تثير واقعة حرق الكتب التي يحتفظ بها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في بيته الريفي تساؤلات محزنة بقدر ماتشكل عدوانا على ثقافة التنوير وقيم ثورة العقل والمعرفة من اجل الحرية والتقدم وكسر التبعية. وكان البيت الريفي «لمحمد حسنين هيكل» ببلدة برقاش بمحافظة الجيزة وعلى اطراف« القاهرة الكبرى» قد تعرض لهجوم في غمار احداث العنف الأخيرة اسفر عن بعض الخسائر وحريق جزئي. وفي سياق استنكار العديد من المثقفين لهذا الاعتداء قال الكاتب الصحفي صلاح منتصر بشأن الجماعة المتهمة بارتكاب الحادث:«لقد اضافوا لسجلهم الأسود حرق منزل بسيط في قرية اسمها برقاش تعود ان يذهب اليها الأستاذ الكبير «محمد حسنين هيكل» ليقرأ الكتب التي تضم اخر انتاج دور النشر وترد اليه من كل الدنيا». اضاف منتصر :«وقد تصوروا المبنى قصرا مليئا بالتحف ولما فوجئوا ببساطته سرقوا لمبات الاضاءة فيه واحرقوا الاف الكتب التي تملأ ارففه»فيما افادت تقارير صحفية ان بعض الوثائق النادرة قد احرقت ايضا. وتعد البيوت الريفية لكبار الكتاب والمبدعين في العالم بمثابة مزارات ثقافية شاهدة على تاريخ الأفكار والكتابات التي انتجت في هذه البيوت فيما تتحول بعضها لمتاحف كما حدث على سبيل المثال في البيت الريفي للكاتب الروسي العظيم انطون تشيكوف في ناحية «ماليخوفو». ويوصف هذا المتحف بأنه لم يعد مجرد مزار لأحد اعظم الكتاب في العالم وانما ايضا شاهد على تاريخ اكثر من قرن وكما حدث مع محمد حسنين هيكل الذي راق له هذا البيت الريفي في برقاش المصرية فان انطون تشيكوف ابدى اعجابا فوريا بجمال الريف في ماليخوفو الروسية ليشتري ذلك البيت عام 1892 وهو في الثانية والثلاثين من عمره. ومن الطريف ان ملحقا صغيرا تابعا للبيت الريفي في ماليخوفو يحمل اسم «النورس» وهو اسم العمل المسرحي الشهير لذلك الكاتب الذي قضي مبكرا عن عمر لايزيد كثيرا عن ال44 عاما فيما اشارت صحيفة نيويورك تايمز في سياق تقرير الى ان البيت الريفي لتشيكوف كان قد تعرض للاهمال في الحقبة السوفييتية غير ان متطوعين من عارفي افضال هذا المبدع على الثقافة الروسية والعالمية هبوا لانقاذه وترميمه. ومثلما كان تشيكوف يستقبل بعض ضيوفه الأعزاء في منزله الريفي بماليخوفو ويبدع في هذا المكان الهاديء ويقرأ ويتأمل بعيدا عن صخب المدينة فان محمد حسنين هيكل استقبل في بيته الريفي ببرقاش اسماء لامعة في السياسة والثقافة والفن يعبر عن عصر بأكمله في الحياة المصرية والعربية يعد هيكل ذاته من نجومه الكبار. ووسط مساحة خضراء تتخللها الزهور يقع البيت الريفي لمحمد حسنين هيكل في برقاش وهو في الواقع لايزيد عن مبنى صغير انيق مكون من طابقين غير ان الكاتب الكبير اشار في مقابلات صحفية الى ان هذا المكان شهد زيارات لزعماء وشخصيات تاريخية في مقدمتها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الراحل انور السادات وكوكب الغناء العربي ام كلثوم. فالمكان اذن ليس مجرد مبنى صغير وسط مساحة خضراء وانما شاهد بامتياز على عصر بأكمله وحوارات واحداث وربما قرارات خطيرة فيما يقول بعض من ذهبوا لهذا المكان الذي يبعد بمسافة نحو 50 كيلومترا من ترعة المنصورية انه يمكن وصفه من الداخل «بالسهل الممتنع ويعكس سلامة في الذوق بعيدا عن البذخ المبالغ فيه» كما يضم المكان ملعبا مصغرا للجولف يمارس فيه هيكل رياضته المفضلة . وسكان قرية برقاش الذين يقدر عددهم بنحو 30 الف شخص يشعرون بالفخر كونهم جيرانا "للأستاذ" الذي اختار ان يقيم «عالمه الخاص» في هذه القرية وسط الخضرة والزهور التي تشكل لوحة فنية بديعة مع اشجار ضخمة ودالة على عراقة المكان. ومن بين من استقبلهم هيكل في بيته الريفي ببرقاش يوما ما الرئيس المعزول محمد مرسي فيما ذكرت تقارير صحفية ان انصار الرئيس المعزول الذين سعوا لاحراق هذا البيت الريفي حاولوا ايضا عرقلة وصول عربات الاطفاء وعناصر الحماية المدنية لموقع الحادث منذ اسبوع واحد. ولاجدال ان الحادث ازعج الكثير من المثقفين المصريين والعرب الذين ينظرون لمحمد حسنين هيكل ككاتب يضىء دروبا ويشعل بروقا فى لحظات فارقة ويسعى دوما للاجابة على تساؤلات تبدو محيرة مثل السؤال الكبير: مصر والمصريون الى اين؟!. وظل «محمد حسنين هيكل» يحلق بين الصحافة والسياسة بزاد ثقافى اصيل فيما اسهم بدور كبير فى المرحلة التأسيسية لمجلة «وجهات نظر» الثقافية المصرية وكان قرائه ينتظرون الاصدار الشهرى لهذه المجلة من اجل متعة قراءة هيكل وهو «يتمشى ويتجول» فى اروقة الماضى والحاضر ويبحر كعادته بين الصحافة والسياسة بقدرات ثقافية فذة. . ويؤكد هيكل دوما على ان الثقافة عنصر مهم من عناصر الاستراتيجية المصرية وهو صاحب مقولة « لاسياسة بلا ثقافة ولاظهير للسياسة الا الثقافة»بقدر ماجاءت رحلته بين الصحافة والسياسة مرتكزة على الثقافة وهو المعبر عن قيم ثقافية وانسانية وايجابية اصيلة مثل قيمة العمل وتجاوز اللافعل. ولعل اهمية عامل التكوين الثقافى للصحفى تتجلى بكل الوضوح فى نهج الأستاذ محمد حسنين هيكل حيث «المعالجة بالعمق والحفر المعرفى عند الجذور والتحليق بأجنحة المعرفة نحو افاق المستقبل» فيما استعاد فى سياق حوار صحفي مرحلة اعداده فى بدايات مسيرته الصحفية المديدة. ويقول محمد حسنين هيكل :«هذا الاعداد كان بالأساس ثقافيا..وثقافيا هنا تعنى المشاهدة والتفكير والاطلاع والمعايشة« مؤكدا ايضا على عامل التنشئة فى بيت "يحمل استعدادا ثقافيا كبيرا». واضاف :«الكتب جزء مهم فى كل بيت اذهب اليه..فى الأسكندرية..فى الغردقة..فى المنزل الريفى فى برقاش» فيما يرى ان الثقافة هى «حصيلة كل المعارف التى تتوافر للانسان من خلال معايشة الحياة والتاريخ والزمن ..ولذلك فمن الخطأ ان نتصور ان الثقافة هى الفن فقط او الرسم فقط او الأدب فقط».
واذا كان المفكر الاستراتيجى الراحل جمال حمدان لم يعرف عنه ادنى نفاق او شبهة مجاملة لأحد على حساب الحقيقة فان لرأيه كل الأهمية عندما وصف محمد حسنين هيكل بأنه احد اعظم الصحفيين المعاصرين فى العالم ان لم يكن اعظمهم على الاطلاق . اما المفكر والكاتب المغربى عبد الاله بلقزيز فيقول:«فى امكاناك وانت تقرأ للأستاذ محمد حسنين هيكل او تستمع اليه متحدثا ان تحسبه اكبر من صحفى واكثر: مؤرخ..باحث استراتيجى..رجل دولة مرموق فى موقع القرار..باحث فى علم السياسة..مفكر..الخ» ويضيف بلقزيز:«ولن تكون متزيدا حين تفترضه على هذا النحو وتحمل عليه هذه الصفات جميعا فقد نجح فى ان ينتج نصا صحفيا عصيا على التعيين الحصرى من شدة مااكتنزه من ادوات وموارد ليست مما يعتاد حسبانه من عدة الصحافة وعتادها» ومن ثم فان محمد حسنين هيكل-كمل ينوه عبدالاله بلقزيز-هو «فى جملة عدد جد قليل من الصحفيين فى العالم المعاصر تقرأ كتبه ويحتفظ بها فى المكتبات الشخصية ويرجع اليها عند الحاجة» معيدا للأذهان ان عشرات الكتب التى اصدرها هيكل «باتت مراجع معتمدة للمؤرخين وعلماء السياسة والباحثين فى مجالات الدراسات الاستراتيجية والعلاقات الدولية والتاريخ السياسى العربى المعاصر». ومع تعدد ابعاد الكتابة عند هيكل فانه يصر على تعريف نفسه بأنه «صحفى» وهو مايفسره عبد الاله بلقزيز بأنه ليس من باب التواضع وانما تعبير عن مفهوم يتبناه محمد حسنين هيكل للصحافة باعتبارها « نمط من المعرفة والكتابة والتفكير قوامه الجمع المنظومى بين مجالات معرفية شتى« مضيفا» وفى هذا التعيين لمعنى الصحافة انتقال استراتيجى للمفهوم بل واعادة تأسيس جديد لمعنى الصحافة» ومحمد حسنين هيكل صاحب الكتاب الشهير عن «ازمة المثقفين» فى خمسينيات القرن العشرين يحفظ عن ظهر قلب مئات ان لم يكن الاف الأبيات من عيون الشعر العربى وهو الذى ارتبط بصداقة وثيقة للغاية مع الكاتب الراحل توفيق الحكيم الذى كان يكتب فى جريدة الأهرام ضمن «العقول الكبيرة من كبار المثقفين مثل نجيب محفوظ ويوسف ادريس ولويس عوض» كما استطاع فى اشد الأوقات قتامة بالنسبة لحرية التعبير ان يدفع شرور الأجهزة الأمنية القمعية عن بعض هؤلاء المثقفين الكبار كالحكيم ومحفوظ. واعاد هيكل للأذهان ان الكثير من مشاهير الصحافة والأدب فى العالم عملوا فى الصحافة المصرية الصادرة بلغات اجنبية او كمراسلين لكبريات الصحف العالمية فى مصر اثناء الحرب العالمية الثانية ومنهم على سبيل المثال جورح اورويل وقد تعلم الكثير من بعضهم. لم يترك «محمد حسنين هيكل» اى فن صحفى لشأنه وانما استخدم كل فنون الصحافة ومزج بينها مزجا ابداعيا ليحولها احيانا الى فن واحد فكان بحق فى تفرده مجمع الصحافة وايقونتها غير انه اوضح قاعدة مهنية هامة بقوله :«ان الصحفيين ليسوا ادباء او مفكرين او فلاسفة يتحدثون عن معنى الوجود وصيرورة الكون لكنهم يتحدثون عن الحياة اليومية ومتابعة اخبارها ولذلك فمن المهم شرح وتحليل الخبر طبقا لقاعدة :لارأى الا على قاعدة خبر». وهيكل الذى يشدد على اهمية «التواصل مع الآخر والانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الآخرى من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية»هو الصحفى المثقف المهموم بحرية الصحافة فى وقت تبدو فيه هذه القضية موضع جدل عالمى حتى فى اعرق الديمقراطيات مثل بريطانيا والولايات المتحدة. واذا كان الصحفيون والمثقفون المصريون والعرب يفخرون بتسابق صحف عالمية على النشر للأستاذ محمد حسنين هيكل فضلا عن كتبه التى صدرت اصلا بالانجليزية عن كبريات دور النشر الدولية فان المفكر والكاتب المغربى عبدالاله بلقزيز يبدو مفتونا بطريقة «الأستاذ» فى الكتابة. ويقول بلقزيز ان طريقة «محمد حسنين هيكل» فى الكتابة هى مزيج من العرض والمقارنة والتحليل بنفس سردى مذهل يحرر الرواية السياسية للوقائع والأحداث من رتابتها لتصبح سلسة مع عناية شديدة بجماليات التعبير دون تكلف الأمر الذى يصنع لنصوصه قدرا هائلا من الجاذبية والاغراء للقراء غير ان مكمنها الأهم فى مادتها ومنهجها. اما المادة فهى الوثيقة التى لايكاد يكتب شيئا وهو عنها بمعزل ثم يضيف هيكل الى حجية الوثيقة حيوية من واقع معاينته لمعظم مايكتب عنه وبما سمح له موقعه كصحفى مرموق يملك ان يقترب اكثر من صناع القرار فى بلاده والعالم..وهكذا تستضاء الوثيقة بالشهادة وتكتمل بها. وفيما تنحو الرواية الحديثة منحى معرفيا مع نزعة وثائقية فى حالات عديدة فان هيكل المتميز بأسلوبه الروائى والمعجب بالروائى الروسى الراحل وصاحب نوبل الكسندر سولنجستين كان وسيبقى فى قلب رواية الصحافة المصرية والعربية ان لم يكن اهم من كتبوا قصتها. واذا كانت بعض العناصر المحسوبة على «نظام فئوي» اسقطته الملايين يوم ال30 من يونيو قد اقدمت على اقتحام «العالم الخاص للأستاذ» في برقاش فانها اخطأت كالعادة باعتداء غاشم على طرف رئيس في قصة التنوير. انها القصة التي دخلت منعطفا حاسما ضد الثقافة المضادة للتنوير مع انتفاضة الملايين لاسقاط النظام الفئوي المخاصم للنهضة الحقة..جماهير تشارف عصر التنوير تحت رايات ثورة العقل التي يحض عليها الاسلام لتكتب قصتها الجديدة التي كان محمد حسنين هيكل من المبشرين بها..هناك درب للرجاء ومتسع للأمل..بشارة نصر تلوح في الأفق.