على أنوار الهلال ومن نافذة الثقافة، يضيء محمد حسنين هيكل دروبا ويشعل بروقا فى لحظات فارقة!..يغوص فى بحر العمر وكأنه وحده الرائى ووحده الساطع العبق!..إنه المسكون بالإبداع فى عالم الصحافة ولاتزيده تلاوين الخريف إلا ألقا وتألقا.. مداده معتق بالنسغ ومن أسرار الكلمة يمنح المتلقى شهدا ويفتنه باحتمالات المعانى!.. فمن سواه يصح له أن يتكلم فى اللحظات الفارقة؟. ومن نافذة مجلة الهلال الثقافية وفى عددها الجديد الذى يصدر غدا "الأحد" يسعى هيكل للإجابة عن تساؤلات تبدو محيرة مثل السؤال الكبير: مصر والمصريون إلى أين؟!..ولأنه قبس من روح مصر فان هذا الحوار مع هيكل له أهمية استثنائية تماما مثل المشهد المصرى الراهن بلحظاته الفارقة ومعطياته الضاغطة، فيما اعتبر محمد الشافعى رئيس تحرير مجلة الهلال أنه سعى للحوار مع "الأستاذ" والتحاور معه حول قضايا الثقافة والفكر والأدب والإبداع لأن "الأمر أعمق وأصعب من كونه أزمة سياسة" فالوطن يواجه "أزمة ثقافة وهوية". ومن المفارقات فى مسيرة هيكل الصحفية- الثقافية المديدة أن منصب رئاسة تحرير مجلة الهلال عرض عليه وهو مازال فى شرخ شبابه لم يتجاوز العشرين عاما إلا بسنوات قليلة وهاهو "الأستاذ" يتحاور فى مستهل عامه التسعين من عمره المديد والمبارك مع محمد الشافعى رئيس تحرير مجلة الهلال. ولمجلة الهلال مكانتها العزيزة فى الصحافة الثقافية المصرية والعربية فيما كان نقيب الصحفيين الراحل والكاتب الكبير كامل زهيرى قد باح يوما ما بأنه يعتبر أن أكبر أخطائه تركه رئاسة تحرير مجلة الهلال بمتعتها الثقافية حتى وإن كان قد انتقل لمواقع قيادية اعلى فى الصحافة المصرية. أما محمد حسنين هيكل فقد ظل يحلق بين الصحافة والسياسة بزاد ثقافى أصيل فيما أسهم بدور كبير فى المرحلة التأسيسية لمجلة "وجهات نظر" الثقافية المصرية وكان قراؤه ينتظرون الإصدار الشهرى لهذه المجلة من أجل متعة قراءة هيكل وهو "يتمشى ويتجول" فى أروقة الماضى والحاضر ويبحر كعادته بين الصحافة والسياسة بقدرات ثقافية فذة. وكعادته يشعل هيكل فى حواره مع مجلة الهلال بروقا تضىء العتمة وسط المعركة على روح مصر بين الثورة والثورة المضادة وهى معركة ثقافية باالدرجة الأولى مشددا على أن الثقافة عنصر مهم من عناصر الاستراتيجية المصرية. وفيما يتهم مثقفون عرب السياسة بازدراء الثقافة فإن "الأستاذ" و"عميد الصحافة العربية" يقول :"انه لاسياسة بلا ثقافة ولاظهير للسياسة إلا الثقافة". وبقدر ماجاءت رحلة هيكل بين الصحافة والسياسة مرتكزة على الثقافة وهو المعبر عن قيم ثقافية وإنسانية وإيجابية أصيلة مثل قيمة العمل وتجاوز اللافعل فقد أوضح لرئيس تحرير مجلة الهلال أنه" فى الصحافة لاتفيد المجاملة ولايشهد لك إلا ماتستطيع أن تقدمه وتضع عليه اسمك". ولعل أهمية عامل التكوين الثقافى للصحفى تتجلى بكل الوضوح فى نهج الأستاذ محمد حسنين هيكل حيث "المعالجة بالعمق والحفر المعرفى عند الجذور والتحليق بأجنحة المعرفة نحو آفاق المستقبل" فيما استعاد فى سياق حواره مع محمد الشافعى مرحلة إعداده فى بدايات مسيرته الصحفية المديدة ليقول :"هذا الإعداد كان بالأساس ثقافيا.. وثقافيا هنا تعنى المشاهدة والتفكير والاطلاع والمعايشة" مؤكدا أيضا على عامل التنشئة فى بيت "يحمل استعدادا ثقافيا كبيرا". وقال محمد حسنين هيكل:"الكتب جزء مهم فى كل بيت أذهب إليه.. فى الإسكندرية.. فى الغردقة.. فى المنزل الريفى فى برقاش" فيما يرى أن الثقافة هى "حصيلة كل المعارف التى تتوافر للإنسان من خلال معايشة الحياة والتاريخ والزمن ..ولذلك فمن الخطأ أن نتصور أن الثقافة هى الفن فقط أو الرسم فقط أو الأدب فقط". وإذا كان المفكر الإستراتيجى الراحل جمال حمدان لم يعرف عنه أدنى نفاق أو شبهة مجاملة لأحد على حساب الحقيقة فان لرأيه كل الأهمية عندما وصف محمد حسنين هيكل بأنه أحد أعظم الصحفيين المعاصرين فى العالم إن لم يكن أعظمهم على الإطلاق. أما المفكر والكاتب المغربى عبد الإله بلقزيز فيقول:"فى امكاناك وانت تقرأ للأستاذ محمد حسنين هيكل او تستمع اليه متحدثا أن تحسبه أكبر من صحفى وأكثر: مؤرخ.. باحث إستراتيجى..رجل دولة مرموق فى موقع القرار.. باحث فى علم السياسة.. مفكر..إلخ". ويضيف بلقزيز:"ولن تكون متزيدا حين تفترضه على هذا النحو وتحمل عليه هذه الصفات جميعا فقد نجح فى ان ينتج نصا صحفيا عصيا على التعيين الحصرى من شدة مااكتنزه من أدوات وموارد ليست مما يعتاد حسبانه من عدة الصحافة وعتادها". ومن ثم فإن محمد حسنين هيكل- كمل ينوه عبدالإله بلقزيز-هو "فى جملة عدد جد قليل من الصحفيين فى العالم المعاصر تقرأ كتبه وتحتفظ بها فى المكتبات الشخصية ويرجع إليها عند الحاجة" معيدا للأذهان أن عشرات الكتب التى أصدرها هيكل "باتت مراجع معتمدة للمؤرخين وعلماء السياسة والباحثين فى مجالات الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية والتاريخ السياسى العربى المعاصر". ومع تعدد أبعاد الكتابة عند هيكل فإنه يصر على تعريف نفسه بأنه "صحفى" وهو مايفسره عبد الإله بلقزيز بأنه ليس من باب التواضع وإنما تعبيرا عن مفهوم يتبناه محمد حسنين هيكل للصحافة باعتبارها " نمط من المعرفة والكتابة والتفكير قوامه الجمع المنظومى بين مجالات معرفية شتى" مضيفا:" وفى هذا التعيين لمعنى الصحافة انتقال إستراتيجى للمفهوم بل وإعادة تأسيس جديد لمعنى الصحافة". ومحمد حسنين هيكل صاحب الكتاب الشهير عن "أزمة المثقفين" فى خمسينيات القرن العشرين يحفظ عن ظهر قلب مئات أن لم يكن آلاف الأبيات من عيون الشعر العربى وهو الذى ارتبط بصداقة وثيقة للغاية مع الكاتب الراحل توفيق الحكيم الذى كان يكتب فى جريدة الأهرام ضمن "العقول الكبيرة من كبار المثقفين مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس ولويس عوض" كما استطاع فى أشد الأوقات قتامة بالنسبة لحرية التعبير أن يدفع شرور الأجهزة الأمنية القمعية عن بعض هؤلاء المثقفين الكبار كالحكيم ومحفوظ. وفى حواره مع رئيس تحرير مجلة الهلال-أعاد هيكل للأذهان أن الكثير من مشاهير الصحافة والأدب فى العالم عملوا فى الصحافة المصرية الصادرة بلغات أجنبية أو كمراسلين لكبريات الصحف العالمية فى مصر أثناء الحرب العالمية الثانية ومنهم على سبيل المثال جورح أورويل وقد تعلم الكثير من بعضهم. لم يترك محمد حسنين هيكل أى فن صحفى لشأنه وإنما استخدم كل فنون الصحافة ومزج بينها مزجا إبداعيا ليحولها أحيانا إلى فن واحد فكان بحق فى تفرده مجمع الصحافة وايقونتها غير انه أوضح قاعدة مهنية هامة فى حواره مع محمد الشافعى بقوله :"إن الصحفيين ليسوا أدباء أو مفكرين أو فلاسفة يتحدثون عن معنى الوجود وصيرورة الكون لكنهم يتحدثون عن الحياة اليومية ومتابعة أخبارها ولذلك فمن المهم شرح وتحليل الخبر طبقا لقاعدة: لارأى إلا على قاعدة خبر". وهيكل الذى شدد فى حواره مع مجلة الهلال على أهمية "التواصل مع الآخر والانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الآخرى من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية" هو الصحفى المثقف المهموم بحرية الصحافة فى وقت تبدو فيه هذه القضية موضع جدل عالمى حتى فى أعرق الديمقراطيات مثل بريطانيا والولايات المتحدة. وهاهى صحيفة "نيويورك تايمز" تقول فى افتتاحيتها: إن حرية الصحافة فى خطر مؤكدة على ان "استقلالية الصحافة أمر جوهرى لحماية الحريات السياسية فى أى مكان بهذا العالم". وأعادت الصحيفة للأذهان الذعر المبرر لملايين البريطانيين عندما كشف النقاب فى العام الماضى عن سلسلة من الممارسات غير المشروعة وغير الأخلاقية من جانب بعض الصحف الشعبية او مايسمى "بصحافة التابلويد" فى بريطانيا. وفى المقابل فإن الإجراءات التى اقترحتها اللجنة الرسمية للتحقيق فى هذه الممارسات جاءت كما تقول الصحيفة "فى غير محلها وتجاوزت الحدود المعقولة لتشكل تهديدا من جانب الحكومة لتقاليد حرية الصحافة الممتدة عبر قرون فى بريطانيا". ومن بين الإجراءات المقترحة أن يستحدث البرلمان كيانا مستقلا لضمان انضباط الصحافة والتزامها بقيم المجتمع وأخلاقيات المهنة ويتمتع هذا الكيان بصلاحيات منها تغريم الصحف التى تنتهك القواعد الأخلاقية المتعارف عليها فيما ترى صحيفة نيويورك تايمز أن هذا الكيان الانضباطى المقترح "سيكون خطوة كبيرة فى الاتجاه الخاطىء". وإذا كان الصحفيون والمثقفون المصريون والعرب يفخرون بتسابق صحف عالمية على النشر للأستاذ محمد حسنين هيكل فضلا عن كتبه التى صدرت أصلا بالإنجليزية عن كبريات دور النشر الدولية فان المفكر والكاتب المغربى عبدالإله بلقزيز يبدو مفتونا بطريقة "الأستاذ" فى الكتابة. ويقول بلقزيز إن طريقة محمد حسنين هيكل فى الكتابة هى مزيج من العرض والمقارنة والتحليل بنفس سردى مذهل يحرر الرواية السياسية للوقائع والأحداث من رتابتها لتصبح سلسة مع عناية شديدة بجماليات التعبير دون تكلف، الأمر الذى يصنع لنصوصه قدرا هائلا من الجاذبية والإغراء للقراء غير ان مكمنها الأهم فى مادتها ومنهجها. أما المادة فهى الوثيقة التى لايكاد يكتب شيئا وهو عنها بمعزل ثم يضيف هيكل الى حجية الوثيقة حيوية من واقع معاينته لمعظم مايكتب عنه وبما سمح له موقعه كصحفى مرموق يملك ان يقترب اكثر من صناع القرار فى بلاده والعالم..وهكذا تستضاء الوثيقة بالشهادة وتكتمل بها. وفيما تنحو الرواية الحديثة منحى معرفيا مع نزعة وثائقية فى حالات عديدة فإن هيكل المتميز بأسلوبه الروائى والمعجب بالروائى الروسى الراحل وصاحب نوبل الكسندر سولنجستين كان وسيبقى فى قلب رواية الصحافة المصرية والعربية إن لم يكن أهم من كتبوا قصتها.. نعم للكلمة فى دنيا الصحافة بابها وعميد الصحافة العربية هو الباب وصاحب المدد والزاد!.. إنه هيكل تاج صاحبة الجلالة وفخرها..فشكرا للهلال وشكرا "للأستاذ".