كنائس كفر الشيخ تحتفل بأحد السعف | صور    مذكرة لرئيس الوزراء لوقف «المهازل الدرامية» التي تحاك ضد المُعلمين    حزب الوفد: نرفض أي عدوان إسرائيلي على رفح الفلسطينية    كم حصيلة مبادرة استيراد سيارات المصريين بالخارج؟ وزير المالية يجيب    الرئيس السيسي: أنفقنا مليارات الدولارات لتجهيز بنية أساسية متكاملة    يعتقلون طلابهم ويحاضرون عن حرية التعبير!    عبلة الرويني تكتب : نهار مخيمات الاحتجاج الأمريكي !    30 مليار دولار خسائر أولية في قطاع غزة.. و72% من ضحايا الحرب أطفال ونساء    دعما لفلسطين.. مظاهرات الطلاب تتسع بالجامعات الأمريكية وتصل كندا    انطلاق مباراة المقاولون العرب وسموحة بالدوري    شاهد سامسون يسجل.. الزمالك يضرب دريمز بالهدف الثاني    التشكيل الرسمي للمقاولون العرب وسموحة في مباراة الليلة    النائب هشام حسين يتقدم بسؤال بشأن استعدادات الحماية من حرائق الصيف    في ذكرى ميلاد نور الشريف.. مسيرة فنية حافلة ل«محمد جابر»    وزير الصحة: إشادات عالمية بنجاح مصر في القضاء على فيروس سي    "الرعاية الصحية" تشارك بورشة العمل التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية    «بحوث القوات المسلحة» توقع بروتوكولًا مع «المراكز والمعاهد والهيئات البحثية بالتعليم العالي»    أرخص 40 جنيها عن السوق.. صرف الرنجة على بطاقة التموين بسعر مخفض    أغلى 5 فساتين ارتدتها فنانات على الشاشة.. إطلالة ياسمين عبد العزيز تخطت 125 ألف جنيه    بحضور محافظ مطروح.. قصور الثقافة تختتم ملتقى "أهل مصر" للفتيات    «أبو الهول» شاهد على زواج أثرياء العالم.. 4 حفلات أسطورية في حضن الأهرامات    رئيس وزراء الأردن يحذر: أي عملية عسكرية في رفح الفلسطينية ستؤدي إلى تفاقم معاناة غزة    التشكيل الرسمي ل مباراة نابولي ضد روما في الدوري الإيطالي    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد مستوى الخدمات المقدمة للمرضى بمستشفى أبوكبير    تحرير 78 محضرا في حملة للمرافق لضبط شوارع مدينة الأقصر    إنجاز جديد.. الجودو المصري يفرض سيطرته على أفريقيا    حجازي: مشاركة أصحاب الأعمال والصناعة والبنوك أحد أسباب نجاح التعليم الفني    الرئيس العراقي خلال استقباله وزير الري: تحديات المياه تتشابه في مصر والعراق    عاجل| البيت الأبيض: إسرائيل طمأنت واشنطن بأنها لن تدخل رفح الفلسطينية حتى يتسنى لنا طرح رؤانا ومخاوفنا    نشرة في دقيقة | الرئيس السيسي يتوسط صورة تذكارية عقب افتتاحه مركز الحوسبة السحابية الحكومية    طريقتك مضايقاني.. رد صادم من ميار الببلاوي على تصريحات بسمة وهبة    رضا حجازي: زيادة الإقبال على مدارس التعليم الفني بمجاميع أكبر من العام    الإعدام لعامل قتل شابا من ذوي الاحتياجات الخاصة بواسطة كمبروسر هواء    وزير بريطاني يقدر 450 ألف ضحية روسية في صراع أوكرانيا    مستشفيات جامعة بني سويف تستقبل مرضى ومصابي الحرب من الأشقاء الفلسطنيين    مساعد وزير الصحة: انخفاض نسب اكتشاف الحالات المتأخرة بسرطان الكبد إلى 14%    تأجيل محاكمة المتهمين في عملية استبدال أحد أحراز قضية    رئيس هيئة الدواء يبحث سبل التعاون لتوفير برامج تدريبية في بريطانيا    موعد مباريات اليوم الثالث بطولة إفريقيا للكرة الطائرة للسيدات    سفير روسيا بمصر للقاهرة الإخبارية : علاقات موسكو والقاهرة باتت أكثر تميزا فى عهد الرئيس السيسى    «رجال الأعمال المصريين» تدشن شراكة جديدة مع الشركات الهندية في تكنولوجيا المعلومات    التنظيم والإدارة يعلن عن مسابقة لشغل 18886وظيفة معلم مساعد بوزارة التربية والتعليم    الليلة .. سامى مغاورى مع لميس الحديدى للحديث عن آخر أعماله الفنية فى رمضان    الأرصاد الجوية تعلن حالة الطقس المتوقعة اليوم وحتى الجمعة 3 مايو 2024    أعاني التقطيع في الصلاة ولا أعرف كم عليا لأقضيه فما الحكم؟.. اجبرها بهذا الأمر    أفضل أوقات الصلاة على النبي وصيغتها لتفريج الكرب.. 10 مواطن لا تغفل عنها    اعرف مواعيد قطارات الإسكندرية اليوم الأحد 28 أبريل 2024    قرار جديد من القضاء بشأن 11 متهماً في واقعة "طالبة العريش" نيرة صلاح    جدول امتحانات التيرم الثاني 2024 لصفوف النقل والشهادة الإعدادية (القاهرة)    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال؟.. "الإفتاء" تُجيب    ضبط 4.5 طن فسيخ وملوحة مجهولة المصدر بالقليوبية    «فوبيا» تمنع نجيب محفوظ من استلام «نوبل»    خلال افتتاح مؤتمر كلية الشريعة والقانون بالقاهرة.. نائب رئيس جامعة الأزهر: الإسلام حرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ    غدًا.. تطوير أسطول النقل البحري وصناعة السفن على مائدة لجان الشيوخ    تقييم صلاح أمام وست هام من الصحف الإنجليزية    سعر الدولار الأحد 28 أبريل 2024 في البنوك    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    حسام البدري: أنا أفضل من موسيماني وفايلر.. وكيروش فشل مع مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخبار الأدب تواصل فتح ملفات التنوير العربية
صيحة المثقفين وصرخة الياسمين


إذا »المثقف« يوما أراد الحياة
فهل يستجيب القدر؟
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ
فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر
وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي
ولابُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَاةِ
تَبَخَّرَ في جَوِّهَا وَانْدَثَر..
تطل أبيات الشاعر الثوري ابي القاسم الشابي، برأسها تحية لمشعل الثوارات العربية محمد البوعزيزي، ذلك العامل البسيط، الذي بنار جسده أهدي العالم العربي الوطن الأجمل قبل رحيله..
ولكن.. يمضي العام بعد العام وإذا بالربيع العربي وقد تحول آي علامة تعجب بعد أن كان علامة اعجاب !
ماذا جري ..؟
هل خمدت النار الثورية؟
هل انطفأ لهيبها؟
الأمر يبدأ من تونس رائدة الثوارات العربية، ليبدو مثيرا للتساؤل والحيرة
نجدها تقف في مهب الريح تارة عبر عجزها عن سداد مرتبات موظفيها وتارة نراها تائهة في مثقفيها الذين يعانون الآن أكثر من معاناة فترة حكم بن علي قبل الثورة، فنري ملاحقة الفنانين والمثقفين من قبل التيار السلفي لاتتوقف، لذا كان من الضروري ان نري تونس من خلال عيون وأفئدة مبدعيها ومثقفيها ، في هذا الملف الذي تفتحه (أخبار الأدب) ويتراوح بين المقالات والحوارات والشهادات والنصوص شعرية ....
جميل عمامي :
لا بدائل ثقافيّة من خارج الواقع
إنّ فكرة إنشاء حركة شعريّة وأدبيّة هي ليست بالجديدة بل كنّا نسعي في الجامعة إلي استغلال فضائها من خلال عملنا في النوادي الأدبيّة ضمن الاتحاد العام لطلبة تونس لخلق بديل ثقافي يقطع مع كلّ أشكال الثقافة الرجعيّة والسطحيّة التي كان النظام السابق يسعي إلي تكريسها من أجل ضرب العقول وانتاج ثقافة التفسّخ والانسلاخ والرداءة .
أمّا كيف أري مستقبل الحركة فأنا لا يمكن إلاّ أن أكون متفائلا لأنّه من شأن الاختلاف الايديولوجي أن يثري الحركة الفكرية بمختلف تمظهراتها وهو ظاهرة صحّية لأنّ التجانس ضدّ منطق الطبيعة أصلا. ونحن ضدّ الثقافة الواحدة والفكر الواحد الذي لا ينتج سوي التحجّر والتعصّب وبالتالي نعود من جديد إلي حلقة الدكتاتورية والرجعية. نحن مع التنوّع والاختلاف وضدّ تدجين الثقافي وحصره ضمن رؤية سياسوية ضيّقة تري الشأن الثقافي هامشيّا وثانويّا. ومن هنا أنبّه كلّ الأحزاب والحساسيات السياسية التقدّمية إلاّ أنّ كلّ مشروع سياسي حقيقي يجب أن يطرح بالموازاة مشروعه الثقافي التنويري. وأعتقد أنّ أدني مستويات الثورة هو المستوي السياسي. كما أدعوها إلي أن تعيد إلي المثقف دوره الريادي لطرح تصوّراته البديلة والخلاقة للنهوض بالواقع السياسي والثقافي . وهناك مسألة خطيرة يجب التفطّن إليها وهي ضرورة إعادة الاعتبار للمثقف باعتباره سلطة في حدّ ذاته وليس باعتباره مثقفا تابعا للسطلة لأنّ مسألة استقلال المثقف عن السلطة هي مسألة جوهريّة من أجل إبداع حرّ وبالتالي عدم الارتباط بقيود تحدّ من تفكيره أو توجّه مسار أفكاره مهما كانت هذه الأفكار ...
@ الثقافة البديلة موجودة أصلاً لكن الإشكال هو أن هذه الثقافة موجودة علي الهامش ومغيّبة يتمّ إقصاؤها في ظلّ الأنظمة الرجعيّة العربية فكيف تأمل من عصابات جاهلة أن تكون لها أطروحات فكريّة وإيديولوجيّة أو أن تكون لها خلفيّة فكريّة وتصوّرات سياسيّة بديلة مادامت لا تفكّر. وحتي إن فكرت فهي تفكّر ضدّ شعوبها. والنماذج أمامنا عديدة في ظلّ الثّورة العربية الراهنة التي كشفت حقيقة هذه العصابات المافيوزيّة التي تتعامل مع شعوبها وكأنّها جرذان أعتقد أنّ البديل الثقافي ينطلق من تثوير الواقع السياسيّ واستبداله بأنظمة ديمقراطية تمثيلية تحترم إنسانيّة الإنسان وتعتبرهُ ذاتًا مفكّرةً لا قيود لفكرها. وتثوير الواقع الثقافي ينطلق من قاعدة أساسيّة هي حريّة التعبير في مرحلة أولي ثمّ الإحاطة بالأعمال الإبداعيّة والعمل علي نشرها وترويجها حتي تصبح جزءًا من ممارستها.
@ أعتقد أنّه لا يمكن أن نتحدّث عن أحزاب سياسيّة في ظلّ واقع سياسي تُغَيّبُ فيه أدني مستويات الحريات وبالتالي لا يمكن أن نلوم هذه الأحزاب كثيرًا وشكرًا لها أصلا لأنّها حافظت علي أسمائها أمّا بعد الثّورة فعلي هذه الأحزاب أن تعي جيّدا أنّ بقاءها مرهون بما تطرحه من بدائل ثقافيّة حيث لابدّ من تحايث الايديولوجي والجمالي (الفنّي) فالخطاب السياسي يقوم علي اللغة التي يتمّ من خلالها التواصل مع القواعد الحزبيّة داخل الحزب الواحد ومع بقيّة الحساسيات السياسية فهذه اللغة يجب أن تكون متماسكة ومقنعة. ولتكون كذلك لابدّ من طرح ثقافي جدّي ينهل من مخزونه ومرجعيّاته الحضاريّة. أعتقد أنّه لا يمكن استيراد البدائل الثقافية بل يجب أن تكون منبثقة من رحم الواقع تعبّر عن ملامح تلك المجموعة وتطلّعاتها ولابد لكلّ كائن سياسي أن يكون مثقّفا وبالتالي لابدّ أن يكون الثقافي والسياسي متلازميْن.
صابر العبسي :
عندما تكون سيّد نفسك تكون حرّا
عن أيّ نخبة نتحدث لا سيما أن نبض الشارع تجاوزها!؟ عن أيّ نخبة نتحدث وهي في الحقيقة أَوْهَن من بيت العنكبوت، أَوْهَن من الوهن في حدّ ذاته، لأنها ابتليت بالتملق والمحسوبية والادعاء، فباتت هذه الصفات المشينة علامات عالمية مسجلة تدل عليهم واحدا واحدا ...
عن أيّ نخبة نتحدث؟ هل هي تلك التي ناشدت وبايعت واستحوذت وما زالت علي كل المنابر الاعلامية والهياكل الثقافية والمهرجانات والندوات والامسيات باسم الشعر، يسألونك عن الشعر التونسي : قل قليل قلّةَ ماء الوجه هذه الأيام !
شعبنا الأبيّ خاض معركة مصيره أعزلَ من طليعته ومن نخبه فهل يحق لهذه النخبة اليوم ان تنادي بثقافة مغايرة!؟ وهل يحق لها ان تطل فجأة كالفِطَرِ فارضة نفسها، ملهمة ومرشدة لآلام الجماهير وآمالها!؟
في خضمّ هذا كله أؤكد ان الثقافة مشجب للثورة والثورة هي الثقافة بعينها وما علي المثقف العضويّ الا ان يذهب بعيدا في ممارسة دوره التنويري والتثويري لا كإلاه أو نبيّ وإنما كإنسان يُنشد إنسانيّته في الآخرين تضحيةً. وما الحديث عن ثقافة بديلة أو عن بديل ثقافي الا حديث عن مشروع ثقافي وطني متكامل. ومن متطلبات ان تكون الثقافة وطنية نابعة من رحم هذه الأرض التونسية ان يكون القرار السياسي للبلاد وطنيا فأنت عندما تكون سيّد نفسك تكون حرا وأن تكون حرا معناه ان تكون انسانا له حق الاختلاف في شكل الاقامة علي هذه الارض. فالسياسي والثقافي يتعاضدان ويتكاملان. إن بيان حزب مّا هو في الحقيقة لا يتعارض وقصيدة مّا، لكن في تونس تعمل الأحزاب بجدّ دائما علي ترويض المثقف وتدجينه، وبالتالي هذه الأحزاب تحمل مشاريع مبتورة لا يمكنها ان تذهب في لجّة العملية السياسية بعيدا إن هي ظلت تعتبر المثقف ( الشاعر والكاتب والمفكر ) تابعا وبوقًا لها .. أمس عندما أفضي بي قطار الأنفاق الي الجامعة كما لو أنني كسْرٌ عروضيّ طارئ طال جمجمة المدينة كنت اعتقد ومازلت انا وجيلي، جيلُ الألفية الثالثة، جيل الغربة والتشرد، جيل الثورة، أننا نقطع نهائيا مع بؤس المشهد، مع سكونيته الحادة كشفرة حلاقة صدئة، مع فراغه المتلف للبصر والبصيرة لنؤسس مرحلة إبداعية جديدة خصبة تستمد من الحداثة أنوارها. وَعْينا أن القصيدة أمضي من سلاح . وَعْينا الانفلات من عقال المطلقات الثابتة. وَعْينا في أن القصيدة تخلق قوانينها لحظة انكتابها.
تبين لي تجربةً وممارسةً أن المشهد الشعري التونسي يرزح منذ عقود تحت وطأة الموت والموتي، يشكو عطالة طالت دورته الدموية فتبدّي منكفئا مٌقْعدًا لا يكِفّ عن كونه طلسما باعثا للرّيْبة ومُقرفا، مقفرا باعتباره مرتَعا مروّعًا للرّذائل والبذاءات في أبهي أبّهة، مما يفرض علينا وصفه بالمدجنة او لنقل انه بركة آسنة متعفّنة راكدة ركود الميّتين في مقابرهم ...
أري أن الحرس القديم موبوء بالعقم فتراهم ولن تراهم إلاّ غرقي لعابهم المسموم يتحفّزون للاقتتال سلاحهم عوراتهم اي قصائدهم أعني نفاياتهم التي لا تعدو ان تكون إلاَّ سعالا وشعوذات وطلاسم لا تجمعهم الا حياكة الدسائس والشائعات والأباطيل لا يتورعون عن إسقاط كل عصفور قروي لا يقلّد نعيقهم ولا ينحُو عاداتِهم !
كل ذلك يحدث تحت وقع المحاباة تصفيقًا وتهليلا من جهة ومن جهة أخري يندرج ضمن «لعبة إغماض العينين»إضحاكًا وتَسليةً. باختصار شديد ما من شيء يسرّ أحدا ولا نملك، نحن الجيل الجديد، إلاّ ان نعْمد الي رشق تلك البركة بالحجارة والبيض وأعقاب السجائر ولن نتردد أو نتكاسل في اقتلاع تلك الطفيليات والطحالب الهشّة.
فهي مأهولة بالنكوص تحمل داخلها مشروع اندحارها دون رجعة وما علينا انسانيا الا مساعدتها علي ان تمضي قُدُمًا نحو أفولها المفرح حتما !
ما يلزمنا فعله بالضبط بوصف أولئك عميانا في حضرة النور ان نكسر عكاكيزهم ونشعل النار في تلابيبهم ونرشدهم الي مقابرهم كرما منّا. نعدهم بتماثيل ومدائح، نعدهم بأوسمة وأشرطة ملوّنة تزركش توابيتهم نعدهم بجنازات باذخة لن نَمْشِي فيها إلاّ مصفّرين مقهقهين راقصين رقص الدّبكة. إن تأسيس حركة شعرية فكرية معناه انبعاث جديد لثقافة وطنية سوف يعمُ خيرُها العالمَ !
- إن الإعلام التونسي بعد الثورة واندلاعها أخطر من النظام البائد في حد ذاته، لئن تعددت الصحف والوسائل والوسائط في نقل الوقائع ومحايثة الشأن الوطني إلاّ أنها مَشُوبة باللّبس من حيث التعامل والتناول بمعني ان الاعلام الثقافي ظل رهين الرقابة والتعتيم وعاش رهين طغمة تابعة وموالية لأجندة أجنبية!؟ فكيف نطالبها ببثّ ثقافة وطنية وهي المجتهدة بكل حزم في حجب الحقيقة، كيف نطالب الجلاّد ان يكون وردة او عصفورا؟ شخصيا أقرأ الصحف اليومية لكني لا ألمس تحوّلا جذريا في متابعتها لواقع الجماهير الثائرة لا ألمس إلاّ تسطيحا وتهميشا.
إن الاعلام الحر والوطني من شأنه ان يعيد للعقل مكانته وللإنسان التونسي مواطنته وانسانيّته ! وبالتالي يعدّ الاعلامُ السلطةَ الأولي في تغيير نظرة المجتمع للعالم والاشياء والقيم والممارسة فمن لا يملك اعلاما وطنيا حرّا لا يمكنه ان يؤسس لثقافة جماهيرية وطنيّة تعانق الإنسانية.
أنور اليزيدي :
علي الشاعر أن يحمل مشروعًا حضاريّا
لا وجود لمشهد ثقافي وإنّما هناك واجهة ثقافية تؤثثها مجموعة من الانتهازيين والسماسرة والمخبرين لا علاقة لهم بالقلم سوي كتابة التقارير وإمضاء « الشيكات». كلّ ما فعلوه هو أنّهم تكالبوا علي المناصب والهبات فشوّهوا صورة المثقف والمبدع الحقيقيّيْن، وهم اليوم دون حياء وهذا غير مستغرب نري وجوههم الحربائيّة علي شاشات التلفاز قد صاروا ثورييّن ويتكلّمون باسم المبدعين والكتاب والأدهي أنهم يتكلمون باسم الشعب وهم الذين ساهموا في تجهيله وتجويعه !
صحيح انهم يحاولون شدّنا إلي الخلف لكنّهم في الحقيقة أوهن من بيت العنكبوت والعنكبوت لا ينسج بيته الا في الأماكن المهجورة مثل اتحاد الكتاب وبيت الشعر وبيت الحكمة!
هذه المسامير الصّدئة اذن امرها هيّن ستنصهر حتّي تذوب تماما أمام أصوات هذا الجيل الذي هُمّش حتّي من خلال تسميته بالأدباء «الشبان» وهي تسمية مفخخة قائمة علي الاستنقاص والإقصاء جيلنا هُمّش لأنّه يحمل الإبداع الحقيقي ويطرح مشروعا ثقافيا لا مجرّد مشهد ثقافي.
وما إقصاء هذا الجيل إلاّ لأنّّه يمثل سلطة ثقافية سعي النظام البائد إلي احتوائها ببعض الملتقيات الأدبية التّافهة في أغلبها، إلاّ أنه لم ينجح طبعا نظرا إلي اتّفاق اخلاقي ونضالي وإبداعي جمع بين كلّ من يمثل هذا الجيل حتي اننا سيّرنا تلك الملتقيات والندوات كما نريد وبمجرّد انسحابنا من مهرجان ثقافي أو ملتقي أدبي إلاّ فشل.
إنّ موقف السلطة السياسية تجاه الثقافة سواء كان تبنّيا او تهميشا أو احتواء أو إعداما إنما هو دليل علي أنّ الثقافة سلطة قادرة علي أن تفتك دور السياسة في المجتمع من حيث تكوين شخصيّة الفرد والرّقيّ بالوعي الجماعي.
ومن هنا يمكن أن نفهم تهميش الأحزاب السياسية في تونس لما هو ثقافي فالسياسة يحكمها المنطق النفعي في حين أنّ المبدع رهانه جمالي ومشروعه ثقافي وتأثيره حضاري.
السياسيّ في تونس ينظر إلي الثقافة باعتبارها من المكمّلات ! وفي أحسن ( الحالات وكي لا أتجنّي علي أحد ) هناك بعض الأحزاب التقدّمية والشخصيات السياسية تتحدّث عن الثقافة البديلة وهذا شكل من الرّجعيّة بالنّسبة إلي أحزاب تدّعي التقدمية ويبقي الامر الاشدّ خطورة هو تعمّد إقصاء المبدع والمثقّف بشكل نهائي وقطعي من المشهد السياسي ومن المشاريع السياسيّة ومن الوجود إن لزم الأمر لتبقي العقول جاهزة للدّمغجة، وهذه هي الرّجعية عينها، وهذا لن يتحقق أبدا لأن أبانا بدر شاكر السياب قد ثار علي بنية النّص الشعري القديم أيّ أنّه ثار علي بِنْية العقل العربي القديم لا من أجل القطع معها وانما لتجديدها والرّجوع بها إلي مسارها التاريخي ونحن سنواصل الهدم من أجل البناء والابداع من أجل التجدّد سنحيا ما دمنا نتجدّد، سواء أفرادا من خلال نصوصنا أو مجموعةً في إطار حركة شعرية وأدبيّة من شأنها تثوير المشهد الثقافي وتغيير دور المثقف ومفهوم الثقافة .
عن أيّ نخبة سنتحدّث؟ وماهي النّخبة؟ إذا كانت النّخبة هي محمّد محجوب ومحمد الغزي ومحمد الهادي الجزيري وجميلة الماجري ومحمد إدريس ولطفي بوشناق ولطيفة العرفاوي وسمير بن علي ومحمد الميّ ومحمد البدوي وصلاح الدّين بوجاه ومنصف المزغني وشمس الدّين العوني وأمثالهم مئات تورّطوا مع النّظام البائد بالمساندة والمناشدة والتّمييع والتصفيق والتفاهة. إذا كانت هذه هي النخبة فأرجو أن تُمحي هذه الكلمة من جميع المعاجم والكتب.
حقا لقد وقع إفراغ هذا المصطلح من مفهومه الحقيقي كغيره من المصطلحات التي أصبحت لا تملك دور ا سوي العلك! فالتبست النّخبة بالبيروقراطية وبالثّقفوت و«الثقافجيّة» وبالبرجوازيّة أيضا فترسّخ الاعتقاد أن المفقّر لا يمكن أن يكون من النخبة وتاريخ هذا المصطلح يثبت أنّه وُجد نقيضا لمصطلح « العامّة» والعامة هي الشعب لذلك أرفض أن أكون من النخبة كما أرفض الحديث عن الثقافة البديلة لسببين لا وجود لثقافة بديلة وإنما توجد ثقافات بديلة كما ان البحث عن ثقافة بديلة هو من قبيل إيجاد ماهو موجود أن هامش الثقافة في تونس والذي لا ينكر وجوده أحد إنّما هو الثقافة الحقيقية، الثقافة المتعدّدة من حيث الرّؤي المجتمعة من حيث الإبداع والمستوي الجمالي سواء في الأدب أو المسرح أو الفن التشكيلي أو الموسيقي أو غيرها وتشترك هذه الطاقات الفنّية المهمّشة في الانفتاح علي بعضها البعض كما أنّها تسترفد ماهو فكري وفلسفي وايديولوجي وسياسي في أعمالها الإبداعية في خطوة أولي وفي تصوّرها لمشروع ثقافي في خطوة أعمق وأبعدَ. هذا المشهد سينتقل من الهامش إلي الجوهري حتما نظرا إلي حركيته وثرائه وتعدّده. إذن من يريد ثقافة بديلة فعلية أن يجعل ماهو هامشي جوهريا ولكنني باعتباري مبدعًا أراهن علي أكثر من ذلك وهو البديل الثقافي حتّي تستعيد الثقافة سلطتها المنهوبة وتلعب دورها الحضاري ولا يكون ذلك إلا بمشروع ثقافي يقوم علي الاختلاف الفكري والجمالي من حيث التصوّر والإجراء.وفي خطوة ضرورية ومرحليّة نحن نسعي إلي تأسيس حركة شعرية أدبية تقوم علي الانتقاء الجمالي .
قلت إنّ هدفنا الآن هو تأسيس حركة شعرية نتبنّي فيها مقولة الجيل لسبب واضح وبسيط وهو رفضنا للوصاية فتسميتنا «بالشعراء الشبان » كانت قصد الإقصاء والتهميش كما أنّها سمحت لبعض المرضي من الأجيال السابقة لنا زمنيّا أن تمارس علينا الوصاية كلّ علي طريقته ولعلّ أخطر أشكال الوصاية هو ما فعله «يوسف رزوقة» حين جمع حوله مجموعة من الشعراء قادهم إلي زوايا ضيّقة كي يخنق مستقبلهم الشعري لذلك لن يكون في هذه الحركة سوي شعراء من جيل الالفيّة الثالثة وأذكر منهم سفيان رجب، زياد عبد القادر، فريد السعيداني، صابر العبسي، خالد الهدّاجي، جميل عمامي، صبري الرّحموني وأصوات أخري مختلفة عن السّائد والمألوف. هذه الأسماء تمثل مشاريع شعرية مختلفة من حيث الرّؤية الفنية ولكنها تلتقي في المستوي الجمالي للنّص الشعري.
إنّ تعدّد المشاريع الشعرية واختلاف الرّؤي في نصوص متميّزة جماليا سيخلق حركيّة شعرية داخل الحركة من ثمّ ستتمخّص بالضرورة تيارات ومدارس شعرية ونقدية وفكرية، تضمن تحقيق تجارب شعرية مكتملة علي غرار المشارقة وهذا ما يفتقده الشعر التونسي إذ لا وجود في تونس لتجارب شعرية وإنّما هي كتابات متقطّعة ومنقطعة فنري شاعرا بعد مجموعتين أوثلاث مجموعات شعريّة يتوقف عن الكتابة ونري شاعرا بعد تراكم نسبيّ ينشر مجموعة رديئة تحطّم كلّ ما بناه.
فهذه الحركة الشعرية التي نسعي إلي تأسيسها وسنفعل هي الضامن ( في ظلّ غياب النقد والنقّاد وتجاهل الإعلام لنا ) لتطوّر نصوصنا والذّهاب بعيدا في تجاربنا.
ولا شكّ في أنّ أيّ حركيّة أدبيّة ستؤثر إيجابا في الفنون الأخري علي اعتبار التعالق فيما بينها . كلّ هذا من شأنه أن يغيّر المشهد الأدبي خاصة والثقافي عامّة بل سيغيّر الثقافة في حدّ ذاتها لأنّ المبدع الحقيقي هو صانع الثقافة، عندها ستأخذ علاقة المبدع بالمتلقي أشكالا مغايرة وسيستعيد الشعرمكانته في المجتمع التونسي وستسقط صورة الشاعر«المسْخرة » التي رسمها منصف المزغنّي وأمثاله في ذهن التونسي وستتشكل صورة الشاعر الرّمز : رمز الخصوصية ورمز الهوية ورمز الذّات.
علي الشاعر أن يحمل مشروعا حضاريّا كما فعل بودلار والسياب وسان جان بيرس ومحمود درويش وسعدي يوسف ومحمد الماغوط ...
أمامة الزائر:
السياسيّ يعتبر الثقاقة زوجة مسيار
تساءلنا كثيرا عن واقع المشهد الادبي في تونس وحاولنا كثيرا أن نفكّكه ونتبيّن تفاصيله، فتشنا عما يمكن أن يكون مختلفا ويؤسس للبديل الثقافي وتجرّأنا علي النظر ولم نقف خلف الابواب... رأينا خورا وارتدادا عن الشعر. رأينا شعراء (بين قوسين) تواطؤوا ضدّ القصيدة وتآمروا ضدّ الجمال، واكتفوا بالشّعارات الرنانة وبالقشور اكتفوا بالحيز الضيق أو بمربّع واحد في رقعة الشطرنج الشعري.
شعراء تونس يلعبون لعبة النّرد لا يلتزمون بموقف ولا يحملون مشروعًا فنيا. يرمون النرد هكذا، قد يوفقون وقد ينخرطون في العبث المرير. شعراء (بعضهم) اكتفي بالتحديق إلي الشوارع الخلفية والمسكوت عنه وتزاحموا في الزّوايا، شعراء ظنوا أن الشعر أقلام وأوراق ومحفظة توهم الآخر انهم مختلفون.
لم يكونوا مختلفين عن هذا الآخر بقدر ما ساهموا في تنميط صورتهم وتخلوا عن واجبهم الاستيطيقي وهمّشوا الأدب في شارع احتفي بكلّ الفنون، واغمض عينيه عنهم، وانخرطوا في الردّاءة: رداءة الموقف ورداءة فنية ورداءة فكرية.
وقد بحثنا نحن هذا الجيل الجديد في إمكانات الحضور الشعري المختلف واكدناه في مشاركاتنا في الملتقيات والمهرجانات، وأردنا كسر نسق السائد والمألوف واجتهدنا فيما نحاوله من محاولات شعرية لنثبت اختلاف نصوصنا التي تهجس بالفنّي الجمالي وتنطق بالمسكوت عنه. لم نكتف بما رُسم لنا من مسارات و«رقصنا في حقول الألغام» وكان ينبغي أن نقول كفي تهميشا للشعر وللشعراء، وأن نوجد البديل... حاولنا تأسيس حركة شعرية تهجس بالاختلاف، رغم اختلافاتنا الفكرية والايديولوجية واقتراحاتنا الفنية نفسها لكننا اتفقنا علي أنّ ما يجمعنا ايماننا بالنّص الشعريّ وفعله التاريخي واختلفنا كثيرا... واختلفنا كثيرا... لكن لعلّنا نوجد من صراعنا ذاك فتيل البداية... قد نكون مشينا في طريقنا خطوة أو خطوتين لكننا حتما مازلنا نعلم ضرورة وجود حركة شعرية في المشهد الأدبيّ التونسي ومازلنا نعلم ان «السير علي مهل يوصل إلي البعيد».
@ ما سقطت فيه بعض الأحزاب السياسية من اعتبار الثقافة ترفا فكريّا أو «بريستيج» للسياسي وأصبحت بذلك تباهي بالعمل الثقافي الذي لا تعتبره من أولوياتها وهنا يكمن الاحراج إذ كيف لحزب سياسي يغيّب في برامجه الثقافة ويعتبرها وسيلة لاستقطاب النخبة لا غير، ان يؤسس مشروعيته السياسية نفسها؟!
نحن جميعنا نعلم أهميّة الفعل الثقافي في المجتمع، ويبدو أنّ بعض الأحزاب السياسية اغفلت هذا وانطلقت بجموح الي السياسويّ. ولعلّّها لم تفطن بعد إلي هذه الثغرة في برامجها أو لعلّ الثقافة لا تعنيها وهو ما نلاحظه من خلال مشاهدتنا لجرائدها أو حواراتها اذ نتبيّن تهميش الثقافة التي يبدو ملمحها غائبا وضبابيّا إن لم نقل غير موجود أصلا وهنا اعتقد ان للمثقف (الذي ينتمي إلي هذه الأحزاب) دورا بارزا يتمثّل في تكريس رؤيته الفنية وتأكيد أهمية حضور الثقافي رغم ان اغلب مثقفي الاحزاب يلهيهم السياسي فيهملون الثقافة التي تجيء عندهم في المحلّ الثاني ويصبح للثقافة بذلك بعد تكميلي لا تأسيسي.
وتجدر الاشارة إلي غياب ملاحق ثقافية تُعني بالمشهد الثقافي في تونس رغم بعض المحاولات التي تسعي إلي ترسيخها في جرائد الأحزاب لكن هذه الصفحة تظل رهينة التّجاذبات السياسية وغلبة الحدث السياسي فلا تكون صفحة قارّة أساسية إذ يمكن التخلي عنها في أيّ لحظة ولهذا أعتقد أن الطرح السياسي الذي يعتبر الثقافة زوجة مسيار أو زوجة ثانية لا يلجأ إليها إلا للتعبير عن التّرف وعن الرغبة في الترفيه، لا يمكن ان يقدّم بديلا سياسيا في حذّ ذاته.
@ ما يُحزن حقّا هو غياب الملاحق الثقافية التي تؤثث لمشهد ثقافي بديل، طبعا لا نستطيع ان نطالب بملحق كامل إذا عجزنا عن ايجاد صفحة ثقافية قارّة! كما لا ننسي غياب الفضاءات التي تسمح بوجود أشكال مختلفة من الأقلام الثقافية التي تجمعها الرؤية الفنية والهاجس الإبداعيّ، ولعلّنا في إطار مشروعنا الادبيّ نسعي إلي بعث مجلة تُعني بالثقافة البديلة وتقدّم طرحا فنيّا وثقافيّا طبعا هذا مشروع مازلنا نحلم به نحن الجيل الجديد ولعلّنا نبعثه قريبا إذا تشكلت ملامح هذه الحركة التي نسعي إلي تأسيسها واريد أن اشير إلي أن تهميش الملاحق الثقافية وتغييبها كان نتيحة سياسة كاملة انتهجها الدكتاتور بن علي لإضعاف المثقف التونسي، والنيل منه ووضعه في خانة العجز.
واليوم بعد انتفاضة 14 جانفي ينبغي أن نضطلع بدورنا الثقافي والتاريخي ونجتهد من أجل فرض الاهتمام بالثقافة وإيجاد فضاءات حقيقية لطرح بدائلنا الفكرية والفنيّة.
وأعتقد أنّه علينا ان نخرج من الحيّز الضيق المسموح به لنا وأن نفتح أبوابا أخري ونؤسس خارج الحدود رؤية جمالية تعبّر عن واقع الشارع التونسيّ وتطرح هموم الإنسان.
فريد سعيداني :
البديل يستوجب مؤسسات ثوريّة
مما لا شكّ فيه أنّ الساحة التونسية تشهد تغيّرات كميّة لكن هذه التغيرات تبقي شكلية ومحدودة في غياب التغيرات النوعية. ان التغيرات الكميّة قد تعمل علي إحداث هزّة أرضية تبعث دوائر في الجبل قد يتحرّك منها الجبل، قد يغيّر خارطة أشواكه أو منازل حجارته لكنّّه لا يغيّر بِنْيته القائمةَ بل العكس من ذلك يزداد الجبل قوّة وصلابة وهنا يكون الجبل معادلاً للبُني السائدة والمتخلفة. إنّّه المُعوّق الماثل في تثوير المشهد المسطّح وبالتالي تكون الحاجة إلي حركة أدبية وشعرية (أي حركة نوعيّة) ضرورة ملحّة وأقصد بالحركةِ العلاقةَ المرتبطةَ بالتاريخ تعمل علي تسارعه. وهذه الحركة لا يمكن أن يقودها إلاّ المثقف العضوي.
لا أوافقك الرأي في أنّ النخبة التونسية تنادي بثقافة بديلة بما أن الثقافة البديلة ليست مستحضرًا كيميائيًا يُنجز وفق إرادة ما منعزلة عن البُعد التاريخي والاجتماعي وانطلاقا من ذلك فإنّي أعطي لمطالب النخبة التونسية وهذا اذا اتفقنا أنّ هنالك نخبة حجمها الحقيقيّ المقتصر علي فعل تحويل الهامش في الثقافة إلي مركز مما يخوّل لنا الحديث عن مركزيّة الهامش الذي سيعمل بدوره علي اختراع آليات قمع مغايرة وفق هامشيّة الجديد وهذا ما يمكن أن يصبّ في خانة البديل الثقافي لكنني لا أستطيع أن أدرجه ضمن حركة الثقافة البديلة بما أن هذه الاخيرة ثقافة ثورية تقدمية عصيّة علي التأطير والتمدرس وتستوجب بالضرورة وعيا ثوريا يتّسم بطابع الخرق والانتهاك الدائميْن وبالتالي فإن البديل يستوجب مؤسسات حاملة لمشاريع ثورية. لنأخذ مثلاً وزارة الثقافة التي لم تستطع إلي الآن أن تتجاوز مهمتها الادارية والتوفيقية الضيّقة بين الحجّ العكسي في الزمن اي العودة إلي الماضي ومزج ذلك بروح الحاضر المتحفّظ في إطار التفتح الوقور مما يجعلها خالية من أي مشروع حقيقي غير تكريس السائد وتمكينه من رئة ثالثة. وهذا البُعد التوفيقي جعل من المجتمع التونسي لا يملك ثقافة سياسية واضحة لذلك تُصبح الحاجة ملحّة إلي تركيز الأسس وتوسيعها لصالح ثقافة سياسية تكون بمثابة المعين لتنمية متوازية ولا أخفيك سرّا إن قلت لك أبعد من ذلك فأنا مثلاً لم اعد أومن ببديل جذريّ الا بقتل المؤسسة نهائيّا.
- قبل كلّ شيء أريد أن أنطلق من فرق بسيط بين الاحزاب السياسية ذات الهيمنة الحزبيّة، والأحزاب السياسة ذات الطابع السياسي المتقدّم علي المنطق الحزبيّ. الأولي يغلب عليها الطابع الحزبيّ بمعني أنّها لا تستطيع التموقع داخل فضاء ما إلاّ من خلال ممارسة عمليّة النفي للاتجاه المغاير وبالتالي يكون وجودها رهين عملية الإقصاء بما أنّها احاديّة الجانب لا تستطيع النظر إلي العالم إلاّ من كوّة واحدة ضيّقة ومنحسرة وهذا ما يفسّر لجوء هذا النوع إلي العنف المادي علي اعتبار أن العمل الآتي يستوجب التحقق المادي لارتباط الحدث بالاشعاع الحزبي إذ يقول أحد كتابنا «ثم إن الإنسان لا يلجأ إلي العنف المادي الوحشي إلاّ حين يشعر انه فرغ من الانسان فيه، أي من الطاقة الخلاّقة التي هي دائمًا طاقة اتجاه الي الآخر، اتجاه تفاعل وحوار وحبّ أي أنها طاقة ديمقراطية». وأعتقد ان في هذا المثال خير دليل علي ضرورة تهميش الثقافي من برامجها لانها لا تري في الثقافي ما يساعد علي خدمة مصالحها الآنية اليوميّة . أما الثانية اي الاحزاب السياسية ذات الطابع السياسي المتقدّم علي الطابع الحزبي فقد استطاعت ان تري في السياسي الرجل الذي يلعب علي وتيرة التاريخ اضافة إلي دوره في سياسة المجتمع من الوجهة الآنيّة الفورية فهي تري أن «العمل السياسي والعمل الثقافي والعمل الشعري اجزاء من كُلٍّ، من العمل الثوري الشامل»، وبالتالي فإنّّها تري في اهمال وتهميش الثقافي تخلّيًا عن المشروع الثوري بأكمله، يومًا ما كتب صحافي يقول : « بعد اجتياح بيروت من قِبَلِ الصهاينة وأمام إفلاس السياسة اليوم لم يبق لنا الا الثقافة » وأعتبر أنّ في قولته هذه صحّةٌ كبيرة فاستقامة الظلّ مرتبطة باستواء العود أو بتغيير الشجرة أي بترك الزعامة السياسية لصالح الزعامة الفكريّة !
سفيان رجب :
لا.. لسياسة »الفترينة«!
المشهد الثقافي الذي كرّسه النّظام البائد كان يمثّل سياسة «الفتْرينه» التي اتبعها النّظام لتغطية جرائمه مستغلاّ بذلك تهافت أشباه المبدعين والمثقفين الذين جمعتهم المصالح الضّيقة وباعوا ضمائرهم بأبخس الأثْمان وساهموا في تكبيل شعبهم والكذب عليه، والغريب أنّنا مازلنا نري الكثيرين منهم متشبّثين بمراكزهم دون أن ننسي مصّاصي الدّماء والاحلام من المسؤولين الغارقين في الفساد، كل هؤلاء لابدّ من كنسهم وتثوير المشهد الثّقافي، إنّ بلادنا الآن تحتاج إلي كلّ صوت جادّ وصادق، ولا يمكن أن يكون ذلك إلاّ بتفعيل دور المثقف والمبدع المهمّش وإعطائه مكانته الحقيقية التي حُرِم منها في عهد النّظام البائد، وبعد أن يحدث كلّ هذا يمكن ساعتها ان نتحدّث عن مشروع ثقافي حقيقي وثقافة بديلة.
من جهتي لمْ أطّلع بَعْدُ علي برامج كلّ الأحْزاب، لكنّي أؤكّد أن كل مشروع سياسي لا ينبني علي أرضيّة فكرية وثقافية هو فاشل بطبيعته، حتّي إذا وصل السلطة أُصيب بالجذام الميتافيزيقيّ وتفكّك شيئا فشيئا مثلما حدث مع«التجمّع». وفيما يخصّ سؤالك : كيف يكون الكاتب حزبًا بأكمله في المستقبل؟ فأنا أري أنّ الكاتب الذي يمْتلك مشروعًا ابداعيا هو سلطة موازية ويمثّل تصويبًا للخطأ وتحريكًا للرّكود ويقظة ضدّ كل نيّة فاسدة. الكاتب الحرّ هو الضمير الحيّ للشّعب .
الإعلام التونسي شأنه شأن المشهد الثقافي نتيجة حتمية لافعال الحزب البائد، فهو يبدو في أفضل احواله فاترًا متذبذبا في رؤاه وطرحه الخطابي والجمالي هو إعلام اصغر من أحلام المثقّف التونسي ولذلك يمكن ان نقول إنّه هو المقصّي عن الثقافة، ويحتاج إلي جهد كبير لتفكيكه وتثويره ليكون إعلامًا حرًّا وراقيا يتحرّك داخل معادلة الشعبي والنوْعيّ، وحتي لا أُتهم بحمل الشّعارات فإنّني سأحاول أن أضع عديد الاقتراحات التي أراها مهمّة ولازمة :
1 - عزل كلّ الذين دخلوا الإعلام بالواسطة وبالطّرق الدنيئة الاخري وإن لزم الأمر اقامة لجنة من النخبة المثقّفة تقوم بدور الغربلة وعلي ضوئها تفتح ملفّات الانتداب أمام كلّ الشباب المثقف.
2- إقامة ملاحق ثقافية في كلّ الجرائد الوطنية وتكليف مثقفين ومبدعين أبرزوا قيمتهم الفنيّة ولم يتورّطوا في مناشدة النّظام البائد، للإشراف علي هذه الملاحق .
3 - الاهتمام بالكِتاب وبالكاتب في كلّ الفضاءات البصريّة والسمعية والمكتوبة، وذلك من خلال البرامج الثقافيّة الهادفة والمتابعات الصّحافيّة العميقة والارتقاء بالدّراما التلفزية والاذاعيّة، وتطهير الخطاب الإعلامي من مؤثرات اللّغات الدّخيلة والمواضيع المسقطة .
-الحركة الشعرية التي تتحدّث عنها هي موجودة بطبيعتها من خلال التّجارب الشعرية النّوعية من الشباب التونسي، لكنّها تحتاج إلي تفعيل في المشهد الثّقافي، وأنا أري أنّ ذلك لا يكون إلاّ باللُّحمة والانسجام داخل إطار حركة شعريّة يجمعها التّساؤل الفكري ويحرّكها التنوّع في التّجربة وقد آن الأوان لنلمّ شتاتنا ونساهم في بناء تونس الحرّة والمثقفة ولا نترك أيّ فراغ يتحرّك فيه المنتهزون والسّماسرة هؤلاء الذين لا يعرفون من الادب سوي قلّته ومن الفنّ سوي الكذب والنّفاق وحبّ الظّهور، آن الأوان لكنس كلّ الدّمي والبيادق مع آلات نفخهم وطبولهم وجناياتهم الأدبيّة، لن نغفر لأنفسنا بعد اليوم جريمةً ترتكب في حقّ ذوق شعبنا وعقله وروحه وأية محاولة لتدجينه، من جهتي أعد نفسي بمستقبل مليء بالأعداء والحرائق !.
خالد الهدّاجي :
السّياسةلا تقتل الإبداع
لا يمكن المطالبة بثقافة بديلة، لأنّها موجودة، فالخطاب الثقافي البديل تاريخيا يحايث السائد ويعتبر نقيضه لكن الإشكالية اليوم وفي هذا الوضع الثوري من السليم أن ينعكس الأمر في المشهد الثقافي ويصبح ما كان بالأمس بديلاً ومهمّشا اليوم هو السائد وهذا ما لم يحصل وذلك لعدّة أسباب أوّلها التفاف قوي المنظومة القديمة علي الثّورة وقدرتها علي التلوّن كالحرباء لتصبح متكلمة بإسم الثّورة وهذا الأمر ينطبق علي المشهد الثقافي فالمثقف السّلطوي والمثقف المستقيل والمتعالي علي الواقع، هذا النمط من المثقفين مازال مهيمنا في كلّ الفضاءات. فقط غيّر مصطلحاته لتتوافق مع الوضع الثّوري !
السبب الثاني يكمن في قدرة المثقفين المهمّشين في النظام السابق علي خلفية مواقفهم أو إنتاجاتهم الثقافية البديلة والنقدية علي اكتساح المشهد الثقافي وتثويره وهذا يتطلّب مشروعًا ثقافيّا متكاملاً ويتطلّب مواقف ثورية من هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم حاملين لثقافة ثوريّة، في هذه اللحظة المطلوب تطهير المشهد الثقافي من المقاولين والسماسرة وكلاب الحراسة الذين كانوا يطبّلون للدكتاتور وزمرته، وهذا لم يحدث. يبدو أنّ الثّورة لم تطل المشهد الثقافي فعديد المثقفين المهمّشين قد شاركوا في الثّورة في الشارع وفي الساحات إلي جانب أبناء الشعب في المسيرات والمظاهرات لكنّهم تناسوا أنّ هناك واجبًا آخر ينتظرهم وهو فرض وإرساء الخطاب الثقافي البديل والملتزم في كلّ الفضاءات وبذلك يتمّ تطهير المشهد الثقافي والقضاء علي الفساد الثقافي الذي تفشي في كلّ المؤسسات والفضاءات والهياكل الثقافية.
@ أوّلا الأحزاب السياسيّة ليست لها القدرة علي إقصاء أو تبنّي بديل ثقافي، فقط الأحزاب التي تطرح برنامجًا متكاملاً في كلّ جوانبه من الاجتماعي إلي الاقتصادي إلي السياسي إلي الثقافي هي تعمل علي وضع برنامج ثقافي وطني لكن الأمر يتطلّب مثقفين واعين بمسؤولياتهم التاريخية أي المثقف العضوي الملتزم بقضايا المجتمع والواقع، بالاضافة إلي أنّ الأحزاب السياسية خاصّة المعارضة للنظام السابق تعرف بتنوّع مقولاتها وانتماءاتها الإيديولوجية وهو ما يؤدّي إلي بعد إيجابي منتظر في المشهد الثقافي يحكمه الاختلاف والتنوّع والحوار وهذا أساس التطوّر والثراء وهو أيضا ما يدعو إلي القطع مع هيمنة الخطاب الواحد والنمطي، إنّ ارتباط السياسي بالثقافي يتطلّب مثقفين حاملين لرؤي ومشاريع انسانيّة، وخاطئة هي الفكرة القائلة بأنّ السياسة تقتل الإبداع فمن أروع التجارب في الأدب العالمي نجد بابلو نيرودا المناضل في الحزب الشيوعي الشيلي الحاصل علي جائزة نوبل 1971 عن مُجْمَلِ أعماله الشعريّة وكذلك خورخي أمادو الرّوائي البرازيلي العالمي وهو عضو الحزب الشيوعي البرازيلي وأغلب رواياته كتبت حول نضالات هذا الحزب.
@ الحركة التي نطمح إلي تكوينها هي حركة أدبيّة تنطلق أساسًا من الالتزام أي في اطار الصراع الموجود منذ القديم بين مقولة التغيير ومقولة التّبرير، ومقولة التّبرير، ومقولة « الأدب لتغيير الواقع لا الأدب للأدب » أو كما درج بالمنطق الكانطي «الفن للفن». هذه الحركة نطمح إلي أن تكون حاملة لمشروع ثقافي يثبت أنّ الأدب يمكن أن يوفق بين البعد الجمالي والبعد الاجتماعي من خلال المضمون الثوري طبعا وهذا لا يعني أنّ أعضاء الحركة متماهون بل يحكمهم الاختلاف في الرؤي ويجمعهم الإيمان بقدرة القلم الحرّ علي تغيير الواقع وأعتقد أنّ هذه الحركة ستكون تجربة جميلة ستشهدها الساحة الأدبيّة في الأيّام القادمة وأعتقد أيضا أنّها ستشارك بشكل فعّال في تطهير الساحة وكنس الأوساخ التي تراكمت في المشهد الثقافي.
نزار الحميدي:
سقطت الأنظمة ثقافيّا قبل سقوطها سياسيّا
عمدت الأحزاب السياسية إلي تهميش وتغييب «الثقافي في برامجها واستراتيجياتها المستقبلية ماهو دور النخب مستقبلاً باعتبارك شاعرًا؟
لا أري عمرًا طويلا لأحزاب سياسية لا تحمل مشروعا ثقافيا حقيقيّا وبديلا من المنظومة الثقافية السائدة في زمن ديكتاتورية الحزب الواحد والثقافة الرسميّة التي همشت مقولة التعددية الثقافية التي تنعش الرأي والرأي الآخر. إنّ اغلب الأحزاب السياسية ليست امتدادا لمشروع ثقافي تقدّمي وظلّ عنوانها الأول سياسيا يسعي إلي افتكاك موقع في زحام الكميات وفقر الأنواع والمطلوب اليوم هو أن يتقدّم المثقفون الوطنيون ببرنامج نقد ذاتي أصيل يستمدّ منطلقاته من لفت النظر إلي أنّ الثقافة لا تنتعش في أحضان الديكتاورية ولا تكتسب شعبيتها في ظلّ سيطرة ثقافة نخبوية متقطعة التزمت الحياد وتبنّت أدبيات مترفهة مفصولة عن الهم المشترك العام هذا إن لم تكن متنفسا للديكتاتورية. وقليل هم المثقفون الذين شكّلوا جبهة تصدّ للتهميش رافضة للتكلّس. لقد كان أغلب المثقفين العضويّين مطرودين من الحياة الثقافية والسياسية ومحاصرين ومطاردين، فلم يمسك يومًا بدواليب سياسية لأيّ حزب شاعرٌ أو سينمائيٌّ أو رجلُ مسرح.
لا أثق في عمل سياسي يعزل الثقافة. إنه في حقيقة الأمر معزول ثقافيا ولا يحمل ايديولوجيا ثورية قادرة علي تغيير الواقع والانتصار لقضايا الناس. إن اغلب الأحزاب السياسية الناشئة اليوم هي في الحقيقة امتداد للنظام القديم ولذلك فهي تُهمّش الكتّاب علي الطريقة البنعلينيّة، وهي كذلك تحدّد أجندتها الثقافية لأنّها رجعية في أطروحاتها وقد تناست ان الثّورة التونسية قد سُجّلت ثقافيا قبل ان تُسَجّل سياسيا. لا أنادي بأحزاب للمثقفين ولكنّني أدعو إلي إشراك المثقفين كتابًا وفنّانين وتشكيليين في الحياة السياسية وانتاج ثقافة من أجل الشعب وصياغة ثقافة الشارع الذي هو المحرار الحقيقي لأحوال المواطنين. لقد سقطت الأنظمة ثقافيا قبل ان تسقط سياسيّا وستولد ثقافيا قبل ان تولد سياسيا، لذلك علي النخب الثقافية التونسية ان تؤمّم العمل الثقافي وان تشرك الجميع في انتاج الثقافة وان تقطع مع رموز استمرار النظام القديم شكلا ومضمونا.
@ إنّ مقولة النخبة تحمل في دواخلها أدوات التدمير الذاتي وقد تكون آيلة للانفجار في أي لحظة والسؤال المطروح هو: عن أي نخبة نتحدّث؟ النخب الثقافية البورجوازيّة التي عمدت إلي إعلاء الثقافة إلي ما فوق والحال أنّ علي النخبة أن تنتج ما فوق والحال أنّ علي النخبة ان تنتج الما تحت النخبة المثقفة كانت معزولة ومحاصرة ولكن مقولة النخبة سقطت بعد لحظة الثّورة وتحطمت وسيُنتج الشعب ثقافته ونخبته، لا أري مشروعيّة لثقافة الأمس حتي وان ساهمت في تنوير المجتمع ومحاكاة أوجاعه، وعليه فإن الفرصة سانحة لانتاج ثقافة نخبة جديدة لا تتواطأ مع الانظمة ولا تنتج خطابا تبريريا أبدا، وما يبدو الآن في المشهد الثقافي هو تحيين النخب القديمة لشعاراتها مع المحافظة علي وجودها شكلا لذلك فإنّني أدعو إلي طرد الشاعر التونسي «الصغير أولاد أحمد» من لجنة الاصلاح السياسي» إن لم يطرد نفسه بنفسه وأرجو منه أن يلتحق مع بقيّة زملائه إلي لجان «الإصلاح الثقافي».
إن المطلوب اليوم هو إصلاح القطر ثقافيا فلماذا تتشبّث النخبة الثقافية بكونها زائدة دوديّة أو لاحقة صرفيّة تريد إصلاح البلاد سياسيّا، أليس هذا تأكيدًا علي دونيّة نخبنا ورمزيّتها الثقافية البائدة أوّلا.
@ لم يتسنّ لنا في ظلّ الحصار الثقافي أن نعلن مشروعا ثقافيا تام المعالم قابلاً للإنجاز ملبّيا لطموحاتنا بسبب قوي الردّة والرجعية والمؤامرات السياسيّة وقد تعلمنا من أخطائنا دروسًا لا تنسي وستحفظها هذه اللحظة الثورية. والتقي جمع من «الأدباء الشبّان» لمناقشة جملة البدائل الثقافية الجديدة ومن عناوينها تثوير البني الثقافية للمجتمع ومساءلة الرداءة في الاعمال الثقافية المنتَجَة والقطع مع الانتهازيّة الثقافية وانتاج مشروع نقد ذاتي ومبايعة مقولة الفن من أجل الناس ودعم حريّة الرأي وابداء الموقف وإعلاء شأن النقد الأدبي وتحرير سلطة السياسة علي الثقافة وتكريس تعددية ثقافية ونقد الأدب المحلي وانتاج وعي أدبي ملتحم بالواقع لا يقصي الجماليات ولكن يوجهها وجهتها الصحيحة وقد نشأ جدل ردّيٌّ حول مشروع تأسيس حركة فمنا من ناصر فكرة جمعية ونقدت الفكرة من منطلق أنّ الجمعية تنتمي إلي منظومة الضبط الاجتماعي الرسمي الذي يقيّد الحريات ويدعم تبعيتها للاجهزة الثقافية الرسمية ولكن مشروع الثقافة البديلة يتجسّد في حركة تعلن عن نفسها انطلاقا من تصادمها من الدارج الثقافي ومقولات الانتهازية الثقافية التي جرّنا اليها التضييق وضرب الفضاءات الثقافية الحرّة.
إن الحركة أُنتجت من قبل وَوُجدت فعلا ومارسناها ولم ننتبه إليها ولكن لما أردنا كتابة أدبياتها حدثت انفجارات كثيرة ردّيّةٌ سعت إلي مهاجمة الحركة بدعوي عدم التوافق الايديولوجي والانتهازية فانسحب البعض ودمّر المشروع الثقافي للحركة واقتصر الأمر علي «لجنة للأدباء الشّبّان» بدلاً من حركة لها طابع مطلبيّ فتأجّل الحلم حتي تُحقّقَ اللجنة التي تألّفت لتطالب بالشغل وتؤجّل البدائل!.
السيد التوي:
لماذا يحقد التونسي علي المثقف؟
يتناول هذا المقال بالدّرس موضوعا قديما جديدا وهو نظرة المجتمع إلي المثقف، كما يتنزل في إطار الجدل الذي أمسي حاضرا في المشهد السياسي في تونس وفي البلدان العربية عشية الانتفاضات الشعبيّة وما آلت إليه من تغيير في هرم السلطة وفي بعض ملامح المجتمع. ويدور هذا الجدل حول النموذج المجتمعي الذي يجب أن َتكون عليه مجتمعات الانتفاضة بعد أن تخلّصت حسب ما يعتقد البعض من سيطرة من كرّسوا بالقوة النّموذج القديم، والواقع أن الموضوع قيْد الدرس يقتضي تدبُّر مسألتين علي غاية غير قليلة من الأهمّية : أولاهما تتعلّق بضبط تعريف لكلمة المثقف والثانية تتصل بتحديد العلاقة بين المثقف والمجتمع .
إن أوّل ما يجب الانتباه إليه في تفهم هذا الموضوع هو النظرة الدونية التي أضحي يكنّها المجتمع العربي للمثقف. وقد استغلت بعض الأحزاب السياسية اليمينية المتلبّسة بالدّين استعارة ووسيلة لا منهجا وتصورا في إطار حملتها التعبويّة هذه النظرة، لأجل إقصاء خصومها السياسيين ممّن يدعون النضال من موقع الطبقة المسحوقة وفي إطارها أو ممّن يحملون مشروعا يزعمون كونه حداثيّا مستنيرا.
علي أنّ الإشكال الذي يجب فكّ جوانب التّعقيد فيه هو: هل المثقّف الذي يشار إليه بالبنان ويُوصَفُ بكونه يحمل خطابا لا صلة له بالجماهير هو مثقّف فعلا ؟ ومن هو المثقف الحقيقي ؟
المثقف من ثلاث منطلقات
يمكن أن نعرف المثقّف، من خلال ثلاث منطلقات : الأوّل أنثروبولوجيّ ويرتبط رأسا بفرضية وقع الاستدلال علي صحّتها وهي أنّ الثقافة نقيض للطّبيعة، وبالتّالي يكون كلّ إنسان مثقف بشكل أو بآخر، وليس خفيّا عن الدّارس الحصيف ما عليه هذا المنطلق من تعميم يتعذّر معه محاصرة مفهوم المثقّف في إطار السّياق الذي نتحدّث فيه.
أمّا المنطلق الثاني فيتّصل بعلم الاجتماع، ويحدّد أصحابه مفهوم الثّقافة باعتبارها الأخذ من كلّ شيء بطرف أيّ مجموع الخبرات المعرفية والمهاريّة والسلوكيّة التي تجعل الإنسان ناجعا علي مستوي فرديّ وجماعيّ، إلاّ أن هذا المنطلق علي ما فيه من تخصيص يبقي رهين تصوّر منفعيّ ضيّق يجعل المثقف يتعامل مع الواقع بما لديه من كفاءات دون سعي إلي تغييره.
ويصطبغ ثالث المنطلقات بالتاريخ، وهي صبغة تمكّن من تعريف المثقف من جهة علاقته بالواقع وفعله فيه، فالمثقف الحقيقي هو الذي يمتلك من الأدوات ما به يفهم الواقع وبناه المختلفة ومن ثمّة الوقوف علي مآزقه، ويخول له هذا الاقتدار الاقتراب من الحلول الكفيلة بتجاوز هذه المآزق، ويصطف المثقف بهذا المعني إلي جانب الطبقات المسحوقة وينخرط في النضال في دائرتها، لأن التمايز الطبقي المغلف بالأبعاد الميتافيزقيّة أو النظريّات الطبيعية هو المعضلة، بحلِّها تُحَلّ جميع مشاكل الأغلبية المستضعفة .
ولعلّ أهمّ الأدوات التي علي المثقّف امتلاكها هو الوعي التاريخي الجدلي، لأنه السبيل الأكثر نجاعة لتفهم مأساة المقهورين والمظلومين وخط النهج المفضي إلي تحررهم.
غير أن تعريف المثقف من هذه المنطلق لا يلغي المنطلقات الأخري بل يحتويها، مؤكدا علي وعي المثقف والتزامه، وليس من الفائدة القليلة الإشارة إلاّ أن هاتين الخصلتين قد تكونان في فضاءات متعدّدة: العلم، الفن، السياسة.
ومن الواضح أنّ المرجعية التي يعكسها هذا التعريف هي المرجعية الماركسية بمختلف تلويناتها، وتشكلاتها. ولا شك في أن ما قدمناه من تعريفات هو من قبيل الإشارات التي صغناها بطريقة تستجيب لغايتنا من هذا المقال.
حقد التونسيّ علي المثقف
قد يكون من قبيل الاستعارة الحديث عن حقد يحمله التونسي تجاه المثقف، لكنه من الثابت التنصيص علي القطيعة بينهما فالمثقف في نظر التونسي شخص يقول كلاما بعيدا عن همومه ومشاغله وهو إلي جانب ذلك ينتمي إلي الطبقة المحظوظة ويتشدق بدفاعه عن حقوق الإنسان وانتصاره للكادحين، وله صورة أخري لا تقل خطورة عما قبلها فهو ملحد متنكر للهوية ينتهي نضاله بخروجه من الحانة أو من قاعة السينما أو التياترو.
ويتّصف المثقف في عين التونسي بصفات أخري تجعله بعيدا عن اتّخاذه قدوة فهو فاشل اجتماعيا، لا تعكس مقولاته المبدئية سلوكه.
إنّها صورة تدور حول محورين: أوّلهما يقوم علي اعتبار المثقف منسلخا عن الطبقات المسحوقة من حيث الخطاب والسلوك. ثانيهما ينهض علي النظر إلي المثقف علي خلفيّة كونه شخصيّة مأزومة فاشلة اجتماعيا لا ترتقي إلي أن تكون مثالا يحتذي.
وقد ألصقت بالمثقفين صفات أكثر شناعة فهو يؤمن بالمثلية وماسوني، و من أزلام السابق، وفرنكفوني، وقد صار البعض مبدعا في نحت هذه التهم وصارت مجالا للتنافس والتّباري.
ولعلّ ما يبين حقيقة هذه النظرة الدّونية التي يحملها التونسي عن المثقف تشنجه في كل مرة يحاول فيه هؤلاء تقديم تصورهم في مسألة من مسائل الشأن العام سياسيا أو إجتماعيا أو فنيا، ويمكن أن نعتبر ما تعرّض إليه الكثير من السياسيين التقدميين والفنانين و المفكرين من مضايقات بلغت حد العنف، إضافة إلي العنف الرّمزي والمادّي الذي يمارس علي أنصار الفكر الحرّ من إقصاء دليلا علي ما تقدم.
والواقع أن هذا الموقف من المثقف ليس واحدا بين مختلف الشرائح وأنه قد يمارس علي غير التقدمين، إضافة إلي كونه لا يظهر بوضوح إلا في بعض الوضعيّات المشحونة بالصراع السياسي. مثل هذا القول يحملنا علي الإجابة عن السؤال الذي سبق أن طرحناه في مفتتح المقال. هل المثقف الذي يزدريه التونسي هو مثقف فعلا؟
إذا نظرنا إلي المثقف من حيث قدرته علي قراءة الواقع وتغييره لصالح الطبقة الكادحة وجماهير المهمّشين فإنّنا لا يمكن أن نصنّف من يتبنّون الأطروحات الليبرالية ومختلف التيارات اليسارية الإصلاحية بمثقفي الجماهير لأنهم يقفون في الصفّ المعادي لها ويسيرون في ذيل الانتهازيين وذلك رغم المجهود التوفيقي الذي كثيرا ما يعللونه بما هو مفروض عالميّا وقطريا، كذلك لا يمكن ان ننعت من يتبنون الفكر اليساري الراديكالي بمثقفي الجماهير لأنهم لو كانوا كذلك لتمكنوا من إيجاد الأدوات الكفيلة من الاقتراب منه ولَتَوَصّلُوا إلي معادلة تجمع بين الأهداف التكتيكية والاستراتيجية لطمأنة عموم المستضعفين أن مشروعهم إنما يهدف إلي تحررهم.
أمّا إذا تعرضنا إلي من ينتسبون إلي الثقافة شكلا فالمسألة تصبح أكثر وضوحا، فهل يمكن أن نعتبر كل من يهاجم الفكر الديني مثقفا وهل نعتبر كذلك من يلبس قبعة، ويطيل شعره، ويرتاد الحانات ويتأبط كتابا في كل وقت وحين، ويتمتم بعض الكلمات بالفرنسية، أو من يختزل أطروحات لا يكفي العمر مهما طال درسها في بعض الشعارات المكرورة التي فقدت من فرط استهلاكها مضمونها . إنّ التونسيين لم يزدروا مثقفين عضويين يتحركون في صفوفهم ثابتة أقدامهم في أرضية نظرية صلبة.إن التونسيين لم ينفروا مثقفين مكنتهم ثقافتهم من أن يكونوا دون خداع قدوة لهم. إن التونسيين لم يرفضوا مثقفين يراعون ما هم عليه من سوء فهم للدين والدنيا، إن التونسيين لم ينكروا مثقفين هم زمن الأزمة أول من يتقدم وآخر من يتراجع، لقد لفظ التونسيون مثقفين لا يتقنون إلا اتهامه بالجهل والتخلف، أو المزايدة عليه بالنضال.
اختزال المبادي في لباس
إنّه لمن المعقول دائما أن يدير التونسي ظهره لمن يختزلون مبادئهم في لباس أو سلوك معين، لمن ينفق في اليوم مقدار دخله الشهري في نزواته ثم يرفع عقيرته مناديا بالعدالة الاجتماعية، أو من يعلق شماعة فشله علي ما يحمله من مبادئ. إلاّ أنّ ما رددناه لا يعني عدم توفّر مثقفين يتحركون في صلب المضطهدين ومن أجلهم وفق تصورات ثاقبة، إنهم متوفّرون لكنهم لم يكوّنوا نواة قادرة علي الفعل في الواقع. إنهم موزعون علي أحزاب لو تخلّت عن الأبعاد الذاتية والتشويش النظري التي هي عليه واتّحدت لانتقلت من موقع التبرير إلي مواقع التغيير. وأقصد هنا أحزاب اليسار الراديكالي بتفريعاته، واتحادها ليس مجرد مقولة مثالية تستند إلي فهم بكائيّ للواقع وإنما هو مطمح ينبني علي قراءة نقدية معمقة لمختلف الأطروحات من منظور ثوري يفضي إلي تصور واحد لتغيير الواقع.
هكذا نتبيّن أنّ المثقف الذي ينظر إليه التونسي بحقد ليس مثقفا عضويّا إنما هو مثقف قاصر في فعله وانفعاله ، أما المثقفون العضويون فهم علي تفرقهم ما انفكوا يفتكون نظرة احترام من التونسي رغم كل محاولات التشويه من القوي الرجعية.
دور القوي الرّجعيّة
لقد ساهمت القوي الرجعية في تونس وفي الوطن العربي منذ الاستعمار في تشويه الفكر الحر ونخص بالذكر الفكر اليساري الراديكالي للدفاع عن مصالحها، وتأبيد الواقع الذي ترتضيه لنفسها، لقد اُتِّهِمَ أصحابه بالكفر والمروق، وفي أحسن الحالات بإفساد العقيدة، ألم تتهم فرنسا الزيتونيين المجدّدين بالبدع مؤيدة التيار المحافظ؟ أما بورقيبة فقد حصر الشيوعية في الإلحاد لصالح رؤية اشتراكية ممسوخة، ولقد ورث بن علي هذه الفلسفة وتفنن في نحت ملامحها واختزل التيارات اليسارية الراديكالية في كليشيهات أبعدتهم عن الجماهير فهم ملاحدة وروّاد صالونات وخطابهم ملغز بل هو طلسم يصعب فك شفرته، ثم بعد ذلك وفي فجر الانتفاضة الشعبية للشعب التونسي نهجت التيارات الإسلامية السَّمْت نفسه مدعمة بإرث من التفكير يتخلل تكتيكها السياسي اعتمدته عبر صراعها الطويل مع الفكر الحر، إننا نراها اليوم تحول بكياسة عجيبة مجال الصراع من الاقتصاد والسياسة إلي مجال العقيدة وما يلحق بها من «دوغما» الإقصاء والرفض. وقد نجحت هذه التيارات نجاحا باهرا فزادت من غربة المثقفين، وصار النضال ضدها مسألة عسيرة جدا.
وقد عوّلت مختلف الجهات المعادية للتيارات الماركسية الثورية منذ الاستعمار إلي الآن علي المكوّن العاطفي للجماهير وما ينطوي عليه من حنين إلي ماض يعوّض انكسارات الحاضر وخيباته، كما اتخذت من غياب الحسّ النقدي في صفوف الكادحين لتصوغ تصورا «ميتا-تاريخيّا» للتّراث، وتمكنت تدريجيا من التأسيس لمجموعة من « البراديغمات » تستجيب لمطامحها في احتكار حقيقة قراءة النّص وتأويله وشرعية توظيف التراث والاستفادة منه، ويمثل « براديغما » الهُويّة والشّريعة عماد هذا المسلك في التّضليل ومخادعة الجماهير.
ويتأكد هذا المنطق القائم علي احتقار عموم المستضعفين في ظل الجهل والأمية، وليس بخفي أن أغلب التونسيين يعانون من هاتين الآفتين، وحتي المتعلم منهم هو ضحية نظام تعليميّ درّبه علي كلّ شيء إلاّ علي الفكر النّقدي، ولم يعلّمه شيئا قدر تقديسه لغير المقدّس. لذلك لاغرو إن ألفيْنا رفضا للفكر الحر في هذه الأوساط.
جملة الأمر أن حقد التونسي علي المثقف يعود إلي عوامل متنوعة لعلها الإرث الذي كرسه ومازال يكرّسه أئمة الرجعية بشقيها الليبرالي الإسلامي والليبالي الحداثيّ إن صحّ التعبير.
جملة الأمر أن المثقف الذي يحقد عليه المواطن التونسي لا يستحق هذه الصفة لأنه علي مسافة من الجماهي، و لا يحسن التّواصل معها ولا يتقن فنّيات النضال في صفوفها، أما المثقف العضوي فهو علي ندرته يعيش مأساة تشتت الجهود حتي أن صوته يضيع في زحمة الأصوات، كما أنه يبذل مجهودا خرافيا للاقتراب من الجماهير لكن مجهوده يذهب أدراج الرياح في ظل الحملات الدعائية المضللة. ويعود هذا الوضع المأسوي إلي ثقافة أصلها الاستعمار ووكلاؤه لضرب أعدائه، وحتي إن وسعنا دائرة مفهوم المثقف العضوي ليشمل كل من ينخرط في روح العصر مؤمنا بقيم الحداثة فإننا لا نستطيع الابتعاد كثيرا عن المنطق الذي اعتمدناه في التحليل. إلاّ أنّ كلّ هذه الصّعوبات التي تعترض المثقفين وغيره من مناصري الفكر الحر لا يجب أن يثنينا علي مواصلة النضال لأن المعركة مع الرجعية بمختلف تنويعاتها طويلة جدا وما يبدو اليوم مفروضا وقسريا ولا مناص منه يكون في المستقبل سهل الاستئصال،ومن ثمة ما علي قصيري النفس إلا أن ينسحبوا.
صفاء متاع الله :
وزارة الثقافة علي خطوات »طبّالة« بن علي.. تسير
شهدت الساحة الثقافية في تونس منذ بداية شهر جانفي الجاري حراكا ثقافيا غير معهود شمل حتي دور الثقافة التي كانت تغطّ في سبات طيلة السنة. فنظّمت المهرجانات والأمسيات الشعرية والعروض المسرحية والسينمائية، كلّ هذا في إطار الاحتفال بالذكري الثانية للثورة. وستستمرّ هذه التظاهرات حتي نهاية الشهر الجاري. بعدها، ستعود أغلب دور الثقافة التي عوّدتنا بعملها الموسمي إلي «الركشة». وستتشدّق وزارة الثقافة بالاهتمام الكبير الذي أولته لهذه الذكري وللثقافة بصفة عامة. وسيعود بعض المثقفين الذين ساهموا في إحياء هذه الاحتفالات إلي أبراجهم العاجية التي لم يعرفوا طريق النزول منها حتي بعد فرار بن علي. وسيواكب بعض الشباب هذه التظاهرات ويتحدثون عنها قليلا ثم ينسون الأمر. أمّا أهالي الجهات المهمّشة ثقافيا والتي لم تنل من الاهتمام سوي ندوة نُظّْمت للبحث في التنمية الثقافية بين الجهات في شهر ديسمبر الماضي لن يتسنّي لهم حتي مواكبة هذه الاحتفالات. فركضهم وراء الخبزة أهمّ خاصة في هذه الظروف القاسية التي غلت فيها المعيشة إضافة إلي أنّه لا يوجد ما قد يجلب اهتمامهم، فهم تعوّدوا منذ عهد بن علي علي مثل هذه الاحتفالات والبهرجة التي تشبه إلي حدّ كبير قوقعة فارغة. وفي الحقيقة مثل هذه الأعراس الثقافية لأبرز مثال علي أنّ وزارة الثقافة لم تقطع مع عاداتها في العهد النوفمبري. فالاحتفالات تجري كما كانت شكلا مع فارق طفيف في المضمون المقدّم وأسماء الضيوف (الفارق هنا تكاد لا تلاحظه). والسؤال المطروح هو هل أنّ الثورة التي تقوم في بلد ما ولا تشمل الجانب الثقافيّ هي ثورة كاملة؟ طيلة سنتين سمعنا من تداولوا علي رئاسة الوزارة يتحدّثون عن ضرورة تقريب المنتج الثقافي من المتقبّل وهو الشعب وعلي ضرورة مدّ جسور التواصل بين الفنان والمواطن وعن التنمية الثقافية بين الجهات. كلّ هذا الحديث هو مجرّد قناع ليغطّي حبّ الركود الفكري لدي المسؤولين. فالمشاكل التي يتحدّثون عنها حقيقية وموجودة لكنّها تتطلّب عقولا مفكّرة ومسؤولة للخروج بالبلاد من هذه الأزمة. وهي تتطلب بحثا معمّقا وجدّيا عن الحلول العمليّة السريعة. وكان الأجدر بوزارة الثقافة في خطوة أولي نحو الحل إزاحة المسامير الصدئة التي تمخر الحياة الثقافية بالبلد والتي تضع ألف عائق وعائق أمام المثقف الحقيقي الذي ينشد التغيير ويطمح إلي بناء ثقافة بديلة وشعبية. كان الأجدر بها أن تزيل من ساهم في تخريب العمل الثقافي طيلة عقود ومن انخرط في منظومة النظام الفاسد السابق الذي دجّن الأجيال وأنتج مجتمعا استهلاكيا يعيش علي فتات النظريات الغربية الحديثة في العمل الثقافي. لكنّ السيد الوزير اختار مكافأتهم بمنحهم ترقيات إلي رتبة مندوب جهوي للثقافة وهو سبب اندلاع الحركات الاحتجاجية بوزارة الثقافة في السنة الماضية. ثمّ أما كان الأجدر من المسؤولين البحث عن طرق احتفالية جديدة يصل عمقها وصداها إلي كلّ مواطن علي أرض تونس؟ في العاصمة علي سبيل الذكر لا الحصر سنشهد تظاهرة ثقافية شبابية واحدة تقريبا في شارع الحبيب بورقيبة يوم 10 جانفي الجاري وستظمّ نخبة من الشباب أصحاب الرؤية الشعرية الجديدة ومجموعة من الموسيقيين بمساهمة بيت الشعر والمندوبية الجهوية للثقافة. وستحشر بقية التظاهرات بدور الثقافة والمراكز الثقافية. إنّ مثل هذه الندرة في التظاهرات الثقافية في الشارع لتعكس عجز الوزارة علي التعاطي مع هذا الشكل الجديد للتنظيم الذي يعتبر في بلدان أخري ركيزة أساسية للعمل علي نسج الخيط الرابط بين المثقف والمواطن. وبعيدا عن هذا الجوّ الاحتفالي الخانق نجد الوزارة تتخبّط في مشاكل أخري. فهي اليوم علي مشارف مواجهة غضب المترشحين لمناظرة انتداب كتبة ثقافيين جرّاء التأخر في الإعلان عن النتائج الذي من المفترض أن يكون في أواخر شهر ديسمبر الماضي. وقد تعمّدت الوزارة التعتيم والغموض وعدم الوضوح في هذا الملف حسب ما أفادنا به بعض المترشّحين. كما فشلت الوزارة في تحسين ظروف العمل داخل مؤسساتها في المناطق الداخلية وفشلت في حمايتهم من الاعتداءات بالعنف المتكررة علي غرار ما حصل في السنة الماضية بولاية سليانة أين تمّ الاعتداء علي مدير دار الثقافة من قبل أنصار حركة النهضة. وحتي في المهرجانات الاخيرة الخاصة بالطفل كانت أشبه بنسخ متعددة لشريط واحد حيث تكرّرت نفس العروض تقريبا في كافة المهرجانات.وحدهم الشباب الذين بصدد خلق حركات فنية ثقافية جديدة علي غرار بعض التشكيليين الذين تحدّث عنهم السيد كمال.... في دراسة له وأبناء الحركة الشعرية الجديدة هم بؤرة الضوء في هذا المجال حيث أثبتوا أنهم مستقبل البلاد وبدؤوا يستحوذون علي اهتمام النقاد العرب والغرب علي السواء. وانطلاقا من هذا الحراك الثقافي الشبابي الجديد الذي أخذ في النضج والاكتمال إضافة إلي ما تملكه تونس من طاقات فنية مبدعة ساهمت هي الأخري في نحت الملامح الثقافية في تونس التي لم ينجح بن علي ولا من أتوا بعده في طمسها، نري أنّ المثقف التونسي قد مازال يلعب دوره ويتقدّم خطوة تلو الأخري بينما مازالت وزارة الثقافة لم تتعلم المشي بعد. وفي النهاية، إنّ المواطن التونسي لا يريد شهرا بعينه في السنة ليري كل هذا النشاط والحيوية في دور الثقافة وغيرها من المراكز الثقافية. وهو لا يريد تنميقا لواقع يدركه جيّدا. المواطن التونسي اليوم يريد ثقافة تكون حصنا لأبنائه ودرعا فكريا لهم ينأي بهم عن السقوط في متاهات الظلام والرجعية. ويريد بكل اختصار وزارة ثقافة ثورية تتماشي مع متطلبات الواقع الثوري الذي تعيشه البلاد. وإلي أن يحتقق كلّ ذلك نقول كلّ عام والمبدع التونسي يكتب، يرسم، يغني من أجل ثقافة بديلة تعبر عن الشعب وتنطق باسمه.
عبد الفتاح بن حمودة
أمطار
مساء همست للعصفور الأخضر :
«ستمطر هذه الليلة « !
كانت السحابات السّوداء تتهادي فوق رؤوسنا ليلا،
بعد أن ابتلع البحر لسانه
أمطرت في «مسكلياني»(*1) كما لم يحدث من قبل
بعد منتصف ليل جوان المليء بصبايا الشمال الإفريقي،
أمطرت إلي حدّ مقرف...
بالنسبة إلي « إيكار»(*2) صغير مثلي،
احترقت أعصابي من كثرة الريش المتطاير،
آلاف الأشجار التي تكسرت أغصانها بلا شفقة...
سمعت عظام عصفور تطقطق ألف مرّة،
و سمعت أطفالا مقطوعي الأيدي يهتفون
تفوه، يا أمطار الصيف في «مسكلياني»!
أعقاب السجائر، أوراق كثيرة،
كؤوس القهوة، أقلام، قوارير ماء...
شعر امرأة يتطاير في»مسكلياني»
من أجل عصفور مبتلّ
راعية ماعز مسكينة لم تعثر علي أسنانها بعد...
لا شيء يخيف مثل مطر في مسكلياني...
وضعتُ الكلمات علي شفتيْ عصفور أخضر،
قال لا تلمسني... بينما النّجوم في كفّيه
نام العصفور بين نجمتين غامضتين،
ليكن أنّه أخذ نجمته الأخيرة و مضي...
بعد أن أخذ نجمته و علّقها مثل صليب،
همست له فجرا : لتحفظْكَ الآلهة يا لعنة مسكلياني !
نزار الحميدي
قبل أن يذهب الصبية
المترفون إلي المدرسة
اقتسام العالم
نتسلل في الليل مثل الحراذين بين المقابر
نفتح باب الزريبة
تتتتت نحن الرعاة الصغار
نؤجل خوف نباح الكلاب الذي يتصاعد،
شعب الظلال التي تتطاول
والقمر المتنكر
نختلس البيض تحت عيون الدجاجات والديكة
هكذا يبدأ الفجر في الريف تحت الجبل
ت
رحلة
نفيق صباحا
لندفن عصفورنا في رمال الحديقة
تحنو عليه قرنفلة كان بردان
حين نبشنا التراب
نفتش عن هيكل العظم أو ريشه
تلم نجده...
ربما طار أو ربما حمل النمل جثمانه إلي باطن الأرض...
بقينا وحيدين
والليل خيم.
ت
تحداثة
في الوسط الغربي :
المطمور الروماني الأشهب
والنبق البري
شجر الدفلي ينشج في مجري الماء
بعرات دهستها القطعان، بقايا لعب من تونس
...
لا شأن لأغنامي بشحوب العالم
والموسيقي الغربية
فلأغنامي موسيقاها
ت
بين الأكواخ المزروعة في أطراف الوادي
ولدت حملان الجدة.
تصباح
قبل أن يذهب الصبية المترفون إلي المدرسة
قبل أن يلتقي راعيان علي تلة
قبل أن تحضن الشمس بوابة البحر
وتحني المياه بأحمرها الشفوي
ألبس المدنية أخرج
مترعة حافلات الصباح بشعب من البدلات الأنيقة والعطر والأشقياء
امراة حامل في المحطة تنتظر الحافلة
وتؤجل رغبتها في الحياة .
ت
تآخر الليل، شارع باريس
قبل أن تشخر الحافلات الأخيرة في آخر الليل
يحصي المجرات فوق سطوحت المنازل
تلك الصحون الكبيرة
بيضاء تلك الصحون الكبيرة
تلك الصحون الكبيرة دائرة
ينتهي من مواعدة الجدران
يتفقد سحاب سرواله ت
ويؤجل فكرته
ثم يركض يركض حتي ينام علي درج الحافلة.
سهام العامري
شفاه علي جسد ثائر لشهادة امرأة تونسيّة
عفوا نساءَ بلادي، مالي من حطب صمتكنّ إلاّ قليل من الأسئلة أتمثل بها حزنا قد سئم شواطئ الهجر، ليقول بكونيّة صبره، إنّ الحقّ متي سُجن في أروقة نصوص النسيان يستحيل إلي حائط من البداهة، تُفقد الحقّ واقعيّته وتطمس تاريخيتهت!
في بلادي، قوانين ولوائح واتفاقيات وعهود وأعراف وبروتوكولات تُنتج للمرأة التونسية وطنا من الحقوق والحرّيات. هذه القوانين ذ المكتوبة ذ ما غادرت محرابا من النضال إلاّ وختمت علي الوجع أفقا حقوقيّا يحرّر تونسياتنا من قيود الظلم والاستبداد والاستعباد والاستخفاف، غير أنّه مع كلّ قانون يُضاف يُبني سجن من الأمنيات وتُسيّج للقلاع بداهات !
رمادية الملامح طقوسنا العربية في تعاطيها مع الظاهرة القانونية والحقوقية الملامسة لقضايا المرأة. ربّما هكذا انفلتت عيون الكلام وهي تُقرئ سلامها لفجر الثورة التونسية، من قبل ترانيم الرابع عشر من جانفي وعلي امتداد هذا الجبر الصاغي لأنين السنوات.
محسودة نساء بلادي عربيا ودوليا علي كمّ من القوانين كان قد مَنّ بها المشرّع التونسي ذ مشكورا ومأجورا ذ علي ابنته وزوجته ورفيقته وخليلته وأمّه وحبيبته... ليطمئنّ علي صمتها وليُطمئن العالم علي مهارة تلقيه لدروس الحداثة والتقدّم والتوازن النفسي وكيف أنّه بسرعة الضوء والذوق تصالح مع ذاته في أعلي وأسفل الهرم.
عفوا، رفيقة وجعي، لا تمتلك اللغة بيان هذه المفارقات التي استفاقت كفتنة ملعونة، تطارد أزقة الثورة متوسّلة إسقاط النظام الأسطولي المملوءة حقائبه بالخدع النصيّة وبشروط التناص الاجتماعي وبمواعيد الانتخابات.
ألم يحن لهذه النصوص، سيدتي، أن تترجل الواقع وترفض التخمة القانونية المفخّخة بكوابيس الإنجاز والحداثة والتغيير ! فلا أتعس أبدا من قبر النضالات. حين تري في وجه امرأة تُودّع في كفن ابنها الشهيد غيمتان :
غيمة تراقب من خلالها حقوقها القابعة في اللوائح والشعارات وكلّ الأمنيات مطر سيله عزم مخضّب بجفاء التراب، فحيث الرّسم نؤسّس الإنتظارات.
والغيمة الأخري المرتبكة الخطوات تناصر الرّفق من يسار ويمين ووسط الاتجاهات، بلا منّ أو سلوي أو أغنيات.
عفوا سيّدتي، لم يتسع المكان لدعائك بالخلاص لثورة وطن حاكم جلاّده الفار وفتح للجميع شهوة الانتصار علي مدن الضياع، إنّها ثورة أيقظت الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والثقافيين والاجتماعيين من غفلة الابتلاء بنظام استبدادي ورّط الوجود والقلوب والأسماء ونوالها جرعة الولاء ! وأنتِ يا سيّدتي علي ابتسامتك ممنوعة من الذكر أو النسيان.
فحين انتفضتِ في الحقول والشوارع والمقاهي والنوادي والجامعات والبيوت، كنتِ علي نعلك المُتعَب بالحكايات تتجاوزين العثرات، توزعين الخبز والشاي والماء والمأكولات ليلا، لتأمين لجان الأحياء المراقبين للفوضي والانفلات.
كنتِ سيّدتي أيام الثورة محرار المساحات المتحركة والثابتة للذود شرعا وحِلما عن المكتسبات، تثبّتين أعمدتها وترمّمين أمنياتها لمزيد البطولات.
لقد كنت سيّدتي علي ألمِكِ واضطهادك المؤدلج بالحقوق والتسميات تأخذين بيد الوطن مقبّلة جبينه الدامع، خائفة كنتِ علي رضيعك من تكرار الأخطاء وإعادة إنتاج الظلم والمغالطات.
خليلة الوطن ومرضعة الذكريات، متيّمة أنتِ بالغد الآتي، تركبين الأخطار وترفضين الصراخ حتّي لا يتوه خصر الزّيتون والرمّان، تمهّلي فاليوم وطن وغدا الوطن.
صبرا وليدة الآهات، سيتعلّم منك الزّمن آليات الفرز والامتحان وروعة المحن ! فلقد أدركتِ الدّموع هدفها الشاطئ وبتّ قاب قمرين من الحق.
اليوم سيّدتي وقد استأنس مَن استأنس بالمهام الموكولة للحكومة التونسية المنتخبة، اليوم وقد فزع مَن فزع لمشاكسات الواقع الاجتماعي والاقتصادي المتأزّم بالضغوطات والإعتصامات.
اليوم تحديدا تقولين للجميع أنّك شريك مُساو للرّجل في القمع والاضطهاد والسجن والاعتقالات، فلست أبدا قبل وأثناء وبعد الثورة جسدا للّذة أو حفريات للردّة وللشهوات، إنّك الأمر والفعل والحسرات.
سيّدتي، لم تُجهضُ ثورتنا التونسية، لأنّك كنت المِعول والقلم والورق والقلب والحجر والأمل وكلّ من يكتب عنكِ اليوم، يتمرّن علي الوطن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.