حارة حوش قدم "المقاومة بالفن" يبدو تعبيرًا صادقًا، حين نصله بحارة "خوش قدم" العتيقة التي احتضنت في حواريها وأزقتها الضاربة في التاريخ، من صاغوا وجدان الشعب المصري في فترات زمنية شهدت تحولات سياسية كبري. تحتل حارة "خوش قدم" التي تقع في قلب القاهرة المملوكية؛ جزءًا أصيلًا في صفحات التاريخ المصري القديم والمعاصر؛ فالحارة التي يصل عمرها ل 700 عام، كانت شاهدة علي الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية، منذ تأسيسها علي يد مجموعة من كبار التجار، مرورًا بتحولها إلي مكان يسكنه الحرفيون وأصحاب المهن المختلفة، إلي أن أصبحت قبلة المثقفين والفنانين، عبر الثنائي الشهير "شاعر العامية أحمد فؤاد نجم، والملحن والمغني الشيخ إمام عيسي". سكنا - نجم وإمام- الحارة العتيقة، وكانا بمثابة حركة مقاومة بالفن ضد النظام، وتحديدًا بعد نكسة يونيو 1967 ، إذ توهجت في هذه الفترة الأغنية السياسية التي صاغها "نجم" من أوجاع وآلام الشعب، وتغني بها الشيخ إمام ليصل صوته إلي شتي أنحاء العالم؛ حاملًا رسالة واضحة ضد كافة أشكال الظلم والاستبداد. "أخبار الأدب" قامت برحلة ميدانية للحارة التي احتضنت كتيبة من الفنانين والمبدعين الذين صاغوا وجدان الشعب المصري في فترات زمنية شهدت تحولات سياسية كبري. ظاهرة رفضت التدجين الدكتور عصمت النمر- أحد عشاق خوش قدم، والصديق المقرب للشيخ إمام- يري أن الحارة هي التي شكلت وجدان الثنائي "إمام ونجم"، إذ يقول: تقع "خوش قدم" في قلب القاهرة المملوكية التي مازالت تحتفظ بعماراتها الإسلامية القديمة، من المساجد والحواري المدقوقة بالطوب البازلتي الأسود، ولهذه الحواري سحرها ودورها في تشكيل وجدان ساكنيها حيث إن ضيق الأزقة فيها يقوي من روابط أهلها، وهم من البسطاء أصحاب الحرف القديمة وبائعي العطارة، والخياطين البلدي، وصناع الفضة، وأعتقد أن خوش قدم هي التي شكلت وجدان الثنائي "إمام ونجم" بما فيها من عبق التاريخ من الأنتيكة والمساجد القديمة، والمشربيات. ويضيف "النمر": عندما حط "نجم" رحاله في الحارة عام 63 ، التحم مع الشيخ إمام في ثنائي فني نادر، والتحمت الحارة بكل ما يقولونه حتي أن كل ألحان الشيخ إمام كان أهل الحارة البسطاء يرددونها وكأنهم جوقة كبيرة للشيخ ونجم. كان هذا الثنائي نبض الشارع المصري، حتي من قبل نكسة 67 التي غيرت مسارهما الفني، وكانت كلمات نجم وألحان إمام، مختلفة تمامًا عما يذاع في إعلام المؤسسة الحاكمة، إذ استطاع هذا الكيان الفني أن يعبر تعبيرًا صادقًا عن أوجاع الشعب وما يتعرض له من ظلم واستبداد. هذا الثنائي لم يكن قابلًا للتدجين؛ فعندما لفتت الظاهرة انتباه السلطة المصرية بعد عام 67 وبدأت تكون مصدرًا لإزعاجها، اقترح الكاتب محمد حسنين هيكل أن يتم احتواء هذا الثنائي داخل منظومة الدولة عبر الإذاعة المصرية، وذهب إليهما رجاء النقاش ليعرض عليهما تقديم الأغاني الخاصة بهما في الإذاعة، وذهبا بالفعل لكن المشروع فشل بعد تقديم حلقة أو حلقتين من البرنامج، بعد أن أدرك إمام ونجم أن الغرض من المشروع هو توظيف الظاهرة لصالح النظام الناصري. ويذكر"النمر" أن كل كوادر الحركة الطلابية والوطنية في فترة السبعينيات، كان لهم حضور كبير في جلسات الشيخ ونجم بالحارة، مشيرًا إلي أن العشرات من الطلبة والمثقفين، ومخرجي السينما العالمية مثل كوستا جافراس ويوسف شاهين وعلي بدرخان، كانوا يجتمعون في غرفة ضيقة علي سطح بناية متهالكة للاستمتاع بإبداع الحارة المصرية في أعلي تجلياتها الحقيقية. كما يضيف الرجل السبعيني أن هذا الثنائي الفني كانا بمثابة قاطرة؛ جرت معها أطيافاً من الإبداع الموازي، متمثلًا في إبداعات أبناء الحارة: الفنان التشكيلي محمد علي، والنحات الفطري محمود اللبان. اللبان ومنحوتاته المحطمة لم يعرف "اللبان" القراءة والكتابة، لكنه عبر عن أعمق وأرق معاني الحياة بمنحوتاته البريئة النقية، المسكونة بالقلق والخوف والشجن الأبدي، ولم يلتحق بمعاهد الفنون الجميلة أو غيرها من المدارس الفنية إلا أنه استطاع أن يصل إلي أعماق الفن بفطرته وبدائيته، فجاءت أعماله حرة منطلقة، لم يقيدها علم مكتسب، ولم تفسدها رواسب المدن الصناعية المزدحمة. في أزقة الحارة، التقينا بالعم "رمضان" نجل النحات محمود اللبان، وعندما أخبرناه عن رغبتنا في إجراء حوار معه عن والده، أحضر سلما خشبيا، وصعد عليه بخفه بالغة، ليأتي بتماثيل الفنان الراحل من السندرة. انتابنا الحزن حين شاهدناه يلملم أشلاء التماثيل المحطمة، و يزيح التراب الكثيف من فوق الوجوه التي برع والده في نحتها. بفخر ممزوج بحزن قال "العم رمضان": والدي كان شديد البساطة ولم يكن يعرف القراءة والكتابة، لكنه كان بارعاً في النحت، كنت أري الأجانب مبهورين بأعماله، وكانت أمامه فرص كثيرة للظهور والانتشار، إلا أنه ظل متمسكاً ب "خوش قدم" حتي وفاته. لم يهتم أبي بالمال رغم أنه كان فقيراً، لكن قضيته كانت "الإنسان". كان يعمل في صمت شديد، فانسابت أعماله من أعماق نقية شفافة لتعبر عن أصدق المعاني الإنسانية. ورث " العم رمضان" موهبة النحت إلا أنه عندما ينظر الي تماثيل والده المحطمة والتي لم يجد لها مكاناً في حجرته المهدمة، ينتابه الإحباط، ويحاول أن يلقي بموهبته وراء ظهره المحمل بأعباء المعيشة. المقاومة بالفن يجلس الرجل الستيني العم سيد عبدالعزيز في مدخل الحارة أمام مسجد الفكهاني، ويحكي لنا بفخر عن تاريخ "خوش قدم"، قائلًا: هذه الحارة لم يستطع نابليون دخولها عندما جاء بالحملة الفرنسية علي مصر، فاضطر للانسحاب أمام مقاومة أهلها. و"خوش قدم" اسم تركي يعني قدم السعد أو الخير، وهو اسم مملوك حكم مصر وأقام في هذا المكان منذ أكثر من 700 عام ومن هنا جاءت التسمية. تنتمي الحارة إلي حي الغورية الشهير، وهي مليئة بالآثار التي تعود إلي العصر المملوكي ومنها: مسجد الفكهاني الذي يمتد تاريخه إلي عمر الحارة، ومنزل جمال الدين الذهبي ذشيخ بندر التجار- ويعود تاريخه لأكثر من 400 عام. وهنا مقام سيدي يحيي، ومسجد سيدي أحمد الدرديري وكان أحد شيوخ الأزهر الشريف. يتبرك أهل الحارة بالشيخ الدرديري ويعتبرونه وليًا من أولياء الله الصالحين، إذ كان قريبا من البسطاء والفقراء، وكانت له حماره يطوف بها في حي الغورية والأحياء المجاورة لقضاء احتياجات الناس ومن هنا جاءت عبارة : اركب الحماره واقضي العبارة، وأصبحت هذه الجملة، دعاء يتوسل به أهل الحارة أمام مقام الشيخ. الحارة مفعمة بعبق التاريخ والأصالة المصرية ولا تزال تحتفظ بتقاليد الحارات القديمة رغم تغيرات الزمن. يتباهي العم سيد حين يتحدث عن دور حارته في احتضان المبدعين، إذ يقول: إن "خوش قدم" لها خصوصيتها الثقافية التي تميزها عن غيرها من الحارات الأخري، إذ احتضنت عمالقة الفن المصري ومنهم "الشيخ زكريا أحمد، سيد مكاوي، الشيخ إمام، والشاعر أحمد فؤاد نجم، والفنان التشكيلي التلقائي محمد علي، والنحات الفطري محمود اللبان"، وكان لهذه الكتيبة من المبدعين تأثير علي أهل الحارة، الذين صاروا متذوقين للفن والإبداع، لذلك فخوش قدم لم تتأثر بالأفكار الدينية المتشددة التي باتت تنشر في المجتمع المصري التطرف، بل يمكن اعتبارها مجتمع كوزموبوليتان صغيرا؛ لديه قدرة هائلة علي استيعاب الآخر مهما كان مختلفًا. التطور الاجتماعي لأهل الحارة تتعارض الرواية التاريخية التي سردها العم سيد عبدالعزيز عن تاريخ الحارة مع رواية أخري ذكرها لنا الباحث التاريخي والروائي محمود عبدالغني، إذ يقول: إن حارة خوش قدم، بُنيت في أكثر من عصر، مثل أغلب الحارات المصرية القديمة، سكن فيها مجموعة من كبار التجار، الذين أطلقوا عليها "خوش قدم" أي قدم الخير، حتي يستبشروا بها وتكون فاتحة خير عليهم. وبعد فترة من الزمن هجر التجار الكبار الحارة وحل محلهم صغار الحرفيين والصناع وأصحاب المهن المختلفة، وفي عهد محمد علي بدأ المكان يسكنه أبناء الطبقة المتوسطة، ومع ظهور المدنية الجديدة في عهد الخديوي إسماعيل، هجرت الطبقة البرجوازية المكان ليستقر فيه عامة الشعب. اللقاء الأول بين إمام ونجم أصبح ل "خوش قدم" حضور مغاير بعد أن التقي الشيخ إمام عيسي، بشاعر العامية أحمد فؤاد نجم في عام 1963 . تفاصيل هذا اللقاء يحكيها الفنان التشكيلي الدكتور جمال الموجي، أحد أبناء الحارة، قائلًا: الشيخ إمام كان يعيش في الحارة ويؤذن في مسجد الفكهاني، وكان أحد تلامذة الشيخ زكريا أحمد الذي كان أول من اكتشف موهبته في الغناء والتلحين، وكان شقيقي "سعد الموجي" قد تعرف علي الشاعر أحمد فؤاد نجم، وأعجب بأشعاره، ورأي أن ما يكتبه نجم، من الممكن أن يغنيه الشيخ إمام، فجاء بنجم إلي الحارة، والتقي بالشيخ إمام، ليشكلا ظاهرة قوية، استقبلها أهل الحارة بحب شديد، ليصبح هذا الثنائي عنوان مرحلة مهمة ومؤثرة في تاريخ الشعب المصري. وفي كتابه تحت الطبع ( في وداع أماكن- دفتر الدفاتر)، يحكي الكاتب والروائي الكبير جمال الغيطاني عن ذكرياته مع خوش قدم، قائلًا: في السنة الرابعة والستين اقترح عليّ عبد الفتاح الجمل أن نذهب معا إلي خوش قدم لنستمع إلي الشيخ إمام قال إنه، »ما حصلش« هكذا كان مفتتح تعرفي بخوش قدم، أي الشيخ إمام مدخلي إلي السكة وأهل الحارة، أصغيت إلي صوته القوي، الرخيم، المتصل، المؤدي، أول ما سمعت منه اضيعت مستقبل حياتيب. كان الشيخ مشهورًا في ذلك الوقت بأغانيه، النقدية، الجريئة والتي بدأها بعد لقائه بأحمد فؤاد نجم الذي ترك المواضع القاهرية الأخري ولزم خوش قدم، صار من أهلها وأحبابها وارتبط بها، أصبح جزءًا منها، يسكن البيت الذي لابد من اجتياز ممر يجبر علي الانحناء يؤدي إلي سلم ضيق، لابد من الانتباه جيدًا، وإلا اصطدم الرأس بالسقف المنخفض في هذه الغرفة. بعد يونيو عام سبعة وستين تكون جيل ورفرفت روح، وكان لقاء نجم بإمام حدثًا عجيبًا دبرته الأقدار. ذاع أمر نجم والشيخ صار رمزًا علي حقبة ودلالة علي روح جديدة رغم الهزيمة، حاولت مؤسسات النظام اللف من هنا والمجيء من هناك، حدث أن دبر القوم في المباحث حملة، مازلت أذكر عنوانًا عريضًا في صفحة حوادث "القبض علي إمام ونجم لتعاطي المخدرات"، ثم تطور الأمر في عنوان اليوم التالي إلي التجارة، وصورة لهما بجوار تل صغير من طرب الحشيش لكن ما لم يُنشر أن الشيخ تحسس الأكياس وعلق ساخرا: حلم ده ولا علم!