كتلميذ نجيب للاستاذ فاروق عبد القادر يأتي جرجس شكري في هذا القرن ليجمع مقالاته النقدية كحبات في خيط ليصدر لنا سياقا جديدا ورصدا دقيقا للمسرح المصري في أربع سنوات هي أهم السنوات في التاريخ المصري الحديث: سنوات الثورة. مما جعل هذه المقالات ليست مجرد (أرشفة) لعروض مرت ولكنها تصوير لحال المسرح، وتقييم لادائه، واستخلاص لظواهر، و اصدار لاحكام يختلط فيها المشهد الفني بالسياسي وترصد تفاعل المسرح بالظرف السياسي. يقول الناقد جرجس شكري في كتابه "الخروج بملابس المسرح" والصادر حديثا عن الهيئة العامة للكتاب: منذ أربعة عقود والمجتمع في فوضي مخيفة أصابت كل مفرداته. بداية من فساد العمارة وانهيار المسرح والسينما والموسيقي، وتراجع الدور الثقافي وصولا إلي انحطاط الازياء. وأحد مظاهر هذه الفوضي كان النقد المسرحي. فمن المعروف أن (النقد) ينقسم إلي حقلين أساسيين: أولهما النقد النظري وهوما يهتم بالنظريات والمناهج والمدارس النقدية، وثانيهما وهوالنقد التطبيقي وهوما يهتم بتقييم الاعمال الابداعية اهتداء بتلك النظريات والمدارس. والنوع الثاني ينقسم أيضا إلي: نقد أكاديمي يلتزم بتلك النظريات ويمتلئ بالمصطلحات والثاني هونقد صحفي أقل التزاما بالنظريات وأكثر سهولة في الصياغة حتي يستطيع القارئ العادي استيعابه. علي أن يكون سريعا ومكثفا لضيق المساحة المتاحة للناقد الصحفي، وفي الغالب تمتاز الصحف الأجنبية الكبري بصفحاتها النقدية وبنجوم في النقد تصبح مقالاتهم مرشدا للقارئ ومعينا له علي الفهم وأيضا علي الاختيار وهي تنفصل عن صفحات (الاخبار والتحقيقات الفنية) ويري البعض وأنا منهم - أن النقد المسرحي في مصر يمر بمحنة، فمنذ ظهور الصحف الحزبية ثم من بعدها الصحف المستقلة فإن النقد المسرحي قد تم امتهانه، فهذه الصحف أفردت صفحات للفن وبدلا من أن تهتم بالفنون الجادة وتقدم نقدا موضوعيا للأعمال الإبداعية اختلط فيها النقد بالخبر بالدعاية، فقد تولي كتابة بعض تلك الصفحات أشخاص غير مؤهلين ومعظمهم ليسوا أعضاء في نقابة الصحفيين فانتشر النقد الانطباعي وتدخلت المصالح والاغراض في الكتابة الصحفية الفنية، بل باتت بعض هذه الصفحات بابا للابتزاز، بعد أن هبطت الموهبة علي أصحاب الصفحات هؤلاء ليصبحوا فجأة كتابا ومخرجين، وأخذوا يتربصون بكل مسئول كي يلقي إليهم (بسبوبة) يتقي بها شرهم وإلا كالوا له الضربات واتهموه بكل التهم. وزاد الطين بلة أن مجموعة من كتاب الاعمدة في تلك الصحف ظنوا أنفسهم مفكرين، فسمحوا لأنفسهم أن يكتبوا في كل شيء من أول السياسة إلي الطبيخ مرورا بالفن. واعتبروا أن ما يكتبونه أيضا (نقدا) واختلط الحابل بالنابل وصار النقد المسرحي في أغلبه أن تحكي قصة المسرحية ثم تصدر أحكاما جزافية عن من أجاد ومن أساء دون تحليل عميق أو قراءة مشهدية للعمل وكيف ومن يكتب لا يمتلك أدوات الناقد. لم ينج من هذا إلا من رحم ربي، هؤلاء صاروا وسط هذا الركام نقاطا مضيئة، إنهم نقاد حافظوا علي " شرف النقد " واحترموا كلماتهم وحافظوا علي موضوعيتهم مما زادهم قيمة وارتفعوا قامة عن الباقين. واعتاد بعض هؤلاء النقاد أن يجمعوا مقالاتهم النقدية التي كتبوها عن عروض مسرحية ويصدروها في كتب، وبرغم أن بعض هذه الكتب تضم مقالات تم جمعها بشكل عشوائي، فلا هي تنتمي إلي فترة زمنية محددة، أو تحاول تطوير منهج نقدي جديد إلا أنها تفيد المهتم بفن المسرح في (الحفظ والتأريخ) فمسرحنا المصري يعاني من النسيان وضعف الذاكرة. إلا أن البعض الآخر من النقاد (ومنهم الأستاذين فؤاد دوارة وفاروق عبد القادر) عندما جمعوا مقالاتهم وضعوها في سياق محدد، فالأول كان يجمع مقالاته عن الموسم المسرحي الواحد في كتاب يصّدره بمقال تحليلي للموسم كله محاولا استخلاص سمات عامة لهذا الموسم وأهم اتجاهاته المسرحية، أما أستاذنا فاروق عبد القادر فقد كان أشمل نظرا وأعمق تحليلا، فلقد جمع مقالاته في فترات زمنية محددة تمتاز بتغيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية حادة ليخلص منها إلي نتائج عامة وتوصيف دقيق لحال المسرح المصري وبيان مدي عافيته كما فعل في مرحلة مفصلية هامة هي منتصف الستينات من القرن الماضي التي شهدت ازدهار وسقوط المشروع الناصري ليصدر واحدا من اهم كتبه (ازدهار وسقوط المسرح المصري) وكتلميذ نجيب للاستاذ فاروق عبد القادر يأتي جرجس شكري في هذا القرن ليجمع مقالاته النقدية كحبات في خيط ليصدر لنا سياقا جديدا ورصدا دقيقا للمسرح المصري في أربع سنوات هي أهم السنوات في التاريخ المصري الحديث: سنوات الثورة. مما جعل هذه المقالات ليست مجرد (أرشفة) لعروض مرت ولكنها تصوير لحال المسرح، وتقييم لادائه، واستخلاص لظواهر، و اصدار لاحكام يختلط فيها المشهد الفني بالسياسي وترصد تفاعل المسرح بالظرف السياسي. والحقيقة أن أهمية الكتاب تنبع من عوامل عدة لعل أولها " المصداقية النقدية " لجرجس شكري فهورجل موضوعي، يمتلك أدواته، ويحسن صياغاته، ويبتعد عن المجاملات، وليس له (سبوبات) إلي جانب أنه متابع جيد ودؤوب للغالبية العظمي من العروض المسرحية، لا يفرق بين عرض محترف أو عرض للهواة اوالمستقلين وحتي عروض الثقافة الجماهيرية، وبالتالي فرصده دقيق، ويكفي أنه حافظ طوال سنوات الثورة الاربع علي المساحة المخصصة للنقد في مجلة الاذاعة والتليفزيون في حين توقفت صفحات أخري كثيرة وافسحت مجالا للكتابات والاخبار السياسية وكأن الثقافة بكل وسائطها من مسرح وسينما.. الخ أمر ثانوي. كما أن الموضوع الذي اختار أن يجمع تحت عنوانه مقالاته موضوع جدير بالاهتمام ولافت للنظر وغير مسبوق. فهومن خلال الكتاب يحاول إلاجابة عن سؤال هام عن كيف سيكون المسرح في سنوات الثورة في شكله الدرامي وماذا سيقدم للجمهور؟ وهل كان هناك بالفعل مسرح للثورة وماذا قدم؟ وهل من المنطقي أن يكون للثورة مسرح وادب وشعر وفنون قبل أن تنتهي ؟ وقبل أن ينغمس في الإجابة يبدأ جرجس كتابه بمقال يرصد فيه الواقع السياسي قبل الثورة وأثناءها، وهنا يتجلي جرجس شكري الشاعر وليس الناقد، فعلي مدي أربع صفحات ونصف يصف لنا الحال فيما يشبه قصيدة طويلة من أجمل ما قرأت شخصيا - تمتلئ بالصور الجمالية وكأنه يكتب قصيدة نثرية عن شعب لا يعرف الموت ولا الحياة... تعلم محبة الفقر من أجل الاستقرار ورضي بالذل من أجل الامان، ثم انفجر المصريون في ثمانية عشر يوما وخرجوا وسلاحهم الوحيد هو الهتاف.. وبعد عامين ونصف كرروا نفس المشهد " ولكن يبدوأنه علي الشعوب أن تشرب قدرا من الدماء مع قهوة الصباح حتي تصل إلي الحرية " وفي خلال فصله إلأول يقارن بين ثورة يناير 2011 وثورة يوليو1952 والمنتج المسرحي لكل منهما ، وفي رأيه أن ثورة يوليو طرحت أسئلة علي ضمائر المسرحيين أولها: هل المسرح الذي يتم تقديمه مسرح شعبي ام مسرح للمثقفين ؟ وسؤال آخر حول هوية المسرح المصري وهل هووثيق الصلة بتراث الوطن ام مستورد ؟ وكانت الإجابات في انتاج عدد كبير من النصوص ذات الطابع المصري ولكن بداية من بعد ثلاث سنوات من الثورة. أما المسرح في سنوات ثورة يناير فجاء الناتج بعد بضعة أسابيع وبرغم تنوعه إلا أن ملامحا عامة تجمع بين عروضه: عروض مباشرة تكاد تكون تسجيلية تنتمي إلي المسرح الوثائقي حاولت تسجيل أيام الميدان في مجموعة من المشاهد والحكايات الانسانية عروض اعتمدت علي تقنية الحكي، قدمت حكايات شخصية وعن ايام الثورة واحيأنا حكايات عامة واغلب هذه العروض قدمتها الفرق المستقلة الهجاء السياسي " كباريه سياسي " واشتركت فيه كل أطياف المسرح الحكومي والمستقل والتجاري عروض إشارات من بعيد إلي الثورة وهي عروض قليلة عروض لم تلتفت إلي إلاحداث وبداية من الفصل الثاني، وضع الكاتب المقالات التي كتبها حول العروض المسرحية في كل عام من الاعوام الاربعة في فصل، يسبق مقالات كل عام مقدمة وتنتهي بخاتمة بالاضافة إلي مقدمة عامة حول ما يعرف بمسرح الثورة وفي نهاية الكتاب خاتمة تحاول قراءة مصير هذه الظاهرة. ولن نحاول بالطبع أن نتابع كل ماجاء بالكتاب فمجهود سنوات أربع من المشاهدة والكتابة وكثرة الأسئلة التي يطرحها الكتاب، وفيض الخلاصات التي يصل اليها، لا يمكن تلخيصه أو عرضه بسهولة، وإلا كنا كمن يضع عصفورا جميلا علي مائدة التشريح ليعرف سر جماله !! كما قال أستاذنا فاروق عبد القادر. وفي نهاية الكتاب يضع الكاتب أمامنا رأيه: أن الازمة الطاحنة التي عاني منها المسرح المصري علي مدي اكثر من اربعة عقود قبل الثورة كأنت السبب الرئيسي في ضعف مستوي العروض التي تناولت حدث الثورة دراميا، لأن ثورة الخامس والعشرين من يناير كانت صدمة ثقافية للمسرحيين، حيث اكتشف هؤلاء عجزهم وتأخرهم عن فهم الواقع وصياغته مسرحيا، بعد أن عاشوا طويلا في مسرح زائف كاذب، وفجأة حين اصبحوا امام افعال حقيقية شعروا بالعجز وراحوا يقلدون الواقع كتلميذ بليد يحفظ دروسه علي عجل دون أن يفهمها. وهكذا ألقي البعض منهم بمعطف النظام البائد، واسرع إلي السوق لشراء ملابس الثورة فخرج المسرحيون في ملابس الثورة في حين أن جمهور المشاهدين رأي من خلال الميديا في احداث الثورة المنقولة اليه في بث مباشر مسرحا مدهشا وحقيقيا جعله يتراجع عن مشاهدة المسرح. حتي أن الكاتب - في لمحة ذكية - يعقد مقارنة بين الدراما المسرحية علي خشبة المسرح وإلافعال والمشاهد الدرامية التي تحدث في الشارع وعلي الساحة السياسية، مثل قراءته المشهدية لوقائع محاكمة الرئيس المعزول وقراءته للدلالات وراء ظهوره علي سرير علي المرض. وهكذا لم تصل الثورة إلي المسرح، ولم يكن في مجمله مسرحا للثورة بل وقف عند حدود استنساخها سواء بصدق اوبصورة مشوهة كاذبة بل لم نشاهد اونلمس افكارا ثورية او رؤي فلسفية عميقة تقرأ اللحظة الراهنة وتستشرف المستقبل. لم نلمس جماليات جديدة في مفردات العرض المسرحي بتأثير الاحداث الكبري التي مر بها الوطن، ليأتي النتاج الطبيعي لأربع سنوات من العروض المتباينة فنيا (مع تحفظنا علي التعميم) بعيدا عن مسرح الثورة او دراما الثورة او حتي توثيق وقائع الثورة. وسواء اتفقنا مع الكاتب فيما ذهب اليه ام اختلفنا، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن جرجس شكري في كتابه يثبت أن النقد صناعة إبداعية وشكل ادبي وأن النقد من الممكن أن يكون ليس فقط بمعني (الحكم) كما هوالمعني إلأول من معاني كلمة (كريتوس) اليونانية ولكنه - كما يقول الناقد رونان ماكدولاند - نافذة مفتوحة علي السياق الاجتماعي أو السياسي.