فى ظل المرحلة الناصرية، بدأ الحديث حول أزمة المثقفين، وكان جوهر الخطاب حول الأزمة هو النظرة التعبوية التى ترمى إلى توظيف المثقفين والثقافة فى إطار المشروع السياسى والاجتماعى لجمال عبد الناصر، لكى يلعبوا وظائف المساندة والدعم والتبرير، و«شرعنة» المشروع، والأحرى إضفاء الشرعية الثقافية عليه، من خلال أدواتهم الإبداعية فى المسرح، والرواية، والقصة، والموسيقى والفنون التشكيلية، والتأليف حول هذا المشروع وتأصيله فكريا وتسويغه لدى المثقف العام، الذى غالبا ما يستهلك السلع الثقافية، وهذا النمط يشكل القاعدة العريضة -أيا كانت انتماءاته الاجتماعية، ونمط تعليمه ونوعه ومستواه- لأن هؤلاء هم الأكثر ارتباطا «بالجماهير» فى نطاق العمل وعلاقاته، وفى التفاعلات الاجتماعية اليومية، فى الجيرة وعلاقات القرابة، وزمر الرفاق، والجماعات المهنية والحرفية. هؤلاء غالبهم مستهلكون للمواد والسلع الثقافية. المفهوم الوظيفى والتعبوى لدور الثقافة والمثقف كروافع للوعى الاجتماعى والسياسى يدور فى نطاق المشروع، وليس من خارجه، أو كنقيض وناقد جوهرى له. هذا الفهم كان يتسق مع تركيبة الضباط الأحرار وخلفيتهم، ونظرتهم الوظيفية والأداتية للعمل فى إطار المشروعات العسكرية، حيث الهرمية، ووحدة إصدار القرارات، والأوامر العسكرية فى إطار مفاهيم الطاعة والأمر والنهى، والانضباط الحديدى، وذلك لكى يحقق المشروع العسكرى أهدافه سواء فى التدريبات، أو فى ميادين القتال. هذا العقل العسكريتارى، وخططه وتدريباته، وأهدافه، يساعد على تحقيق الإنجاز فى ظل انضباط صارم. من هنا كان انتقال بعضهم إلى ميدان إدارة الدولة وأجهزتها، كان يحتاج إلى بعض من الخبرة، والتكوين السياسى حتى يمكن المزاوجة بين التخطيط والانضباط والإنجاز، وهو ما يختلف عن حياة مدنية أكثر تعقيدًا فى تركيباتها الاجتماعية المشوهة والمعقدة، وفى التعامل مع أجهزة بيروقراطية عتيقة لا تستسلم بسهولة للتغيير فى الأفكار والسلوك، ونمط الأداء، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الأمية فى القراءة والكتابة، والأمية الوظيفية، والثقافية فى المجتمع.. إلخ. من هنا كانت أزمة النظرة إلى الحقل الثقافى والمثقف والتى تدور على محور أن دورهم محض جنود أو أدوات فى إطار مشروع، ومن ثم بدا مستفزا وخطيرا على النخبة المسيطرة والنظام الحاكم دورهم النقدى فى إطار السعى إلى استكمال وتطوير بنية ثقافة نقدية لما يعد من المسلمات الاجتماعية السائدة، وبعض القيم والأفكار، وأنماط التدين الشعبى، والطقوس الاجتماعية، وطبيعة النظام الحاكم، وتوزيعات الثروة والسلطة. من هنا بدا دور المثقف النقدى للنظام ونخبته، مثيرًا للغليان الاجتماعى، والاضطراب السياسى، ومشككًا فى ثوابت النظام، وقيمه، وشرعيته السياسية. من هنا يمكن تفسير جوهر أزمة المثقفين، وهو محاولة استيعابهم فى إطار الأيديولوجيا الناصرية، ومشروعها الاجتماعى والسياسى، وهو ما يتناقض مع دور الثقافة فى الارتقاء بالوعى الاجتماعى والسياسى والنقدى، فى إطار من التعددية والتنوع فى المدارس والمذاهب ونظم الأفكار، وفى تنمية الحس والتذوق الفنى والجمالى، فى إطار نقدى، لا فى نطاق اتباعى أو نقلى. دور المثقف نقدى وتفكيكى وتحليلى بامتياز، ومن ثم لا ينصاع إلى ما هو سائد، لأن بينه وبين الأبنية الاجتماعية والأفكار الشائعة مسافة دائمة تجعله قادرًا على نقد وهدم اختلال المسلمات والأفكار والنظم السائدة، سعيًا وراء أبنية مغايرة، وأحيانا ينصاع بعضهم إلى المفهوم الإصلاحى، خشية عدم التصادم مع المسلمات الشائعة، لا سيما لدى العوام، وهربًا من سيف السلطة الغشوم وقمعها ومعتقلاتها، أو رغبة فى الذيوع وعدم تهديد مكانته. من ثم ذهب بعضهم إلى الانخراط فى لعبة التبرير والتواطؤ، وشارك بعضهم فى الانحياز إلى بعض أطراف الصراع بين مراكز السلطة كما حدث فى أزمة مايو بين السادات وداعميه، وبين القيادات الأخرى للنظام الناصرى، وبعضهم الثالث كان فى صراع مع النظام وأيديولوجيته.. لا شك أن تأييد بعض المثقفين، وانخراطهم فى المشروع الناصرى يعود إلى البُعد الاجتماعى الذى خايل بعض المثقفين اليساريين، وجعل بعضهم يقوم بحل الحزب. أيًّا كان الرأى فقد حدث بعض التواطؤ الإيجابى، وأدى ذلك إلى تحقيق بعض الإنجازات الثقافية البارزة فى هذا الإطار، إلا أن الإشكالية الأكبر تمثلت فى بعض الخلط فى عديد المفاهيم حول الثقافة والمثقف بين الاتباع والتواطؤ أو النقد والاستقلال، وذلك لأن بعضهم كان جزءًا من ظاهرة مثقف حركة التحرر الوطنى وفق تعبير محمد السيد سعيد. لا شك أن سياسة عدم الانحياز، ودور مصر الرائد فى إطار حركة القارات الثلاث التحررية، ولا سيما فى إفريقيا، كانت لديها بعض من الأثر فى تأييد عديد من المثقفين، لا سيما بعض من مؤيدى الفكرة القومية العربية الجامعة. وكانت هناك انتقادات محجوبة لهذه الأفكار لدى بعض بقايا مفكرى المرحلة شبه الليبرالية، لا سيما إزاء الفكرة العربية، وبعض الأخطاء التى ارتكبت سياسيا فى هذا الصدد. كان دور مصر الثقافى -فى الإنتاج والسلع والتوزيع والمجالات- مؤثرًا، كنموذج ملهم فى الإقليم العربى، وربما كان جزء منه يعتمد على فائض المرحلة شبه الليبرالية، وإنجازها الثقافى البارز، وعلى بعض الألق للمشروع «اليوليوى» التحررى، وهو ما تعرض إلى تحد كبير مع أزمة الخطة الخمسية الأولى، ثم أزمة يونيو 1967 وآثارها الاجتماعية والنفسية والسياسية والثقافية الخطيرة.. وللحديث بقية.