بإمكانك اقتناء كل الروايات التي رُشحت علي قائمة التصفية النهائية لجائزة بايليز، أثناء عطلة هذا العام، وبذلك تتغلب علي معضلة القراءة الصيفية بضربة واحدة. إنها مجموعة من الروايات الممتعة التي ستأخذك في جولة تبدأ من الضاحية الجنوبية لمدينة لندن أثناء عشرينيات القرن الماضي، مرورا بتركيا في صيف عام 1914؛ من الحياة الداخلية المُتخيلة لنحل العسل إلي هواء الصيف الثقيل لأثينا، إلي أمريكا في زمن الكساد العظيم. روايات بديعة في مجملها، لكن واحدة فقط أبكتني، بدءًا من الصفحة الثالثة عشرة، وكل ما تلاها، وطوال طريقي من إيكس أون بروفانس إلي سانت بانكراس بالقطار، إلي أن وصلت إلي نهاية الرواية ونهاية الرحلة. كانت تلك المرّة الثانية التي أقرأ فيها تلك الرواية. في المرّة الأولي كان استيعابي للرواية مختلفًا، ذلك أن رواية "أن تكون الاثنين" ل آلي سميث والحاصلة علي جائزة بايليز- صدرت في نسختين مختلفتين، كما أنها تتضمن حكايتين. تدور أحداث الأولي في القرن الخامس عشر، وتروي سيرة رسام يعيش بمدينة فيرارا الإيطالية. والثانية تدور حول فتاة مراهقة تعيش بمدينة كامبريدج البريطانية في القرن الحادي والعشرين. طُبعت الرواية بحيث يبدأ نصف الكتاب بقصة الرسام، بينما يبدأ النصف الثاني بقصة الفتاة المراهقة، وما من دليل يرشدك أي من النسختين اقتنيت قبل أن تفتحها بالفعل. لقد قرأت الرواية بنسختيها لذلك، وهذا ما أوصيكم به أيضًا. إن إعادة قراءة الرواية في "نسختها المعكوسة" تشبه التمعن في صورة قديمة مألوفة، لكن بعقل وإدراك شخص آخر، أو رؤية مفاجئة ومستحيلة لنص سبق محوه. وهي الحالة التي تلعب عليها الرواية: إنها حول نظرتنا للفن، وكيف نصنعه؛ وحول انتقال أو زوال الفن والخبرة عبر الزمن والذاكرة. كذلك، وكما يوحي العنوان، فإنها أيضًا تدور حول التعايش بين الأضداد، أو المتناقضين، وأوضحهم مثالًا الذكور والإناث. تتكيء الرواية بعمق علي "الشكل" وربما لذلك تبدو صعبة إلي حد ما، لكن مضمونها مؤثر للغاية. لا تناقض، بالطبع، أو تضاد بين التجريب الشكلي والعمق الوجداني أو العاطفي، لكنه اعتقاد سائد؛ علي أي حال، فإن رواية "أن تكون الاثنين" تحقق هذا التوازن بين الشكل والمضمون. حين التقيناها في الفندق الذي تقيم فيه، في صبيحة إعلان فوزها، أشارت سميث إلي وجود بعض القواسم المشتركة بين روايتها والرواية الفائزة بالجائزة العام الماضي، وهي رواية "الفتاة شيء نصف مكتمل" للروائية الأيرلندية آمير ماكبرايد. وهذا لأن الروايتين سبق وأن حازا علي جائزة جولدسميث. استحدثت هذه الجائزة لأول مرّة في عام 2013، للاحتفاء بالتجديد في بنية الرواية. تقول سميث: "من المثير بالنسبة لي أنّ تكون الروايتان الفائزتان بتلك الجائزة التجريبية لاثنين من النساء، وأود أن أشير إلي أن البحث الذي قام به أخيرا الكاتب نيكولا جريفيث - والذي استشهدت به رئيسة لجنة التحكيم، شامي تشاكرابارتي- يبيّن أنّ أغلب الروايات الحاصدة للجوائز هي روايات كتبها رجال، عن الرجال. ومن هنا، ربما، تظهر أهمية جائزة بايليز التصحيحية فهي تعترف بالنساء، كما أن لجنة التحكيم من النساء أيضًا. تتابع سميث: "لطالما كنا ضد التقاليد، التي كانت دائمًا في صالح الذكور". "وهذا هو موضوع الرواية كيف يمكن أن نحارب التقاليد ونقاومها، وكيف نصنع الفن رغم التحديات." تحكي رواية "أن تكون الاثنين" قصة فتاة تعيش في القرن الخامس عشر تضطر للحياة كصبي ثم كرجل كي تتمكن من ممارسة الرسم؛ وقصة فتاة في الخامسة عشر من عمرها تتساءل حول من تكون ومن يمكن أن تكون في العصر الحديث. تستند شخصية بطل روايتها في القرن الخامس عشر علي شخصية حقيقية، هو الرسام فرانشيسكو ديل كوسا الذي لا نعرف إلا القليل عن سيرته الذاتية: تاريخ تقريبي لميلاده ووفاته، أسرة ربما كانت تعمل في مجال صناعة الطوب أو الهندسة المعمارية، وخطاب له يطلب فيه من رئيسه مزيدا من الأموال نظير عمله في بعض الجداريات بقصر سكيفانويا في مسقط رأسه في فيرارا، بالقرب من بولونيا. لم تُكتشف الجداريات نفسها، التي كانت مختفية تحت طبقة من الطلاء الجيري، إلا قبل وقتٍ قصير من العثور علي الرسالة، وحتي ذلك الوقت كانت تنسب لأعمال الرسام كوزيمو تورا. عرفت سميث عن ديل كوسا لأول مرّة حين شاهدت بالصدفة صورة لإحدي الجداريات، في عدد أبريل 2013 من مجلة فريز. وكانت الجدارية تصوّر رجلا رثّ الثياب، أسمر، قوي البنية، محتقن العينين، يمسك حبلا معقودا حول خصره. تقول سميث: "كانت صورة جامحة. تعكس فكرة الأضداد بقوة. رجل رثٌ وغني في ذات الوقت، متهالك للغاية ومتكامل للغاية؛ رجلٌ يبدو عليه الاستعباد إلي حد ما، ومع ذلك مسيطر تمامًا". تطلعت صديقتها وزميلة الدراسة في كمبريدج، هيلين ماكدونالد، صاحبة رواية "الهاء لهووك"، في الصورة وأخبرت سميث بأن الحبل الملتف حول خصره خاص بمربي الصقور "ما يعني أنه كان قد أطلق لتوه الصقر حرًا؛ لذا فإنها لوحة عن الحريّة". وكانت الصورة هي السبب الذي دفع سميث للبحث عن الجداريات نفسها، كما ألهمتها، فيما بعد، بابتكار شخصية فرانشيسكو كما تخيلتها في الرواية. اقتبست سميث عن أوسكار وايلد قوله "نحن مدينون للتاريخ بواجب واحد، وهو إعادة كتابته"، وأضافت: "كان حقًا في وضع يمكنه من هذا القول، كان مؤمنا بضرورة إعادة كتابة التاريخ، لأن الروايات المهيمنة تاريخيًا هي الروايات المقبولة اجتماعيًا". ولكي تتعرف سميث بشكل أفضل علي عادات وسلوك أهل فيرارا، قرأت كل أعمال الروائي جورجيو باساني. كذلك قرأت عن صناعة الطوب وعن اهتمام عائلة آستي ورعايتها للفنون، كذلك أطروحات ليون باتيستا ألبرتي وتشينينو تشننيني حول اللوحة. وقرأت أيضًا محاضرة المؤرخ الفني ابي واربورج عن فن الجداريات: "كان يعي تمامًا أن اللحظة التي يلتقي فيها الأضداد والمتناقضات هي أكثر لحظات العقل والروح والفن خصوبة ونماء." لقد أخذت سميث، في الواقع، فكرة الجدارية كإطار عام لروايتها؛ حيث ظل المفهوم الأساسي للجدارية كامنًا في التفاصيل، غير مرئي لكنه موجود. تقول سميث:" بالنسبة لي، هذا ما يفعله السرد طوال الوقت، وبشكل جميل. أثناء القراءة، ما يأسرنا حقًا هو ما يفهم من بين السطور: ما لا يقال صراحة. والحقيقة أن ما يفهم ضمنيًا غاية في الأهمية.