تعددت الآراء بعد إصدار قانون انتخابات مجلس النواب وقانون مباشرة الحقوق السياسية بعد خضوعهما للرقابة السابقة من قبل المحكمة الدستورية العليا، وإرسال تقريرها إلى مجلس الشورى، وعدم عرضه لهذه التعديلات مرة أخرى على المحكمة قبل إصدارهما، وثار الجدل حول مدى التزام المجلس بتقرير المحكمة، ومدى إمكانية خضوع هذه النصوص للرقابة الدستورية اللاحقة مرة أخرى، ومن ثم مدى إمكانية الحكم بعدم دستورية نص أو أكثر من هذه النصوص، وما قد يترتب على ذلك من إمكانية حل مجلس النواب القادم من عدمه بناء على هذه الطعون حال تحققها. والناظر إلى نص المادة 177 من الدستور يجد أنها تنص على أن: "يعرض رئيس الجمهورية أو مجلس النواب مشروعات القوانين المنظمة لمباشرة الحقوق السياسية وللانتخابات الرئاسية والتشريعية والمحلية على المحكمة الدستورية العليا قبل إصدارها لتقرير مدى مطابقتها للدستور وتصدر قرارها فى هذا الشأن خلال خمسة وأربعين يومًا من تاريخ عرض الأمر عليها وإلا عُد عدم إصدارها للقرار إجازة للنصوص المقترحة. فإذا قررت المحكمة عدم مطابقة نص أو أكثر لأحكام الدستور وجب إعمال مقتضى قرارها. ولا تخضع القوانين المشار إليها فى الفقرة الأولى للرقابة اللاحقة المنصوص عليها فى المادة 175 من الدستور". ويلاحظ على هذا النص ما يلى: 1- أنه نص صراحة على أن الرقابة السابقة للمحكمة الدستورية على مشاريع القوانين الموضحة بالنص يمنع الرقابة اللاحقة عليها. 2- أن النص الدستورى أوجب على سلطة التشريع الالتزام بتقرير المحكمة الدستورية وإزالة ما ارتأته من مخالفات فى النصوص محل الرقابة، أى أن سلطة التشريع ملزمة – وفقًا للنص الدستورى – بالالتزام بملاحظات المحكمة التزامًا تامًا، من خلال إعمال مقتضاها. 3- أن نص المادة لم يلزم السلطة القائمة بالتشريع أن تعيد نصوص مشروع القانون إلى المحكمة الدستورية مرة أخرى بعد إجراء التعديلات الواردة بتقريرها. وإن كان ما سبق، إلا أن صياغة النص بقوله " فإذا قررت المحكمة عدم مطابقة نص أو أكثر لأحكام الدستور وجب إعمال مقتضى قرارها " دون وضع آلية للتأكد من إعمال هذا المقتضى، فتحت المجال للجدل القانونى من حيث وجوب عرض النصوص بعد إجراء التعديلات عليها مرة أخرى على المحكمة من عدمه، وإن كانت الملاءمة التشريعية والقضائية أيضًا كانت تقتضى إعادة عرض النصوص مرة أخرى على المحكمة – حتى وإن لم يكن هناك إلزام - تحقيقًا للغاية التى تغياها المشرع من تقرير الرقابة السابقة على هذه القوانين، واستنفاذًا للولاية الحقيقية على النصوص من قبل المحكمة الدستورية، وإعمالاً لمفهوم الرقابة السابقة بالمفهوم الكامل الذى يحقق مراده والعلة من تقريره. وبإسقاط ما سبق على الواقعة محل الحديث وهى رقابة المحكمة الدستورية على نصوص قانون انتخاب مجلس النواب ونصوص قانون مباشرة الحقوق السياسية التى تم إصدارها، يمكن القول إن مجلس الشورى كان أمامه مسلك من اثنين للحفاظ على خلو هذه النصوص من أية شبهة لمخالفة الدستور، وفى ذات الوقت غلق الطريق أمام أى اجتهادات قانونية أو قضائية قد تعصف باستقرار مجلس النواب القادم، وهذان المسلكان هما: 1- إعمال مقتضى تقرير المحكمة وملاحظتها، بما مؤداه أن يقوم المجلس بتعديل النصوص محل المخالفة الدستورية وفقًا لما ارتأته المحكمة دون زيادة أو نقصان، نصًا وروحاً معًا، وبالتالى لا تكون هناك ضرورة بالفعل لإعادة عرض المشروع بعد تعديله على المحكمة مرة أخرى، من منطلق أن المجلس التزم التزامًا كاملاً بالنصوص التى سبق وأن خضعت لرقابة المحكمة بذات عبارتها تقريبًا، حتى وإن ظل هناك اختلاف فى وجهات النظر فى ضرورة هذا العرض من عدمه، إلا أنه فى كل الأحول سيكون من الصعب القضاء بعدم دستورية أى نص من هذه النصوص، طالما أنها هى هى ذات النصوص التى سبق وأن خضعت لرقابة المحكمة بالفعل، مع ملاحظة أن إلزام المشرع بتبنى ذات صياغات المحكمة التى وردت فى تقريرها قد يكون منتقدًا أيضًا من حيث إن المحكمة هنا تكاد تكون هى التى تمارس سلطة التشريع والصياغة، وتحل نفسها محل المشرع. 2- أما فى حال قيام مجلس الشورى بإجراء أية تعديلات إضافة أو حذفًا، حتى لو كانت هذه التعديلات تتمثل فى إعادة صياغة النص مرة أخرى، حتى وإن لم تنطوى الصياغة الجديدة على مخالفات دستورية، إلا أنه يعد – فى تقديرى – نصًا جديدًا – لم يخضع لرقابة المحكمة، حيث إن صياغة النص بإضافة حرف أو حذفه منه، قد يترتب عليه ولو بدون قصد وقوعه فى حمأة عدم الدستورية، ومن ثم فى هذه الحالة يجب – فى تقديرى – عرض هذه النصوص على المحكمة مرة أخرى لبسط رقابتها عليها، والتأكد من خلوها من أية مخالفات دستورية، وبالتالى يتحقق المفهوم الصحيح لفكرة الرقابة السابقة، أما القول بغير ذلك فهو تفريغ لفكرة الرقابة السابقة من مضمونها. وحيث إن الواقع يقول إن مجلس الشورى بعد مناقشته لتقرير المحكمة الدستورية قد قام بتعديل صياغة بعض النصوص، وتعديل بعض الأحكام التى كانت محل اعتراض المحكمة، محاولاً الخروج من المخالفات الدستورية وإعمال مقتضى تقريرها، خاصة فيما يتعلق بالنصوص المتعلقة بتصويت المصريين بالخارج، وتقسيم الدوائر الانتخابية، والاستثناء من التجنيد كشرط من شروط الترشح لعضوية البرلمان – مع التأكيد على أن الرأى الذى تبنته المحكمة الدستورية فى شأن هذا النص وغيره من بعض النصوص الأخرى هو رأى محل نظر لمجافاته للظروف السياسية للمجتمع، ولتعارضه مع الأسباب والمبادئ التى قامت من أجلها ثورة يناير، والتى وضع الدستور الجديد فى إطارها، ناهيك عن مخالفة بعض ما ارتأته لما هو ثابت بصورة قطعية فى مضابط الأعمال التحضيرية للدستور – ولكن على كلٍ، فهذا هو ما ارتأته المحكمة التى يتمتع رأيها بالحجية المطلقة والإلزام التام، حتى وإن كان محل نظر، إلا أنه رأى نهائى ملزم لكافة سلطات الدولة وللكافَّة. وحيث إن المجلس بعد إجراء هذه التعديلات لم يقم بعرضها على المحكمة مرة أخرى، وقام برفع مشروع القانون لرئيس الجمهورية لإصداره وهو ما حدث بالفعل، بعدما حدث ذلك، أعتقد أن هذا المسلك لمجلس الشورى قد جانبه الصواب، أو أنه أخطأ تقدير مفهوم الرقابة السابقة ومتطلباته، ومن ثم قد تتعرض هذه النصوص لجدل طويل حول إمكانية خضوعها للرقابة اللاحقة من قبل المحكمة الدستورية، حيث إننا سنكون أمام مشكلتين حقيقيتن هما: 1- الإبقاء على هذه النصوص دون خضوعها لرقابة المحكمة الدستورية إعمالاً لظاهر نص المادة 177 والذى يقضى بأن هذه القوانين لا تخضع للرقابة الدستورية اللاحقة، ويترتب على ذلك عملاً تفريغ لفكرة الرقابة السابقة من مضمونها، بل إفلات بعض النصوص من الرقابة الدستورية، سواء السابقة أو الاحقة منها على السواء، خاصة هذه النصوص التى تقوم السلطة التشريعية بإدخال تعديلات عليها ثم إصدارها مباشرة، وهى تعلم أنها محصنة من الرقابة اللاحقة، فى الوقت الذى لم تخضع فيه للرقابة السابقة بمفهومها الكامل. 2- أو إعمال الغاية من التشريع وترك ظاهر نص المادة 177، ومن ثم إخضاع هذه القوانين للرقابة اللاحقة للتأكد من خلوها من أية مخالفات دستورية، وفى كلتا الحالتين سيصبح الأمر محل جدل واجتهاد قانونى وقضائى غير مأمون العواقب. أى أن خلاصة ما سبق أن هذا المسلك الذى سلكه مجلس الشورى قد يترتب عليه عدم بقاء مجلس النواب القادم طويلاً، بل قد يؤدى إلى الطعن عليه قبل تشكيله إن تم الطعن أثناء الإجراءت السابقة على الانتخابات، ومن ثم الدخول فى هذا الجدل حول إمكانية الخضوع للرقابة اللاحقة من عدمه، وما قد يترتب على ذلك من اجتهادات قد تؤدى إلى زعزعة استقرار السلطة التشريعية مرة أخرى من خلال حل هذا المجلس. ويبقى السؤال ما الحل للخروج من هذا الجدل، والابتعاد عن تلك الاجتهادات المستقبلية وما يمكن أن يترتب عليها من آثار؟ الحل -فى تقديرى- يتمثل فى طريق وحيد مؤداه أن يقوم مجلس الشورى بتعديل هذين القانونيْن مرة أخرى – قانون انتخابات مجلس النواب وقانون مباشرة الحقوق السياسية – ثم عرض مشروع القانونيْن من جديد على المحكمة الدستورية للتأكد من خلوهما من أية مخالفة دستورية، وبعد استنفاذ المحكمة ولايتها على هذه النصوص يتم إصدارها من جديد مرة أخرى. ورغم ما يكتنف هذا الحل من صعوبات، خاصة ما يتعلق منها بضيق الوقت الذى يفصلنا عن موعد الانتخابات، إلا أنه هو الحل الأمثل، بل هو الحل الأخف ضررًا من إجراء الانتخابات وفقًا لقانون قد يترتب عليه حل المجلس مرة أخرى، ويكون هذا هو الاحتمال الأكثر صعوبة وقسوة.