيدان منذ البداية، ومع علاء الأسواني حين رفع عليه أحد سكان عمارة يعقوبيان دعوي قضائية يتهمه فيها بالتشهير به، كان للاتحاد موقف من هذا، وأكدنا أن هذا عمل أدبي وأي تشابه بينه وبين الواقع غير مقصود".