«عبد الإله بلقزيز» كاتب وأكاديمى مغربى، حاصل على شهادة دكتوراه دولة فى الفلسفة من جامعة محمد الخامس بالرباط. يشغل أمين عام المنتدى المغربى العربى فى الرباط، وهو أيضا مدير الدراسات فى «مركز دراسات الوحدة العربية» فى بيروت سابقا. وقد نشر مئات المقالات فى صحف عربية عدة منها: الخليج والحياة والسفير والنهار. كما صدر له واحد وثلاثون كتابا. فى هذا المقال يتحدث الكاتب عن الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، وعن الجلال والقيمة المضافة التى منحها لمهنة الصحافة من خلال إصراره الدائم على تقديم نفسه كصحفى، ويتناول الرجل بعض السمات الأسلوبية والمنهجية لكتابات الأستاذ، مستشهدا فى هذا السياق بالأعمال الأربعة التى صدرت عن دار الشروق حول تاريخ مصر المعاصر وهى «ملفات السويس»، «سنوات الغليان»، «الانفجار»، و«حرب أكتوبر» وهى الأعمال التى وصفها «بلقزيز» بالمرجعية التى لا غنى عنها لأى باحث فى التاريخ السياسى للمنطقة العربية». ... يندر أن تجد رجلا يباهى بمهنته ويحدب عليها ويحرص على تعريف نفسه بأنه من أهلها كما تجده فى الأستاذ محمد حسنين هيكل. فى مُكنِك، وأنت تقرأ له أو تستمع إليه متحدثا، أن تحسبه أكبر من صحفى وأكثر؛ مؤرخ، باحث إستراتيجى، رجل دولة مرموق فى موقع القرار، باحث فى علم السياسة، مفكر.. إلخ. وأنت لا شك واجد فيه هؤلاء جميعا متجاورين، مُطلين عليك بدرجات متفاوتة. ولن تكون متزيدا حين تعترضه على هذا النحو وتحمل عليه الصفات هذه جميعا، فلقد نجح فى أن ينتج نصا «صحفيا» عصيا على التعيين المصرى من شدة ما اكتنزه من أدوات وموارد ليست مما يعتاد حسبانه من عدة الصحافة وعتادها. لا جرم إذن إن كان محمد حسنين هيكل فى جملة عدد جد قليل من الصحفيين فى العالم المعاصر تقرأ كتبه ويحتفظ بها فى المكتبات الشخصية ويرجع إليها عند الحاجة. ولا يكفى هنا أن يقال إنه وحده الذى يفرض سلطان مقالاته على الناس كافة؛ من صانع القرار والنخب حتى تلميذ المدرسة وحارس العمارة، فالقول هذا على وجاهته يلحظ نصابا صغيرا، وإن كان مهما، فى سلطان هيكل على قارئه هو نصب الصحفى صاحب الرأى الثاقب والجرىء؛ المدجج بالأسانيد التاريخية والوقائعية والمشدود إلى الواقعية السياسية. لكن سلطان الرجل أوسع مما يضعه فيه هذا التعيين. يكفى المرء أن ينبه فى هذا المعرض إلى أن عشرات الكتب التى أصدرها هيكل، منذ خمسينيات القرن الماضى، باتت مراجع معتمدة للمؤرخين، وعلماء السياسة، والباحثين فى مجالات الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية والتاريخ السياسى العربى المعاصر. ولقد يكون اليوم من المتعذر تماما على الباحث فى التاريخ السياسى للمنطقة العربية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن يقرأ صفحات هذا التاريخ صعودا وهبوطا، وأن يتبين نوع الديناميات العميقة التى صنعت أحداثه ومنعطفاته الكبرى أو التى أخذته إلى المآلات التى أخذته إليها، من دون أن يقرأ أعمال هيكل المنشورة. إن تأليفا واحدا حول تاريخ مصر المعاصر من أربعة أجزاء («ملفات السويس»، «سنوات الغليان»، «الانفجار»، «حرب أكتوبر»)، مثال لتلك الأعمال التى تفرض مرجعيتها على الباحث كوثيقة تحليلية لا غناء عنها لإضاءة أفق التفكير فى هذا التاريخ، ونظائر هذا المثال كثيرة فى عمل هيكل العلمى. وإذا كانت طريقة الأستاذ هيكل فى الكتابة، وهى مزيج من العرض والمقارنة والتحليل، ونفَسه السردى المذهل الذى يحرر الرواية السياسية للوقائع والأحداث من رتابتها لتصبح سلسلة، وعنايته الشديدة بجماليات التعبير من دون تكلف...، هى مما يشد جمهور القراء إليه ويصنع لنصوصه قدرا هائلا من الجاذبية والإغراء، فإن مكمن قوتها الأهم إنما فى مادتها ومنهجها. فأما المادة، فهى الوثيقة التى لا يكاد يكتب شيئا وهو عنها بمعزل؛ تلازمه ولا يبرحها أو يقول قولا على هامشها ليست مشدودا إلى معطياتها. هى سلاحه ودليله وحجة ما يقوله. والوثيقة نص مكتوب يؤرخ لواقعة؛ خطاب، رسالة، توجيه رسمى، تقرير. وهى لذلك مادة تاريخية بامتياز. وفى الأعم الأغلب من حالات الإسناد والاستشهاد بالوثيقة، يضيف الرجل إلى حجيتها حيوية يفتقر إليها النص المكتوب، والحيوية تلك إنما هى معاينة هيكل لمعظم ما يكتب عنه: معاينة سمح له بها موقعه كصحفى مرموق يملك أن يقترب أكثر من صناع القرار فى بلده وفى العالم. وهكذا تستضاء الوثيقة بالشهادة وتكتمل بها. وأما المنهج الذى يتوسل به قراءة الأحداث ومعطيات التاريخ السياسى، فيعتريه الاهتجاس بأصول البحث العلمى وقواعده. وفى هذا يعلو الرجل على معدل المألوف فى الكتابة الصحفية، فى الوطن العربى وفى العالم. إذ هو هنا يستعين بأدوات عالم السياسة والباحث فى الإستراتيجيا والعلاقات الدولية. وكثيرا ما تجده يستخدم مفاهيم علم النفس الاجتماعى وعلم الاجتماع السياسى وأدوات التحليل التاريخى، على نحو من التجانس والسلاسة من دون أن يثقل النص بالتحديدات النظرية، الأمر الذى خلع على كتاباته نكهة خاصة وضخ فيها خصوبة معرفية لم يضارعه فيها أحد ممن كتبوا فى التاريخ السياسى المعاصر. ومع تعدد هذه الأبعاد فى الكتابة عنده وتنوع وجوه التعبير عنها، يصر الرجل على تعريف نفسه بأنه صحفى. والإصرار هذا ليس يرد إلى تواضع يأتيه عن قصد أو لحساب، وإنما مأتاه مفهوم للصحافة حمله وخاض فيه منذ عقود مقيما الدليل عليه وعلى إمكانه مما كتبه ونشره فى الناس. ومتقضى المفهوم هذا أن الصحافة نمط من المعرفة والكتابة والتفكير قوامه الجمع المنظومى بين مجالات معرفية شتى من العلوم الاجتماعية والإنسانية (علم السياسة، علم الاجتماع، التاريخ، الدراسات الإستراتيجية...) وفى هذا التعيين لمعنى الصحافة انتقال إستراتيجى للمفهوم، بل قل إعادة تأسيس لمعنى الصحافة جدد. نقلا عن جريدة الخليج